الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
لقد تضمنت القاعدة العديد من الفوائد أستعرض ما ظهر لي من ذلك فيما يلي:
أولًا: اتصافه تعالى بالعلم الشامل المحيط لكل ما في الكون، وبالحكمة الباهرة الجليلة، إذ هو سبحانه لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لعبًا، ولا سدى بدون حكمة ولا غاية، وإنما له سبحانه في جميع خلقه وأمره، وقضائه وقدره: الغاية الباهرة العظيمة، والحكمة البالغة الجليلة، التي تقصر العقول عن الإحاطة بكنهها وحقيقتها، وتعجز الألسن عن الإفصاح بأسرارها ومكنوناتها.
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
وقال عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36].
يقول الإمام الشافعي: "لا يؤمر ولا ينهي"
(1)
.
وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 191].
وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27].
وقال عز وجل: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر: 5].
يقول الإمام ابن تيمية: "وما خلق الخلق باطلًا ولا فعل شيئًا عبثًا، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله -سبحانه وتعالي-، ثم حكمته ما أطلع بعض خلقه
(1)
الأم (7/ 298).
عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه"
(1)
.
ويقول العلامة ابن القيم: "إنه سبحانه حكيم، لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة، وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل كما فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل"
(2)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: "وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه، قائمه به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه، وقدرته لمقدوره، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك، وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة، التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأحيى وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات، وهو محال؛ إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة، فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية، وهي الحكمة، ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة؛ إذ فعل لا يقوم بفاعله، وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته"
(3)
.
ثانيًا: لا يخفى أن المقصود من العبادة في القاعدة هي العبادة التي سبقتها معرفة العبد بربه تبارك وتعالى، وما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وعليه فلا تعتبر العبادة مع الجهل بالمعبود، وبما له من الأسماء العليا، والصفات الحميدة.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "هذه الغاية التي خلق الله الجن
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 197).
(2)
شفاء العليل (ص 190)، وانظر: مدارج السالكين (1/ 407).
(3)
طريق الهجرتين (ص 161).
والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى؛ فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"
(1)
.
ثالثًا: تضمنت القاعدة الدلالة على وجوب صرف العبادة لله تعالى وحده دون غيره من الخلق؛ لأن القاعدة نصت على أن العبادة هي غاية الله من خلقه، وأخبر الله الخلق بهذه الغاية، فدل ذلك على وجوب عبادته -سبحانه وتعالي-، وإلا لما كانوا محققين لما خلقوا من أجله، فإخباره دال على أن هذا هو الغاية من الخلق، ودال في نفس الوقت على أمرهم بعبادته سبحانه وحده لا شريك له، وهو أمر عام لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم كما سيأتي إيضاحه.
رابعًا: دلت القاعدة على صحة مذهب أهل السُّنَّة والجماعة من كون العبادات غايات ووسائل؛ إذ هي في نفسها غاية بالنسبة للعبد، كما أنها وسائل لرضا الله تعالى، ودخول جنته، وذلك بخلاف قول الفلاسفة والباطنية وغلاة أهل البدع من الرافضة والصوفية، كما نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فإنَّهم قرروا أن العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموه بأنه كمال النفس، فيجعلون العبادات وسيلة محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولهذا يرون سقوط العبادة عمن تحصل على هذا العلم المزعوم، ولا شك في بطلان هذا المذهب وفساده، ومعارضته الظاهرة للنصوص المصرحة بخلافه، وهو خلاف ما قرره أهل السُّنَّة من أن العبادة غاية عظيمة كما أنها وسيلة في ذاتها إلى رحمة الله ورضوانه.
(1)
تفسير السعدي (ص 813).
يقول الإمام ابن تيمية: "والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه؛ مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان؛ قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلا بد لها من كمال القوتين؛ بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته، والذل له، فلا تكمل نفس قط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، بهذا بعث الله الرسل، وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح أخلاق النفس؛ لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس، أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة، وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم؛ ولذلك يرون هذا ساقطًا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية، ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية، أو المتكلمين، أو الشيعة، أو غيرهم"
(1)
.
