الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد في أحوال التوجه والاستقبال:
الناظر في كتب أهل العلم رحمهم الله يجد أنهم قسموا التوجه والاستقبال إلى أقسام شتى، وفيما يلي أذكر ما وقفت عليه من تلك الأقسام مع بيان أمثلتها وأقوال أهل العلم فيها، فأقول وبالله التوفيق:
لقد تكلم أهل العلم في طبيعة التوجه والاستقبال الذي يقارن أحوال الإنسان سواء كانت عبادة أو عادة، وذكروا أنه على أحوال:
أولًا الذي يتصور من التوجه والاستقبال في الشرع أنه إما يكون إلى جهة القبلة -وهي الكعبة
(1)
-، أو أن يكون إلى غير جهة الكعبة، فإن كان إلى جهة القبلة؛ فله ثلاثة أحوال:
الأول: استقبال واجب في حال العلم بجهة القبلة، وحال الاستطاعة، والأمن، وحالة الحضر والإقامة؛ كاستقبال المصلي للقبلة في الصلاة، ويخرج بذلك صلاة الجاهل بجهة القبلة، فإنَّه يصلي حسب اجتهاده وإن كان هو في الواقع لم يصب القبلة
(2)
، وكذا صلاة الخائف،
(1)
القبلة في اللغة هي الجهة، فقبلة الشيء؛ أي: جهته، ولكنها صارت في الشرع لا يفهم منها سوى الكعبة، يصلى إليها. قال الهروي: إنما سميت قبلة؛ لأن المصلى يقابلها وتقابله، ونقل الإمام ابن عبد البر الإجماع على أن القبلة التي أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم، وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة؛ البيت الحرام بمكة. [انظر: تاج العروس (30/ 207)، والاستذكار (2/ 455)، وإعانة الطالبين (1/ 123)، وتهذيب الأسماء واللغات (3/ 259)].
(2)
والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه عند الترمذي (2/ 176)، رقم (345)، قال:(كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115])، وجاء عند الدارقطني عن جابر (1/ 271)، باب: الاجتهاد في القبلة وجواز التحري في ذلك، حديث رقم (4)، وفيه زيادة:(فلم يأمرنا بالإعادة وقال قد أجزأت صلاتكم)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله. [انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 323)، رقم (291)، وانظر: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (1/ 72)].
فلا يجب عليه استقبال القبلة لعدم أمنه، وكذلك صلاة المسافر للنافلة فقد رُخِّص له في عدم استقبالها مراعاة للمشقة أثناء السفر
(1)
.
يقول الإمام ابن قدامة
(2)
بعد نقله لكلام الخرقي
(3)
: "ولا يصلى في غير هاتين الحالتين -أي: حالة الخوف وحالة السفر- فرضًا ولا نافلة إلا متوجهًا إلى الكعبة": "قد ذكرنا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ولا فرق
(4)
بين الفريضة والنافلة؛ لأنَّه شرط للصلاة، فاستوى فيه الفرض والنفل؛ كالطهارة والستارة؛ ولأن قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] عام فيهما جميعًا"
(5)
.
وقال الإمام ابن عبد البر: "فالواجب أن لا يصلي إلى غير القبلة إلا في الحال التي وردت بها السُّنَّة لا تتعدى"
(6)
.
(1)
انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة الكسوف، باب: صلاة التطوع على الدواب وحيثما توجهت به (1/ 370)، رقم (1043)، وانظر: صحيح مسلم (1/ 384)، رقم (540)، وسنن النسائي (2/ 61)، رقم (744).
(2)
هو: عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الدمشقي، موفق الدين، أبو محمد، أحد كبار الحنابلة في عصره، ولد عام 541 هـ، قال الذهبي:"أحد الأئمة الأعلام"، وقال ابن كثير:"شيخ الإسلام، إمام عالم بارع"، له مصنفات نافعة منها: المغني، والكافي، والمقنع، وروضة الناظر، توفي عام 620 هـ. [ترجمته في: سير أعلام النبلاء (22/ 165 - 173)، وشذرات الذهب (5/ 88 - 92)].
