الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[البقرة: 177] ، فيتحدث عن (الماصدق) و (القياس الاقتراني) ويربطهما بالاية والحديث (1).
ثالثا: نماذج من تفسير الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله:
عند قوله تعالى في آخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 22 - 24] يقول: "لقد استوقفني طويلًا مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلًا لها وختامًا، وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثتُ طويلًا أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثرَ من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات، مما لا ينفذُ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي غليلًا في مجتمعاتنا الحديثة، أو يُذْهِبُ شُبَهَ المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها، فإذا بها تبدأ أولًا بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهو أمرٌ فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهدُهُ المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنونًا إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فكانوا موضع العبرة والعظة، ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين، يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار، وما كانوا عليه من أُخوَّة ومودة، ورحمة، وعطاء، وإيثار على النفس، ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدةٍ وإغراءٍ وتحريض ثم تَخَلٍّ عنهم وخذلانٍ لهم.
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين، حزب الرحمن، وحزب الشيطان، ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الجزءين ومنتهاهما وعدم
(1) المصدر السابق، 8/ 250 - 251.
استوائهما وفي ذلك تقرير المصير {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 20].
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معًا (عالم الغيب الشهادة، والملك القدوس، والسلام المهيمن) فنجدها مترابطة متلازمة، لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه
…
فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات: العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يُشْرِكُه أحدٌ في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وهنا وفي نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله، فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد، والبارئ: الموجِد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، والمصور: المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، والمهيمن: يُسَيِّرُ ما يوجِدُه على مقتضى ما يقدره، والمتكبر: الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق.
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم، وانتزاع الاعتراف والتسليم {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} وهو أعظم دليل كما تقدم
…
وهنا عودٌ على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه وآيات وحدانيته، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم" (1).
وعند قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] يقول: "قال الشيخ -رحمةُ الله تعالى علينا وعليه- في إملائه: (وهذا مثلٌ ضربه الله لليهود، وهو أنّه شبههم بحمار، وشبّه التوراة التي كلفوا العملَ بما فيها بأسفار، أي: كُتُبٍ جامعة للعلوم النافعة. وشبّه تكليفهم بالتوراة بحمل ذلك الحمار لتلك الأسفار، فكما أن الحمار لا ينتفع بتلك العلوم النافعة التي
(1) أضواء البيان، بتصرف، 8/ 75 - 78.
في تلك الكتب المحمولة على ظهره، كذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة، لأنهم كلفوا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار صفاته للناس فخانوا، وحرّفوا وبدّلوا فلم ينفعهم ما في كتابهم من العلوم) والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول كالبيت الذي فيه:
كالعيسِ في البيداء يقتلُها الظَّمَا
…
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ
والذي يظهر -والله أعلم- أنه من قبل التشبيه التمثيلي، لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتبًا نافعة، والحاملِ حمارًا لا علاقة له بها بخلاف ما في البيت، لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينه، وفيه إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كُلِّيَّةً أنهم وصلوا إلما حدّ الإلباس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل، فنقلها الله إلى قوم أحقَّ بها، وبالقيام بها" (1).
ورحم الله الشيخ عطية رحمةً واسع فجلُّ المفسرين الذين لهم عناية بالقضايا البيانية عَدُّوا التشبيه في هذه الآية الكريمة تشبيه تمثيل، وكذلك البيت الذي ذكره الشيخ رحمه الله وقال إنه من قبيل التشبيه المفرد وهو في الحقيقة تشبيه تمثيل كذلك.
وعند قوله تعالى في سورة الشرح {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} يقول: "ذكر تعالى هنا ثلاث مسائل: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر. وهي وإن كانت مُصَدَّرَةٌ بالاستفهام فهو استفهام تقريري لتقرير الإثبات، فقوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ} بمعنى: شرحنا على المبدأ المعروف من أن نفي النفي إثبات، وذلك لأن همزة الاستفهام
(1) المصدر السابق، 8/ 117 - 118.
وهي في معنى النفي دخلت على (لم) وهي للنفي، فترافعا فبقي الفعل مثبتًا، قالوا: ومثله قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. وقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] وعليه قول الشاعر:
ألستُم خيرَ مَن ركبَ المطايا
…
وأَنْدَى العالمينَ بطونَ راحِ
فتقرر بذلك أنه تعالى يُعَدِّد عليه نعمه العظمَى، وقد ذكرنا سابقًا ارتباط هذه السورة بالتي قبلها (الضحى) في تتمة نِعَم الله تعالى على رسوله" (1).
ذلكم هو تتمة تفسير الشيخ عطية رحمه الله وقد وجدنا أنه مع إجلاله لشيخه وبرّه به في زمن قد قل فيه الوفاء من التلميذ لشيخه، وهو أمرٌ يحمدُ الشيخ عليه، أقول: مع ذلك كله إلا أننا نجد للشيخ ميزات في تفسيره تختلف عما في تفسير شيخه، وهذه قضية تربوية تدل على أصالة التفكير عندنا. فإجلال التلميذ لشيخه لا يمنع من أن يخالفه في بعض القضايا، وأن يكون له اتجاه فيما كتب.
فرحم الله الشيخين رحمةً واسعة وجعل عملهما المبارك في ميزان أعمالهما إنه سميع مجيب.
(1) المصدر السابق، 8/ 572.