الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني أهمية القواعد وأثرها في العلوم
مما لا شك فيه أن القواعد والأصول والكليات لا يكاد يخلو منها علم من العلوم، ولا فن من الفنون، وذلك لما لها من الأهمية العظيمة، والأثر الكبير في صياغة هذه العلوم، وسهولة حفظها وانتشارها، وخاصة القواعد المتعلقة بالتوحيد والشرك.
يقول الإمام ابن تيمية
(1)
: "فإن هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد وحسم مادة الشرك، والغلو، كلما تنوع بيانها، ووضحت عباراتها، كان ذلك نورًا على نور، والله المستعان"
(2)
.
وفيما يأتي أذكر بعض الأمور الدالة على هذه الأهمية العظيمة، والمكانة الجليلة، والأثر البالغ خاصة فيما يتعلق بقواعد التوحيد، وأصول العقيدة، وكليات الشريعة:
(1)
هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الدمشقي، الإمام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ الأصولي، أبو العباس تقي الدين، شيخ الإسلام، سيرته بلغت من الشهرة ما يكفي عن الكلام فيه، صاحب التصانيف الكثيرة والشهيرة، وهي أعظم دليل على عظيم باعه في العلم، وقوة فهمه، بلغ الغاية في الإمامة والفتوى والاجتهاد، المجاهد بلسانه وسنانه، وآية في الحفظ والاستنباط وقوة الذاكرة، مع تمسكه التام بالكتاب والسُّنَّة، وسيره على نهج سلف الأمة وتصانيفه كثيرة وقيمة منها: الإيمان، ودرء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السُّنَّة، وبيان تلبيس الجهمية، واقتضاء الصراط المستقيم، توفي رحمه الله سنة 728 هـ. [انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة: (2/ 387)، والبدر الطالع (1/ 63)].
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 313).
أ- أن هذه القواعد هي كليات اشتملت على مسائل جزئية، وفروع عديدة، فهي بذلك تجمع الكم الكثير من المسائل تحت مبنى القاعدة ذات الكلمات القليلة، والعبارات المختصرة، والألفاظ المقتضبة، وهذه هي صفة النصوص الشرعية التي استخلصت منها القواعد الشرعية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم كما أخبر عن نفسه في قوله صلى الله عليه وسلم:"وبعثت بجوامع الكلم"
(1)
، فكلامه صلى الله عليه وسلم تضمن المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وفي هذا حث على التفهم والاستنباط
(2)
.
وهكذا سائر نصوص الشريعة سواء كانت من القرآن أو من السُّنَّة عباراتها موجزة، على هيئة الكليات المتضمنة للجزئيات والمسائل.
يقول الإمام ابن تيمية: "فإن الله سبحانه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة، كلية عامة لما كان متفرقًا منتشرًا في كلام غيره"
(3)
.
فهو صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كليه، وقاعدة عامة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، بل هي عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه ومكانه أو لم تكن
(4)
.
يقول الإمام ابن القيم: "وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم، ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم، مع قصور بيانهم، فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي
(1)
قطعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"(3/ 1087)، برقم (2815)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد (1/ 371)، برقم (523).
(2)
انظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 349).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 133).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (19/ 280)، و (34/ 205).
بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة، وقضية كلية، تجمع أنواعًا وأفرادًا، وتدل دلالتين؛ دلالة طرد ودلالة عكس
(1)
"
(2)
.
ويقول الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب
(3)
: "ومن أعظم ما منَّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته إعطاء جوامع الكلم، فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خصه الله بالحكمة الجامعة، ومن فهم هذه المسألة فهمًا جيدًا فهم قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وهذه الكلمة أيضًا من جوامع الكلم؛ إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
…
"
(4)
.
(1)
ينقسم القياس إلى قياس طرد وقياس عكس: فقياس الطرد: هو ما اقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه، وقياس العكس: هو ما اقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه. يقول ابن تيمية رحمه الله: "وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يُعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم (قياس الطرد) فيتقي تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة"، [مجموع الفتاوى (9/ 239).
ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك (قياس العكس).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 333).