ولا ينكر كون العلم والمعرفة أصل للعبادة، وبدون العلم النظري المستقر في القلب لا تنفع العبادات العملية، وعليه يكون كل من العلم والعبادة غاية مقصودة لله تبارك وتعالى وذلك لتلازمهما أبدًا.
يقول الإمام ابن تيمية: "وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية، بل أصل العبادة: معرفته، وكمال محبته، وكمال تعظيمه، وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة.
فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع، وكل منهما معين للآخر وشرط في حصول المقصود بالآخر، فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لا يحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل.
والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من
(1)
مجموع الفتاوى (9/ 136).
العمل، بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلا بد من سلوك الطريقين معًا"
(1)
.
خامسًا: سبق وأن بيَّنت معنى العبادة في القاعدة، وهي إفراده سبحانه بالتوحيد والانقياد له بطاعته وطاعة رسله، وإخلاص الدين له -سبحانه وتعالي-، وهذا ما دعت إليه جميع الرسل، وهو الغاية من إيجاد الخلف، ودل على ذلك صريح القرآن كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وهذا هو المذهب الحق في تفسير هذه الآية، لكن للسلف أقوالًا كثيرةً في تفسير العبادة الواردة في هذه الآية، وقد ذكرها الإمام ابن تيمية رحمه الله في مصنفاته متعقبًا لكثير منها، ومناقشًا لأدلتها، وفيما يلي تلخيص هذه الأقوال، مع بيان ما فيها من قوة أو ضعف، مستعينًا في ذلك بكلام الشيخ رحمه الله وغيره من أهل العلم. فأقول يمكن إجمال هذه الأقوال فيما يلي:
الأول: قول جمهور المسلمين، الذين فسروا العبادة بما ذكرناه في معنى القاعدة، وأنها إفراده سبحانه بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذه هي العبادة التي هي غاية الله من إيجاد الخليقة كلها؛ وهي المقصود الأعظم من إيجاد الخلق وإرسال الرسل
(2)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "وهو الذي عليه جمهور المسلمين: أن الله خلقهم لعبادته، وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم"
(3)
.
قال الربيع بن أنس
(4)
: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ؛ "أي: إلا
(1)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 268).
(2)
انظر: التفسير الكبير (28/ 198).
(3)
مجموع الفتاوى (8/ 51 - 52).
(4)
الربيع بن أنس بن زياد البكري البصري ثم الخراساني، عالم مرو في زمانه، توفي سنة (239 هـ)، روى عن أنس بن مالك وأبي العالية، قال العجلي: صدوق، وقال =
للعبادة"
(1)
.
والمعنى: أن الله خلقهم ليعبدوه ففعل بعضهم، وقام بالعبادة، وترك البعض فلم يعبد الله
(2)
.
الثاني: وهو مروي عن علي بن أبي طالب
(3)
، ومجاهد أيضًا؛ قال:{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ؛ "أي: إلا لآمرهم بعبادتي؛ فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره"
(4)
.
فعبر عن الأمر والإيجاب بالعبادة، وهي ثمرته ومقتضاه.
ويمكن توجيه هذا القول بأن فعل العبادة هو الغاية من الخلق، ولكن هذه العبادة لا تحصل ولا تصح إلا بأمره سبحانه الشرعي الديني، فصارت العبادة مشروطة وجودًا واعتبارًا بورود الأمر بها من الله تعالى.
ولذا جاء البيان من الله تعالى بأن عبادته -سبحانه وتعالي- هي غاية الأمر كما أنها غاية الخلق، فقال -سبحانه وتعالي-:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
يقول ابن القيم: "فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر"
(5)
.
= أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إليّ في أبي العالية، وقال النسائي: ليس به بأس. توفي سنة 139 هـ، وقيل: 140 هـ. [انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (6/ 169)، وتهذيب التهذيب (3/ 238)].
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 239)، وانظر: درء التعارض (8/ 478).
(2)
انظر: صحيح البخاري (4/ 1837).
(3)
هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي، ابن عمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، أول الناس إسلامًا على قول الأكثر، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فتربى في حجر رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، وزوّجه النبي -صلي الله عليه وسلم- ابنته فاطمة رضي الله عنها، ومناقبه رضي الله عنه-كثيرة، توفي سنة 40 هـ. [انظر ترجمته في: الاستيعاب (3/ 26)، والإصابة (2/ 501)].
