الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ تصْريحِ الطَّلاقِ وغيره
وجملةُ ذلك أنَّ الطَّلاقَ لا يَقَعُ إلا بلَفْظٍ، فلو نَوَاهُ بقَلْبِه مِن غيرِ لفظٍ، لم يَقَعْ، فى قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيْدٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ويحيى بنُ أبى كَثِيرٍ، والشَّافعىُّ، وإسحاقُ. ورُوِىَ أيضًا عن القاسِمِ، وسالِمٍ، والحَسَنِ، والشَّعْبِىِّ. وقال الزُّهرِىُّ: إذا عزَمَ على ذلك طَلُقَتْ. وقال ابنُ سِيرينَ، فى من طَلَّقَ فى نفسِه: أليس قد عَلِمَه اللَّهُ. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ". رَوَاه النَّسائىُّ، والتِّرمذىُّ (1). وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّه تَصرُّف يُزيلُ المِلكَ، فلم يَحْصُلْ بالنِّيَّةِ كالبيعِ والهِبَةِ. وإن نَواهُ بقلبه، وأشارَ بأصابعِه، لم يَقعْ أيضًا؛ لما ذكَرْناه. إذا ثَبَتَ أنَّه يُعتبرُ فيه اللَّفظُ، فاللَّفظُ يَنْقسِمُ فيه إلى صريحٍ وكنايةٍ، فالصَّريحُ يقَعُ به الطَّلاقُ مِن غيرِ نِيَّةٍ، والكنايةُ لا يَقعُ بها الطَّلاقُ حتى يَنْوِيَه، أو يَأْتِىَ بما يَقومُ مقامَ نِيَّتِه.
1257 - مسألة؛ قال: (وإِذَا قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ قَدْ سَرَّحْتُكِ. لَزِمَهَا الطَّلَاقُ)
هذا يَقْتضِى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلاقِ ثلاثةُ ألفاظٍ؛ الطَّلاقُ، والفِراقُ، والسَّرَاحُ، وما تَصرَّفَ مِنهنَّ. وهذا مذهبُ الشَّافعىِّ. وذهبَ أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامدٍ، إلى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلاقِ لفظُ الطَّلاقِ وحدَه، وما تَصرَّفَ منه لا غيرُ. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، إلَّا أَنَّ مالكًا يُوقِعُ الطَّلاقَ به بغيرِ نِيَّةٍ؛ لأنَّ الكِناياتِ الظَّاهرةَ لا تَفْتقرُ عندَه إلى النِّيَّةِ. وحُجَّةُ هذا القولِ أنَّ لفظَ الفِراقِ والسَّراحِ يُسْتَعْملانِ فى غيرِ الطَّلاقِ كثيرًا، فلم يكونا
(1) تقدم تخريجه فى: 9/ 272، وانظر: 1/ 146.
صَرِيحيْنِ فيه كسائرِ كِنَاياتِه. ووَجْهُ الأوَّلِ أَنَّ هذه الألفاظَ ورد بها الكتابُ بمَعْنَى الفُرْقةِ بينَ الزَّوجينِ، فكانا صَرِيحينِ فيه، كلفظِ الطَّلاق، قال اللَّه تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1). وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (2). وقال سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (3). وقال سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (4). وقولُ ابنِ حامد أصَحُّ؛ فإنَّ الصَّريحَ فى الشَّىءِ ما كان نصا فيه، لا يَحْتمِلُ غيرَه، إلَّا احْتمالًا بعيدًا، ولفظةُ (5) الفراقِ والسَّراحِ إنْ ورَدا فى القرآنِ بمعنى الفُرقةِ بينَ الزَّوْجَيْنِ، فقد وردا (6) لغيرِ ذلك المعنى [فى القرآنِ](7) وفى العُرفِ كثيرًا، قال اللَّه تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (8). وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (9). فلا مَعْنَى لتَخْصِيصِه بفُرْقةِ (10) الطَّلاقِ، على أَنَّ قوله:{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (11). لم يُرِدْ به الطَّلاقَ، وإنَّما هو تَرْكُ ارْتجاعِها، وكذلك قولُه:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . ولا يَصِحُّ قياسُه على لفظِ الطَّلاقِ، فإنَّه مُخْتَصٌّ بذلك، سابِقٌ إلى الأفهامِ مِنْ غيرِ قرينةٍ ولا دَلالةٍ، بخلافِ الفِرَاقِ والسَّراحِ. فعلى كلا القولينِ، إذا قال: طلّقتُك، أو أنتِ طالقٌ، أو مُطلَّقةٌ. وقعَ الطَّلاقُ مِن غيرِ نِيَّةٍ. وإن قال (12): فارَقتُك. أو قال (13): أنتِ مُفارَقةٌ، أو سرَّحتُك،
(1) سورة البقرة 229.