(3)
هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي، أحد أئمة المذهب الحنبلي كان عالمًا بارعًا في المذهب، وكان ذا دين وورع، من مصنفاته المختصر الفقهي الذي شرحه جماعة من العلماء، منهم ابن قدامة في كتابه "المغني" توفي سنة 334 هـ. [ترجمته في: طبقات الحنابلة (2/ 75)].
(4)
الفروق بين الفريضة والنافلة كثيرة ومتعددة، ولكن قصد المصنف التفريق بين الفريضة والنافلة من حيث استقبال القبلة حالة السفر، فتجوز صلاة النافلة للمسافر على الراحلة إلى غير جهة القبلة، أما الفريضة فيجب عليه استقبال القبلة فيها.
(5)
المغني لابن قدامة المقدسي (1/ 262)، وانظر: التمهيد لابن عبد البر (15/ 320) و (17/ 72)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 78).
(6)
التمهيد لابن عبد البر (17/ 77)، وانظر: شرح العمدة لابن تيمية (4/ 521).
فإذا توسط بين المصلي والقبلة شيء، بحيث تكون القبلة هي المقصودة في الأصل، ولكنه جعل شيئًا بينه وبين جهة القبلة، فهذه فيها تفصيل؛ إذ الأصل في استقبال الأشياء الإباحة ما دام المصلي متوجهًا إلى القبلة، وقاصدًا لها، ولكن قد يختلف الحكم في بعض الصور:
الأولى: أن يكون الشيء الذي بين المصلي والقبلة مما نهي عن استقباله حال الصلاة؛ وإن لم يقصد المصلي استقباله؛ كاستقبال النار
(1)
، والقبر
(2)
، والأصنام، والتصاوير
(3)
؛ لكونها هيئة فيها مشابهة المشركين، وكذا استقبال الأماكن النجسة، والمستقذرة؛ كالحش والمجزرة، والطريق
(4)
وجميع ما يشوش فكر المصلي، فكل هذه الأشياء مما نهي عن استقبالها حال الصلاة سواء بقصد أو بدون قصد
(5)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة
(1)
لما في ذلك من التشبه بالمجوس عبدة النار، وقد نهينا عن التشبه بالمشركين، قال الإمام ابن قدامة:"ويكره أن يصلي إلى نار قال أحمد: إذا كان التنور في قبلته لا يصلي إليه، وكره ابن سيرين ذلك، وقال أحمد في السراج والقنديل يكون في القبلة: أكرهه وأكره كل شيء، حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئًا في القبلة حتى المصحف، وإنما كره ذلك؛ لأن النار تعبد من دون الله فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها". [المغني (2/ 39)].
(2)
الصلاة إلى القبر لا تجوز بدليل حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها"، هذا لفظ مسلم (2/ 668)، رقم (972)، [وانظر: أضواء البيان (2/ 298)].
(3)
دل على عدم جواز استقبال الأصنام والتصاوير ما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي". [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك (1/ 147)، رقم (367)].
(4)
قياسًا على منع استقبال القبلة بغائط أو بول، فكيف إذا كانت القبلة مكانًا للنجاسة والقاذورات، ولأن قارعة الطريق، والمجزرة، والمزبلة، مظان للنجاسة، أشبهت الحش والحمام. [انظر: الكافي في فقه الإمام أحمد لابن قدامة (1/ 110)].
(5)
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (4/ 76).
حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور، ففي الصحيح أنه قال:"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"
(1)
، إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين، الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله .. والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها"
(2)
.
ويقول رحمه الله: "ولأن الصور قد تعبد من دون الله، وفيها مضاهاة لخلق الله، فالصلاة عندها تشبه بمن يعبدها ويعظمها، لا سيما إن كانت الصورة في جهة القبلة، فإن السجود إلى جهتها يشبه السجود لغير الله"
(3)
.