(4)
انظر: تفسير السمعاني (5/ 264)، وتفسير البغوى (4/ 235).
(5)
شفاء العليل (ص 266).
الثالث: قول طائفة من السلف، وافقوا الجمهور في معنى العبادة المراد من القاعدة، لكن قالوا هي مخصوصة بمن وقعت منه العبادة، فمن وجدت منه العبادة فهو مخلوق لها ومن لم توجد منه فليس مخلوقًا لها، فالغاية من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله تعالى حاصلة بفعل السعداء منهم.
قال سعيد بن المسيب
(1)
: "ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني"
(2)
. وقال الضحاك
(3)
: "هذا خاص لأهل طاعته"
(4)
.
وقال البخاري في معنى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} : "ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحدون"
(5)
.
فهؤلاء قالوا: الآية بمعنى الخصوص لا العموم لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار يخرجون من هذا الخطاب بدليل قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة.
ومال إليه الشيخ يحيى بن أبي الخير العمراني
(6)
بعد أن ذكر في
(1)
هو: سعيد بن المسيب بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ القرشي المخزومي الإمام، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه. توفي رحمه الله سنة 94 هـ. [انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (4/ 217)].
(2)
انظر: زاد المسير، لابن الجوزي (8/ 42).
(3)
هو: أبو محمد الضحاك بن مزحم الهلالي، أحد أوعية العلم، إمام في التفسير، توفي رحمه الله سنة 105 هـ، وقيل: 106 هـ. [انظر ترجمته: طبقات ابن سعد (6/ 300)، وسير أعلام النبلاء (4/ 598 - 600)].
(4)
انظر: زاد المسير (8/ 42)، وهو قول سفيان وابن قتيبة [انظر: تفسير الطبري (27/ 12)].
(5)
صحيح البخاري (4/ 1837)، وهو قول الفراء [انظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 600)].
(6)
هو: يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى أبو الخير العمراني اليماني، =
الآية ثلاثة أقوال، فقال مقررًا ومرجحًا له:"والثالث: أن لفظه لفظ العموم والمراد به الخصوص، وأراد بذلك الذين هداهم ووفقهم لطاعته وعبادته؛ يدل على هذا شيئان؛ أحدهما: أن فيهم الأطفال، والمجانين، ومن خرج من عموم الآية، والثاني: أنه قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، فأخبر بهذه الآية أنه خلق كثيرًا منهم لجهنم، ومن خلقه الله لجهنم لم يخلقه للعبادة، والقرآن لا يتناقض، بل يؤيد بعضه بعضًا قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، ولا ينتفي عنه الاختلاف إلا إذا حملت الآيتان على ما ذكرنا"
(1)
.
وقد بيَّن الإمام ابن تيمية ضعف هذا القول من وجوه عديدة أذكرها باختصار مع بعض التصرف فيما يلي
(2)
:
أولًا: أن قصد العموم ظاهر في الآية، وبيِّن بيانًا لا يحتمل النقيض؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة؛ فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له، بل الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن.
ثانيًا: وأيضًا فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشيء فلم يفعل ما خلق له، ولهذا عقبها
= ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكان شيخ الشافعية ببلاد اليمن، وكان إمامًا زاهدًا ورعًا عالمًا خيرًا، عارفًا بالفقه وأصوله، معتقدًا لعقيدة السلف، وكان يحفظ المهذب عن ظهر قلب، وكان صاحب ذكر وتعبد، توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، من تصانيفه: البيان في نحو عشر مجلدات، وكتاب الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار ينصر فيه عقيدة السلف، وغيرها كثير، مات رحمه الله مبطونًا، وما ترك فريضة في جملة مرضه. [انظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 327 - 328)، وشذرات الذهب (4/ 185 - 186)].
(1)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 436).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 40 - 44).
بقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 57]، فإثبات العبادة ونفي الرزق والإطعام يبين أنه خلقهم للعبادة، ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام.
ثالثًا: القول بأنها للمؤمنين فقط يجعل هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول: أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك، وأشرك بك، وقد فعلت ما خلقتني له، كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فهذا مما يلزم هذا القول وكلام الله منزه عن هذا.