(2)
سورة البقرة 231.
(3)
سورة النساء 130.
(4)
سورة الأحزاب 28.
(5)
فى أ: "ولفظ".
(6)
فى الأصل، أ:"وردت".
(7)
سقط من: ب، م.
(8)
سورة آل عمران 103.
(9)
سورة البينة 4.
(10)
فى الأصل، ب، م:"بفرق".
(11)
سورة الطلاق 2.
(12)
سقط من: الأصل، ب، م.
(13)
سقط من: أ.
أو أنتِ مُسَرَّحَةٌ. فمَنْ رَآهُ (14) صريحًا أوقعَ به الطَّلاقَ مِن غيرِ نِيَّةٍ، ومَن لم يَرَهُ صريحًا لم يُوقِعْه به، إلَّا أن يَنْوِيَه. فإن قال: أردتُ بقَوْلِى: فارقتُكِ أى بجسْمِى، أو بقلبى أو بمَذْهبِى، أو سَرَّحتُك منِ يَدِى، أو شُغْلِى، أو من حَبْسِى، أو أى سَرَّحْتُ شعرَك. قُبِلَ قولُه. وإن قال: أردتُ بقولى: أنت طالقٌ. أى مِن وَثاقِى. أو قال: أردتُ أن أقول: طلبتُك. فسَبَقَ لسانى، فقلتُ: طَلَّقْتُكِ. ونحو ذلك، دِينَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، فمتى عَلِمَ مِن نفسِه ذلك، لم يَقعْ عليه فيما بينَه وبين ربِّه. قال أبو بكرٍ: لا خِلافَ عن أبى عبدِ اللَّه، أنَّه إذا أرادَ أن يقولَ لزَوْجتِه: اسْقِينى ماءً. فسبقَ لسانُه فقال: أنتِ طالقٌ، أو أَنتِ حُرَّةٌ. أنَّه لا طلاقَ فيه. ونقلَ ابنُ منصورٍ عنه، أنَّه سُئِلَ عن رجلٍ حَلَفَ، فجَرى على لسانِه غيرُ ما فى قلِبه، فقال: أرْجُو أن يكونَ الأمرُ فيه واسعًا. وهل تُقبَلُ دعواه فى الحُكْمِ؟ يُنظَرُ؛ فإن كان فى حالِ الغضب، أو سُؤالِها الطَّلاقَ، لم يُقبَلْ فى الحُكمِ؛ لأنَّ (15) لَفْظَه ظاهرٌ فى الطَّلاقِ، وقَرينةُ حالِه تَدلُّ عليه، فكانت دَعْواه مُخالِفةً للظَّاهرِ من وجهيْنِ، فلا تُقبَلُ، وإن لم يَكُنْ فى هذه الحالِ، فظاهرُ كلامِ أحمدَ، فى روايةِ ابنِ منصورٍ، وأبى الحارثِ، أنَّه يُقبَلُ قولُه. وهو قولُ جابرِ (16) بنِ زيدٍ، والشَّعْبِىِّ، والحَكَمِ، حَكاه عنهم أبو حفصٍ؛ لأنَّه فسَّرَ كَلامَه بما يَحْتمِلُه احتمالًا غيرَ بعيدٍ، فقيل: كما لو (17) قال؛ أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ. وقال: أردتُ بالثَّانيةِ إفْهامَها. وقال القاضى: فيه روَايتانِ، هذه التى ذكرْنا، قال: وهى ظاهرُ كلامِ أحمدَ. والثَّانيةُ، لا يُقبَلُ. وهو مذهبُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه خلافُ ما يَقْتضيه الظَّاهرُ فى العُرفِ، فلم يُقبَلْ فى الحُكمِ، كما لو أقرَّ بعشرةٍ، ثم قال: زُيُوفًا، أو صِغارًا، أو إلى شهرٍ. فأمَّا إن صرَّحَ بذلك فى اللَّفظِ، فقال: طَلَّقتُك مِن وَثاقِى، أو فارقتُك بجسمِى، أو سرَّحتُك مِن يَدِى. فلا شكَّ فى أَنَّ الطَّلاقَ لا يَقعُ؛ لأنَّ ما يَتَّصِلُ بالكلامِ يَصْرِفُه عن مُقْتضاه،
(14) فى ب، م:"يراه".
(15)
فى النسخ: "لأنه".
(16)
سقط من: أ.
(17)
سقط من: ب، م.