ويقول أيضًا: "فينبغي للمصلي أن يتجنب استقبال الأمكنة الخبيثة، والمواضع الردية، ألا ترى أنا نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، فكيف إذا كان البول والغائط والشياطين ومواضع ذلك في القبلة وقت الصلاة"
(4)
.
الثانية: أن يكون الشيء الذي بين المصلي والقبلة مما أمر به ورغب فيه؛ كوضع السترة للصلاة إليها؛ لكون ذلك علامة على موضع سجوده، فيمتنع المارة من المرور فيما بينه وبين القبلة
(5)
؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي
(6)
رضي الله عنه قال: (كان بين
(1)
سبق تخريجه قريبًا انظر: (ص 291).
(2)
الجواب الصحيح (1/ 349)، وانظر: منهاج السُّنَّة (2/ 439)، وإعلام الموقعين (2/ 366).
(3)
شرح العمدة (4/ 505).
(4)
المصدر نفسه (4/ 481).
(5)
انظر: الموسوعة الفقهية (4/ 75 - 76)
(6)
هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري الساعدي من مشاهير الصحابة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، مات سنة إحدى وتسعين، وقيل: قبل ذلك، وقد بلغ مائة سنة، ويقال: إنه آخر من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكي عنه أنه قال: لو مت لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 200)، والاستيعاب (2/ 665)].
مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة)
(1)
.
الثاني: استقبال مستحب؛ كاستقبال القبلة حال الدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، وانتظار الصلاة في المصلى، وحال الوضوء والتيمم، وقد يقال بأن جميع الهيئات والأحوال التي لم يرد فيها أمر بوجوب الاستقبال، أو نهي عنه، فإنَّه يستحب فيها الاستقبال؛ لعموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سيدًا وإن سيد المجالس قبالة القبلة"
(2)
.
يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "فإن القبلة على كل حال يستحب استقبالها بالأعمال التي يراد بها الله عز وجل تبركًا بذلك، واتباعًا للسُّنَّة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا" الحديث"
(3)
.
ولذا قال المناوي في معنى حديث: "أكرم المجالس": "فيُسن استقبالها في الجلوس للعبادات، سيما الدعاء، وأخذ منه النووي وغيره أنه يُسن للمدرس ونحوه أن يستقبل عند التدريس القبلة إن أمكن"
(4)
.
يقول الإمام النووي في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "فيه استحباب استقبالها للدعاء، ويلحق به الوضوء، والغسل، والتيمم، والقراءة، والأذكار، والأذان، وسائر الطاعات، إلا ما خرج بدليل كالخطبة"
(5)
.
ومن أهل العلم من عارض هذا التعميم، وجزم بعدم شرعية ذلك، وأنه لا يسن للإنسان أن يستقبل القبلة حالة العبادة إلا ما ورد الدليل
(1)
صحيح مسلم، كتاب الصالة، باب دنو المصلي من السترة (1/ 364)، رقم (508).
(2)
المعجم الأوسط (3/ 25)، رقم (2354)، والترغيب والترهيب للمنذري (4/ 29)، رقم (4663) وحسنه، ومجمع الزائد للهيثمي وحسنه (8/ 59)، وذكر له الشيخ الألباني شاهدًا عن ابن عباس. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 300 - 301)، رقم (2645).
(3)
الاستذكار (4/ 246).
(4)
فيض القدير (2/ 90).
(5)
شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 189).
بمشروعيته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على الطاعة، وأحرصهم على تبليغ جميع ما يتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى.
يقول الشيخ العثيمين في جواب سؤال عن مشروعية استقبال القبلة حال الوضوء، فأجاب بقوله:"ذكر بعض الفقهاء أنه يستحب استقبال القبلة حال الوضوء، وعلل ذلك بأنه عبادة، وأن العبادة كما يتوجه الإنسان فيها بقلبه إلى الله فينبغي للإنسان أن يتوجه بجسمه إلى بيت الله، حتى أن بعضهم قال: إن هذا متوجه في كل عبادة إلا لدليل، ولكن الذي يظهر لي من السُّنَّة أنه لا يُسن أن يتقصد استقبال القبلة عند الوضوء؛ لأن استقبال القبلة عبادة، ولو كان هذا مشروعًا لكان نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يشرعه لأمته؛ إما بفعله، وإما بقوله، ولا أعلم إلى ساعتي هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقصد استقبال القبلة عند وضوئه"
(1)
.