(3)
شيخ الإسلام الإمام المجدد المصلح محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي، أبو عبد الله، ولد عام 1115 هـ بالعيينة من بلاد نجد، ورحل إلى المدينة ومكة والعراق وغيرها، كان من المجددين للدعوة السلفية في الجزيرة العربية بمساعدة الأمير محمد بن سعود، ولا زالت آثار دعوته المباركة لا ينكرها إلا أهل مغرور أو حاقد قتله الحسد، له مصنفات كثيرة ونافعة؛ منها كتاب التوحيد وهو أعظمها، وكشف الشبهات والأصول الثلاثة، وغيرها من الكتب التي لا يستغني عنها أحد، توفي رحمه الله عام 1206 هـ. [نظر ترجمته في: روضة الأفكار (1/ 25 - 26)، عنوان المجد (1/ 89 - 96)، وعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، لمعاني الشيخ صالح العبود (ص 65 - 152)].
(4)
أربع قواعد تدور الأحكام عليها، للإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 10).
وبذلك تظهر أهمية القواعد وأثرها في حفظ العلوم وأهمية إتقانها وفهمها والقياس عليها، وتفريع المسائل الجزئية منها.
فإن من ضبط القواعد والكليات استغنى بها عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، وانضبط في ذهنه ما تناقض عند غيره، وحصل مقصوده في أقرب وقت وأقصر زمان
(1)
.
ب - سبق بيان أن قواعد التوحيد والعقيدة منها ما هو من قواعد الدين وأصوله؛ كالإيمان بالله ورسوله وباليوم الآخر، ومنها ما هو من فروعه الواجبة التي هى من مكملات تلك الأصول والكليات، وعليه فإن معرفة تلك القواعد وما ينبني عليها هي من أصول الدين، وأسس العقيدة، إذ بدون تحقيق هذه القواعد الأصلية معرفة واعتقادًا وقولًا وعملًا لا يستقيم إسلام، ولا يتم إيمان، وقد يخرج من الدين باعتقاده لنقيض تلك الأصول العظيمة، والقواعد الكبيرة، ويكفي هذا في الدلالة على أهمية هذه القواعد العقدية، وضرورة الحرص عليها واعتقادها وتعلمها والعمل بها والدعوة إليها كما فعل أئمة الإسلام.
يقول الإمام الشاطبي: "اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولًا، والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة كُمِّلَت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة، وإنفاق المال، وغير ذلك، ونهي عن كل ما هو كفر، أو تابع للكفر؛ كالافتراءات التي افتروها؛ من الذبح لغير الله، وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها؛ كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد، وأخذ العفو والإعراض عن
(1)
انظر: الفروق، للقرافي (1/ 7).
الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر، والشكر، ونحوها، ونهي عن مساوئ الأخلاق؛ من الفحشاء والمنكر والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض والزنا، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرًا في دين الجاهلية، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر"
(1)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
(2)
فيما وضعه جده الإمام من القواعد والمسائل: "والجهل بما فيها من الأصول هلاك وضلال؛ فلا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما تضمنته هذه الأصول والقواعد"
(3)
.
ج - ومما يدل على أهمية القواعد في جميع العلوم أنها تضبط الأمور المنتشرة الكثيرة، وتجمع النظائر والأشباه، فتعرف الصفات الجامعة بين الجزئيات المتعددة، وعن طريقها يحصل التفريق بين المسائل المتشابهة.
(1)
الموافقات (3/ 102 - 103).
(2)
هو: الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهَّامة، مفيد الطالبين، مرجع الفقهاء، العام الرَّباني، والمجدد الثاني، الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي، ولد عام 1196 هـ بالدرعية، قرأ على جده كتاب التوحيد، وآداب المشي إلى الصلاة وحضر عليه مجالس كثيرة، عمل على نشر الدعوة السلفية، وانتهت إليه رئاسة علماء نجد، وتخرج به خلائق كثيرون، منهم: ابناه: الشيخ عبد اللطيف، والشيخ إسماعيل، وكذلك الشيخ صالح الشثري، وخلق كثير، له مصنفات منها: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، وقرة عيون الموحدين، وغيرها، توفي رحمه الله في سنة 285 اهـ. [انظر ترجمته: مقدمة فتح المجيد نقلًا عن عنوان المجد لابن بشر].