الرابع: قول من قال الآية على عمومها؛ لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه صيرهم إلى ما خلقهم له من السعادة والشقاوة.
وعن زيد بن أسلم
(1)
في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]"قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة"
(2)
.
وقيل: "جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية"
(3)
.
فالمؤمن مطيع ومنقاد باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه وقدره، جبرًا وقصرًا
(4)
.
(1)
هو: الإمام الحجة أبو عبد الله زيد بن أسلم العدوي العمري المدني الفقيه العامل بعلمه، كان له حلقة للعلم في مسجد الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وله تفسير رواه عنه ابنه عبد الرحمن، توفي عام 136 هـ. [انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ (1/ 132 - 133)، والتقريب (ص 350)].
(2)
تفسير الطبري (27/ 11).
(3)
انظر: درء التعارض (8/ 480)، وهو مروي عن وهب بن منبه.
(4)
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (3/ 80).
وهذا معنى صحيح في نفسه، فلا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، ولكن قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، وحاموا حوله من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه. وبيان ذلك:
أولًا: أن نفاذ المشيئة في الخلق ليس هو العبادة، فإن جميع المخلوقات حتى البهائم والجمادات بهذه المنزلة.
ثانيًا: أن لفظ العبادة في عامة سور القرآن لا يراد به هذا المعنى.
يقول الإمام ابن تيمية: "فهذا ونحوه كثير في القرآن؛ لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل؛ وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدودن الله، بل يعبدودن الشيطان، وما يدعونه من دودن الله؛ سواء عبدوا الملائكة، أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركودن قد عبدوا غير الله تعالى كما أخبر الله بذلك؛ فكيف يقال: أن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم، والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم، واختيارهم، وإخلاصهم الدين له، وطاعة رسوله، وبين أن يُعَبِّدَهُم هو وَيُنْفِذ فيهم مشيئته، وتكودن عبادتهم لغيره، للشيطان، وللأصنام من المقدور"
(1)
.
ثالثًا: أن قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} يقتضي فعلًا يفعلونه هم، وكونه يَرُبُّهم ويخلقهم، وينفذ فيهم مشيئته ليس إلا فعله ليس في ذلك فعل لهم.
الخامس: قول السدي
(2)
: "من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع،
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 47).
(2)
هو: الإمام المفسر أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن، الحجاز ثم الكوفي، أحد موالي قريش، توفي سنة 127 هـ. [الطبقات الكبرى (6/ 323)، سير أعلام النبلاء (5/ 264)].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك"
(1)
.
لكن هذا أيضًا ضعيف؛ لأن المشركين لا يعبدون الله بل يعبدون الشيطان، وما يدعونه من دون الله؛ سواء عبدوا الملائكة، أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل، كما أخبر الله بذلك، فالمشرك يعبد الشيطان وما عدل به الله ولا يعبد الله، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله
(2)
، ولكن يقال كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]، فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به، فعبادة المشركين وإن جعلوا جزءًا منها لله فإن الله لا يقبل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله سبحانه.
السادس: قول مجاهد في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} : قال: "إلا ليعرفون"
(3)
.
وهذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضي أن خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضي أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، فهذه المعرفة هي من إقرارهم العام الذي هم فيه مشركون، وليست هي العبادة التي هي غاية الله من خلقه
(4)
.
السابع: معنى العبادة في الآية هو الاستعداد الفطري لها، الذي فطر الله النفوس عليه؛ فجعل لهم عقولًا وحواسًا وقلوبًا منقادة نحو العبادة، فباعتبار استعدادهم الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيًا بها، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرث، والخيل
(1)
رواه ابن أبي حاتم. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 239)، وفتح الباري (8/ 600).
(2)
لمزيد من الإيضاح انظر قاعدة: (العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد)(ص 319).
(3)
انظر: تفسير الثعلبي (9/ 120).
(4)
مجموع الفتاوى (8/ 50 - 51) بتصرف.
للحرب، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلًا، فالمعنى: أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة
(1)
.