لكن في حال الأذان فالواجب استقبال القبلة، وقد نقل الإمام ابن المنذر
(2)
الإجماع على ذلك بقوله: "وأجمعوا على أن من السُّنَّة أن تستقبل القبلة بالأذان"
(3)
.
وذلك لأن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلين القبلة، ولما تضمنه من الذكر ولكونه فيه نوع مناجاة
(4)
.
ويقول الإمام العيني
(5)
في علة التنصيص على الاستقبال في
(1)
فتاوى نور على الدرب، شريط كاسيت برقم (243) الوجه (أ).
(2)
هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر الإمام أبو بكر النيسابوري، نزيل مكة، أحد أعلام هذه الأمة وعلمائها، كان إمامًا، مجتهدًا، حافظًا، ورعًا، وله التصانيف المفيدة السائرة" منها: كتاب الأوسط، وكتاب الإشراف في اختلاف العلماء، وكتاب الإجماع، والتفسير، وكتاب السُنن والإجماع والاختلاف، قال الذهبي:"كان على نهاية من معرفة الحديث والاختلاف، وكان مجتهدًا لا يقلد أحدًا". [انظر: تاريخ الإسلام (23/ 568)، وطبقات الشافعية (3/ 102)].
(3)
الإجماع لابن المنذر (ص 36).
(4)
انظر: كشاف القناع (1/ 239).
(5)
هو: محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين البدر الحلبي الأصل، القاهري =
قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا": "بيانه أنه أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله: "من صلى صلاتنا"، مع كونه داخلًا فيها؛ لأنه من شرائطها؛ وذلك للتنبيه على تعظيم شأن القبلة، وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك على ما لا يخفى"
(1)
.
وصرح بذلك الإمام ابن مفلح
(2)
بقوله: "وهو متجه -أي: استحباب الاستقبال- في كل طاعة إلا لدليل"
(3)
.
ويقول الإمام الشوكاني: "أقول وجه ذلك أنها الجهة -أي: القبلة- التي يتوجه إليها العابدون لله سبحانه، والداعون له، والمتقربون إليه، وقد ورد ما يرغب في ذلك على العموم كما أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سيدًا وإن سيد المجالس قبالة القبلة""
(4)
.
والذي يترجح أنه لا يتعبد باستقبال إلا ما ورد في الشرع استحبابه ومشروعيته، وأما ما لم يرد فيه دليل خاص باستحباب استقباله فلا يتقصد لذلك، والله أعلم.
= الحنفي، المعروف بالعيني، ولد سنة 762 هـ، وبرع في كثير من العلوم، وتولى القضاء ثم تركه ولزم بيته مقبلًا على الجمع والتصنيف، من تصانيفه: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، وَشَرَحَ معاني الآثار للطحاوي، وشرح الكلم الطيب لابن تيمية، مات سنة 855 هـ بالقاهرة. [ترجمته في: البدر الطالع (2/ 294 - 295)، والضوء اللامع (10/ 131)].
(1)
عمدة القاري، للإمام العيني (4/ 124 - 125).
(2)
هو: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرّج الراميني، المقدسي الحنبلي الفقيه النحوي الأصولي، وحيد دهره، وفريد عصره، وشيخ الحنابلة في وقته، بل شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، له مصنفات كثيرة منها: الفروع، والأصول، والآداب الشرعية، توفي سنة (763 هـ). [ترجمته فى: المقصد الأرشد (2/ 518)، وشذرات الذهب (6/ 199)].
(3)
الفروع لابن مفلح (1/ 122).
(4)
تحفة الذاكرين للشوكاني (ص 57).
الثالث: استقبال محرم؛ كالتوجه إلى القبلة حال قضاء الحاجة
(1)
وكالتفل والتنخم تجاه القبلة
(2)
.