(3)
الدر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 365)، وليس قصد الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجهل بذات القواعد التي وضعها الشيخ بحروفها وألفاظها، وإنما المقصود الجهل بتوحيده سبحانه وتعالى، وعدم العلم بأصول هذا التوحيد وقواعده.
يقول ابن رجب
(1)
في مقدمة كتاب "القواعد": "فهذه قواعد مهمة، وفوائد جمة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تَغَيَّب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد"
(2)
.
ويقول الشيخ السعدي
(3)
: "ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار، لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبني عليها الفروع، والفروع تثبت وتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماءً مطردًا، وبها تُعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيرًا، كما أنها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جمعها، ولها من الفوائد الكثيرة غير ما ذكرنا"
(4)
.
(1)
هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي الدمشقي الفقيه، الزاهد البارع الأصولي المحدث. له مصنفات كثيرة منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لم يكمله، وذيل طبقات الحنابلة، والقواعد الفقهية، وجامع العلوم والحكم، توفي سنة 795 هـ. [انظر ترجمته في: شذرات الذهب (6/ 339)، والجوهر المنضد (ص 46)].
(2)
القواعد، لابن رجب (ص 3).
(3)
هو: العلامة الورع الزاهد، الفقيه الأصولي المحقق المدقق الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي. من نواصر بني تميم، من بني عمرو أحد البطون الكبار من قبيلة بني تميم الشهيرة، من مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، والدرة البهية في شرح القصيدة ناصر بن حمد آل سعدي. من نواصر بني تميم، من بني عمرو أحد البطون الكبار من قبيلة بني تميم الشهيرة، من مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، والدرة البهية في شرح القصيدة التائية، وتوضيح الكافية الشافية، وغيرها، توفي رحمه الله عام 1376 هـ. [انظر ترجمته في: علماء نجد خلال ستة قرون، للبسام (2/ 422)، و (الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة): للأستاذ الدكتور عبد الرزاق البدر.
(4)
طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول، للعلامة السعدي (ص 5 - 6)، دار الآثار - صنعاء، ودار البصرة - الإسكندرية.
ويقول أيضًا: "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها: أنَّ أحكامَها الأصوليَّة والفروعية، والعبادات والمعاملات، وأمورها كلّها لها أصولٌ وقواعدُ، تَضبِطُ أحكامَها، وتَجمعُ مُتفرِّقَها، وتَنشر فروعَها، وتَردُّها إلى أصولها، فهي مبنية على الحكمة والصلاح، والهدى والرحمة، والخير والعدل، ونفي أضداد ذلك"
(1)
.
"ولهذا فإنَّه يترتَّب على العناية بالقواعد المأثورة والأصول الكليّة المنقولة عن السلف الصالح رحمهم الله من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلّا اللَّه؛ لأنَّ فيها كما يقال: وضعُ النقاط على الحروف، وفيها تجليةٌ للأُمور، وتوضيحٌ للمسائل، وإزالةٌ للّبْس، وأَمْنٌ من الخَلْط، إلى غير ذلك من الفوائد"
(2)
.
د - ومما يدل على أهمية القواعد والأصول: أنها تقي المسلم بإذن اللَّه من الانحراف والزلل، وتجعله ينظر إلى الأقوال والأعمال والأعيان بتأنٍ وتؤده، وبها يكون كلامه مبنيًا على علمٍ متينٍ وعدل وإنصافٍ.
ولذا يقول الإمام ابن تيمية: "لا بُدَّ أنْ يكون مع الإنسان أصولٌ كليّةٌ تُردُّ إليها الجزئيّات، ليتكلّم بعلمِ وعدل، ثمّ يعرف الجزئيّات كيف وقعت، وإلّا فيبقى في كذب وجهلٍ في الجزئيّات، وجهلٍ وظُلمٍ في الكليّات فيتولّد فساد عظيمٌ"
(3)
.
(1)
الرياض الناضرة، للسعدي (ص 522)، ضمن المجموع الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي، المجلد الأول/ ثقافة إسلامية.
(2)
انظر: الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء، للأستاذ الدكتور/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، ضمن: مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (111)(ص 35).
(3)
مجموع الفتاوى (19/ 203).