وهذا المعنى صحيح، لكن لفظ يعبدون كما سبق يقتضي فعلًا منهم، وكونهم معدين ومهيئين للعبادة هو فعل الله بهم لا فعلهم، ثم إن الملائكة قد طبعت نفوسهم على العبادة، وانقطعت عنهم أسباب الانحراف، بحيث لا تقع منهم معصية على الإطلاق، فهم أولى بهذا الوصف من سائر الإنس والجن، كما أن لام الغاية قد دلت على آخر الشي ونهايته في أمر الخلق، والفطرة إنما تكون مع ابتداء الخلق.
الثامن: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} : إلا ليوحدون؛ فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65]
(2)
.
وهذا ضعيف أيضًا، فإن المشرك إذا أخلص الدعاء في حال الشدة دون الرخاء فلا يسمى موحدًا هكذا بإطلاق، فإن التوحيد المطلق هو الذي لا يقارنه الشرك، وإخلاص هذا الكافر إنما هو في حال شدته فقط، فهو إخلاص وتوحيد مقيد، إذ هم لا يثبتون على التوحيد بل يسارعون إلى الشرك في حال الأمن والرخاء، ولا يعتبر عابدًا موحدًا لله إلا من ثبت على التوحيد والعبادة.
يقول الإمام ابن تيمية: "نفي العبادة مطلقًا ليس هو نفي لما قد يسمى عبادة مع التقييد، والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال: إنه
(1)
تفسير أبي السعود (3/ 295)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية (5/ 183).
(2)
معالم التنزيل للبغوي (4/ 235)، والجامع لأحكام القرآن (17/ 56)، وهو مروي عن الكلبي.
يعبد الله وغيره، أو يعبده مشركًا به، لا يقال: إنه يعبد مطلقًا"
(1)
.
وقال ابن القيم: "لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتًا على عبادة الله، موصوفًا بها، فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد الله وعبده المستقيم علي عبادته إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلًا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابدًا لله ولا عبدًا له"
(2)
.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب-: عن عبادة المشركين-: "وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائمًا في الشدة والرخاء فلا يعرفونها وهي نتيجة الإلهية"
(3)
.
هذا ما وقفت عليه من أقوال أهل العلم في تفسير معنى الآية، والذي يترجح من هذه الأقوال، وعليه جملة من المحققين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، والشنقيطي، وغيرهم هو الأول، وقريبًا منه الثاني، فإن العبادة لا توجد بدون الأمر من الله تعالى.
وبهذا يظهر أن العبادة الشرعية هي الغاية من خلق الخلق وعلى ذلك تكون الإرادة التي دلت عليها اللام في قوله: {لِيَعْبُدُونِ (56)} . إرادة دينية شرعية، إذ هي الأصل في إيجاد المخلوق، وهي لا تقتضي وجود المراد.
يقول الإمام ابن تيمية: "إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، فإن هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإن كان منهم من لم يعبده ولم يجعله عابدًا له، إذ كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر هي أحب إليه من عبادة
(1)
مجموع الفتاوى (16/ 574).
(2)
بدائع الفوائد (1/ 144).
(3)
الدرر السنية (2/ 65).
أولئك، وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك"
(1)
.
ويقول رحمه الله عند كلامه على أنواع الإرادة: "ولهذا كانت الأقسام أربعة:
أحدها: ما تعلقت به الإرادتان؛ وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع فأمر به، وأحبه، ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط؛ وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع.
والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط؛ وهو ما قدره وشاءه من الحوادت التي لم يأمر بها؛ كالمباحات، والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها، ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي، وإذا كان كذلك فمقتضى اللام في قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، هذه الإرادة الدينية الشرعية، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع، والمعنى: أن الغاية التي يحب لهم ويرضى لهم، والتي أمروا بفعلها هي العبادة، فهو العمل الذي خلق العباد له؛ أي: هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين، فمن لم تحصل منه هذه الغاية كان عادمًا لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية، التي فيها سعادته ونجاته، وعادمًا لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه"
(2)
.
(1)
درء التعارض (8/ 477).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 188 - 190).
