الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر" (1) وكان رضي الله عنه يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. فاتته بدر. وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم والعمل، قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة اثنتين وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر قال له: يوشك يا ابن أخي إن عشت إلى قريب أن يمر بالجنازة في السوق فيرفع الرجل رأسه فيقول: يا ليتني على أعوادها. قال: قلت تدري ما بهم؟ قال: على ما كان. قلت: إن ذلك بين يدي أمر عظيم؟ قال: أجل عظيم عظيم عظيم. (2)
" التعليق:
يعضد قول أبي ذر ويصدقه ما روى البخاري في كتاب الفتن من صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه". (3)
قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي والمنكر انتهى. (4) وليس هذا عاما في حق كل أحد وإنما هو خاص
(1) الترمذي (5/ 628 - 629/ 3802) وقال: "هذا حديث حسن غريب". الحاكم (3/ 342) وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ابن حبان (16/ 76/7132 الإحسان) وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(2)
الحاكم (4/ 447) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(3)
أحمد (2/ 236) والبخاري (13/ 93/7115) ومسلم (4/ 2231/157 [53]) وابن ماجه (2/ 1340/4037).
(4)
انظر شرح ابن بطال (10/ 58).
بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه في رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم:"لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء"(1). وذكر الرجل فيه للغالب وإلا فالمرأة يتصور فيها ذلك، والسبب في ذلك ما ذكر في رواية أبي حازم أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وبهذا جزم القرطبي، وذكره عياض احتمالا، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال: المراد بالدين هنا العبادة، والمعنى أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت في حالة ليس المتمرغ فيها من عادته وإنما الحامل عليه البلاء. وتعقبه الطيبي بأن حمل الدين على حقيقته أولى، أي ليس التمني والتمرغ لأمر أصابه من جهة الدين بل من جهة الدنيا.
وقال ابن عبد البر: ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا. وقد ذكره عياض احتمالا أيضا. وقال غيره: ليس بين هذا الخبر وحديث النهي عن تمني الموت معارضة، لأن النهي صريح وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار
(1) مسلم (4/ 2231/157 [54]).
عما سيقع. قلت: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: وليس به الدين إنما هو البلاء فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف. قال النووي: لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب وعيسى الغفاري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. ثم قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه "العبادة في الهرج كهجرة إلي" (1) ويؤخذ من قوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادا بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمني لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخف عند مشاهدة القبر والمقبور فيتذكر هول المقام فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دل على تأكد أمر تلك الشدة عنده حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر وتذكر ما فيه من الأهوال عن استمراره على تمني الموت.
وقد أخرج الحاكم من طريق أبي سلمة قال: عدت أبا هريرة فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: "اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمان الموت أحب إلى أحدهم من الذهب
(1) أحمد (5/ 25) ومسلم (4/ 2268/2948) والترمذي (4/ 424/2201) وابن ماجه (2/ 1319/3985).