وأما إن كان التوجه والاستقبال إلى غير جهة القبلة فعلى قسمين:-
الأول: استقبال وتوجه شرعي، أمر به الشارع، أو دل عليه كاستقبال الخطيب للقوم
(3)
، واستقبالهم له
(4)
، وكاستقبال الإمام للناس بعد انتهاء الصلاة المكتوبة
(5)
، وكاستقبال الناس بعضهم لبعض حال
(1)
فعن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا". [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: قبلة أهل المدينة وأهل الشام. .. (1/ 154) رقم (386)].
(2)
ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه"، ومن طريق حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه". [رواهما ابن خزيمة في صحيحه (2/ 278)، رقم (1313)، و (1314)، وصححهما الألباني: انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 437 - 438)].
(3)
استقبال الخطيب للمصلين يوم الجمعة هو السُّنَّة التي داوم عليها صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، ولم يثبت عنه عليه السلام، ولا عن أحد من الصحابة أنه خطب الناس مستقبلًا للقبلة، فصار كالإجماع. قال ابن مفلح رحمه الله:"وهو كالإجماع قاله ابن المنذر". [المبدع (2/ 162)]، بل قد عدَّ ابن الحاج في المدخل وقوف الإمام في الخطبة مستقبلًا القبلة للدعاء من البدع فقال:"ولا يقف مستقبل القبلة ويبسط يديه ليدعو إذ ذاك؛ لأن علماءنا -رحمة الله عليهم- قد عدوا ذلك من البدع". [المدخل لابن الحاج (2/ 267)].
(4)
يستحب استقبال المصلين للخطيب أثناء الخطبة، فقد ثبت استقبال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عن مطيع الغزال عن أبيه عن جده قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبلنا بوجوهنا إليه). [رواه ابن عدي في الكامل (6/ 249)، رقم (1727)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 110)، وانظر: المغني لابن قدامة (2/ 75)].
(5)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سمرة بن جندب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه). [صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم (1/ 290)، رقم (809)].
السلام عند اللقاء
(1)
.
الثاني: استقبال غير شرعي، وهو استقبال ما لم يرد به الشرع بنية القربة وحصول الثواب، وهو على قسمين أيضًا:
أولًا: استقبال بدعي؛ كمن يستقبل القبور حال الدعاء، أو يستقبل بيت المقدس بدعاء أو ذكر أو عبادة، أو أن يتوجه إلى جهة شيخه ومعظمه بالدعاء؛ راجيًا سرعة الإجابة من الله تعالى بسبب هذا التوجه والاستقبال، أو أن يتوجه مستقبلًا إلى أي جهة معتقدًا أن لها خاصية ذاتية تميزها وتفضلها على غيرها بدون مسوغ شرعي، فهذا العمل من البدع العظيمة، بل هو في بعض أنواعه من أعظم الذرائع، وأخطر الوسائل المؤدية إلى الوقوع في الشرك الأكبر.
ثانيًا: استقبال شركي؛ كمن يستقبل القبور مثلًا معتقدًا تعظيمها، وأن لأصحابها شيئًا من التصرف، وقبول الدعاء، أو أن يعتقد أنهم بسبب توجهه يقربونه إلى الله تعالى، أو يشفعون له عنده، أو غير ذلك من الصور الشركية التي تقع من كثير من جهلة المسلمين.
فهذه هي صور التوجه والاستقبال التي وقفت عليها من خلال كلام أهل العلم حسب اطلاعي، وقد توجد صور كثيرة غير ما ذكرته، ولكنها غالبًا ما تكون مندرجة تحت قسم من تلك الأقسام السابقة.
(1)
وهذا من الآداب التي حث عليها الإسلام، فإن استقباله ومواجهته حال السلام مما يزيد في المحبة ويقوي رابطة الأخوة بينهما، ولذا جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي ثم قال: ما التقى المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه إلا لم يتفرقا حتى يغفر لهما". [مسند الشاميين (1/ 290)، رقم (506)] وهذا الالتقاء والسلام لا يكون بدون استقبال ومواجهة.