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين
(1)
: "والإرادة الدينية: أصل في إيجادَ المخلوق، والإرادة الكونية: أصل فيمن كتبت عليه الشقاوة، فلا ييسر إلا لها، ولا يعمل إلا بها، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] فهي الإرادة الكونية، وهي لا تعارض الإرادة الدينية، التي هي أصل إيجاد المخلوقات، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فقد يعبدون وقد لا يعبدون"
(2)
.
وقال الشيخ الشنقيطي: "فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: {لِيَعْبُدُونِ (56)}: إرادة دينية شرعية، وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله، لا إرادة كونية قدرية؛ لأنَّها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن والواقع خلاف ذلك"
(3)
.
وبذلك يظهر أن الإرادة الكونية للعبادة غير لازمة على جميع الخلق، وليست هي من مقتضيات اللام في قوله:{لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، بخلاف الدينية؛ إذ هي الأصل في إيجاد البشرية فهي لازمة وداخلة في معنى اللام، ولا يلزم من انتفاء الإرادة الكونية انتفاء الإرادة الدينية؛ فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية، مع تعاضد المبادئ، وتآخذ المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية، كما في قوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]، ونظائره
(4)
.
(1)
هو: العالم الجليل عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، من بيت علم وشرف ودين، ولد عام 1194 هـ، كان آية في العدالة والنزاهة مسددًا في أقضيته مشتهرًا بفراسته، له من المؤلفات، مختصر بدائع الفوائد، ومختصر إغاثة اللهفان، تأسيس التقديس، توفي عام 1282 هـ. [مقدمة كتاب تأسيس التقديس، بتحقيق: الشيخ عبد السلام بن برجس].
(2)
الدرر السنية (2/ 306 - 307).
(3)
أضواء البيان (7/ 445).
(4)
انظر: تفسير أبي السعود (8/ 144)، وروح المعاني (27/ 21).
سادسًا: دلَّت القاعدة كذلك على إبطال قول من زعم بأن خلق آدم عليه السلام وجميع ما في الكون كان من أجل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ورووا في ذلك خبرًا باطلًا موضوعًا وفيه:(ولولا حمد ما خلقتك)
(1)
.
(1)
رواه الحاكم في المستدرك (2/ 672)، رقم (4228)، والطبراني في المعجم الأوسط (6/ 313)، برقم (6502)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 489)، كلهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال:"تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف". وقال البخاري: "ضعفه علي جدًّا"؛ يعني: ابن المديني الضعفاء الصغير للبخاري (ص 71)، وقال فيه الإمام ابن خزيمة: "وعبد الرحمن بن زيد ليس هو ممن يحتج أهل التثبيت بحديثه؛ لسوء حفظه للأسانيد
…
" صحيح ابن خزيمة (3/ 233). وقال ابن حبان في زيد بن عبد الرحمن: "لا أدري التخليط منه أو من أبيه؛ لأن أباه ليس بشيء في الحديث" الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/ 306). وقال ابن الجوزي: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي عن أبيه، ضعفه أحمد، وعلي، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والدارقطني، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل: وإسناد الموقوف فاستحق الترك" الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 95). وقال الإمام ابن تيمية: "قلت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرًا" مجموع الفتاوى (1/ 255)، بل الحاكم نفسه قد ضعف عبد الرحمن بن زيد وهذا يدل على تساهله أو غفلته كما بين ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: "والحاكم أجل قدرًا، وأعظم خطرًا، وأكبر ذكرًا من أن يذكر في الضعفاء، لكن قيل في الاعتذار عنه: أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها؛ من ذلك أنه أخرج حديثًا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكان قد ذكره في الضعفاء، فقال: أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، وقال في آخر الكتاب: فهؤلاء الذين ذكرتهم في هذا الكتاب ثبت عندي صدقهم؛ لأنني لا أستحل الجرح إلا مبينًا، ولا أجيزه تقليدًا، والذي أختار لطالب العلم أن لا يكتب حديث هؤلاء أصلًا". لسان الميزان (5/ 232).
وقد حكم على الحديث بالضعف أو بالوضع جملة من أهل العلم منهم: الإمام ابن تيمية فقد بين أن هذا الحديث مما أنكر على الحاكم تصحيحه. مجموع الفتاوى (1/ 254 - 256)، وقال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن مسلم الفهري بأنه روى: "خبرًا باطلًا فيه: (يا آدم لولا محمد ما خلقتك) ميزان الاعتدال في نقد =
فالله تعالى لم يخلق أحدًا من الإنس والجن من أجل أحد لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا، وإنما خلق الله الخلق من أجل عبادته وحده لا شريك له وطاعة رسله عليهم السلام.
وقد بيَّن الشيخ الألباني
(1)
ضعف الحديث من جهة المتن؛ لمعارضته لما هو مقرر في الشريعة، ومتفق عليه بين أهل الإسلام في موضعين، فقال: "الموضع الثاني: قوله في آخره: (ولولا محمد ما
= الرجال (4/ 199)". وقال العلامة ابن عبد الهادي في رده على السبكي: "وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل، وفيه قول الله لآدم:(ولولا محمد ما خلقتك)، مع أنه حديث غير صحيح، ولا ثابت بل هو حديث ضعيف الإسناد جدًّا، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح، بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحًا إلى عبد الرحمن لكان ضعيفًا غير محتج به؛ لأن عبد الرحمن في طريقه، وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضًا فاحشًا كما عرف له ذلك في مواضع والله أعلم" الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص 60 - 61)، وممن ضعف الحديث العلامة الألباني حيث قال: "وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث، وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين" التوسل أنواعه وأحكامه (ص 108)، وللمزيد يراجع: سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 88/ 25) وما بعدها، والتوسل أنواعه وأحكامه (ص 105 - 116).
(1)
هو: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألباني، ولد عام 1333 هـ في مدينة (أشقودرة) عاصمة دولة ألبانيا سابقًا، ثم هاجر بصحبة والده إلى دمشق الشام، ثم انتقل إلى المملكة الأردنية، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة على يد والده، ودرس عليه أيضًا التجويد، والنحو والصرف، وفقه المذهب الحنفي، كما درس على الشيخ سعيد البرهاني، والعلامة بهجة البيطار، وغيرهم، وهو حامل راية الدعوة إلى التوحيد والسُّنَّة في عصرنا، وصاحب المؤلفات العظيمة والتحقيقات القيمة، من أبرزها: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقها وفوائدها، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، منح جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1419 هـ، توفي بالأردن عام 1421 هـ. [انظر ترجمته في:(علماء الشام في القرن العشرين)(173 - 186)، لمحمد الناصر].
خلقتك) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقًا، أو صحيح عند آخرين، ولو كان ذلك صحيحًا لورد في الكتاب أو السُّنَّة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآنا وسُنّة
…
وأيضًا فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم كمخالفة هذا الحديث الباطل"
(1)
.
ومثله حديث: (لولاك ما خلقت الأفلاك)
(2)
فإنَّه حديث موضوع، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية تعقيبًا على من صحح معنى الحديث:"بل هو باطل لفظًا ومعنى، فإن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}، ولم يثبت حديث عن النبي -صلي الله عليه وسلم- يدل على أن الخلق خلقوا من أجله لا الأفلاك ولا غيرها من المخلوقات، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] "
(3)
.
وقال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي
(4)
: "ومما هو جدير
(1)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص 116).
(2)
ذكره العجلوني في كشف الخفاء (2/ 214)، وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص 326)، وحكم عليه الألباني بأنه: موضوع. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 450) برقم (282).
(3)
انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب أحمد بن عبد الرزاق الدويش (1/ 465).
(4)
هو: جمال الدين (أو محمد جمال الدين) بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، ولد سننة 1283 هـ، إمام الشام في عصره مولده ووفاته في دمشق. كان سلفي العقيدة =
بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال الشعري، والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة كحديث:(لولاك ما خلقت الأفلاك) "
(1)
.
= لا يقول بالتقليد. من مصنفاته: محاسن التأويل في تفسير القرآن الكريم، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد، وتعطير المشام في مآثر دمشق الشام، وقواعد التحديث من فن مصطلح الحديث، ودلائل التوحيد، وديوان خطب، وغيرها، ولابنه الأستاذ ظافر القاسمي كتاب:(جمال الدين القاسمي وعصره)، توفي سنة 1332 هـ. [انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (2/ 135)].
(1)
قواعد التحديث (ص 155).