الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الإمام ابن تيمية: "والفطرة تستلزم معرفة الله ومحبته وتخصيصه بأنه أحب الأشياء إلى العبد، وهو التوحيد، وهذا معنى قول لا إله إلا الله"
(1)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: "فعلم أن الحنيفية من مُوْجَباتِ الفِطْرَةِ ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له، والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "ولكن فطرته سبحانه موجبة مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، ففطروا على فطرة مستلزمة للإقرار بالخالق، ومحبته، وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئًا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض"
(3)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
أشارت القاعدة إلى عدة فوائد؛ منها ما يلي:
أولًا: أن النفس البشرية مفطورة على معرفة الحق ومحبته، والميل إلى الأمور المستحسنة، وهي بالمقابل مفطورة على بغض الباطل وكرهه، والبعد عنه، والميل عن الأمور المستهجنة القبيحة، وبذلك يظهر خطأ البعض في قوله: إن النفس مفطورة على الخير والشر على حدّ سواء
(4)
، وفي ذلك مخالفة صريحة للنصوص الواردة في الفِطْرَة، فإنها قررت أن
(1)
مجموع الفتاوى (16/ 344 - 345).
(2)
درء التعارض (8/ 451)، وانظر: أحكام أهل الذمة (2/ 1068).
(3)
أحكام أهل الذمة (2/ 1020).
(4)
انظر: مقدمة ابن خلدون (ص 123).
النفس في الأصل مفطورة على الخير ومعرفة الحق وحبه، وهي ما دامت سليمة فإنها باقية على هذا الحق ومحبته، نعم إن فسدت الفِطْرَة وتغيرت تقبَّلت بعد ذلك الشر، واعتقدته، وعملت، -بحسب ما طرأ عليها من تغيير- لا أنه في أصل ذاتها وخلقتها، وإنما طرأ عليها الشر بعد فسادها وانحرافها، مع بقاء شيء من أصل الفِطْرَة السليمة يتلجلج في صدرها، لا تستطيع نفيه، تشعر به وتحسه، وهو داعي الخير في قلب كل إنسان، متى ما أراد الله بعبده خيرًا تحرك هذا الداعي ونشط وهبَّ في صلاح القلب والنفس، فكان رجوعها إلى الله تعالى بالتوبة والطاعة.
يقول الإمام ابن رجب: "وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق، والسكون إليه، وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضده"
(1)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد، فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه، وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا، بحسب حاجته، ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة، والعادة الصحيحة"
(2)
.
ويقول أيضًا: "ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله
(1)
جامع العلوم والحكم (ص 253).
(2)
درء التعارض (8/ 384).
تعالى بها وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر"
(1)
.
وقال الإمام العيني في معنى حديث الفِطْرَة: "قلت: الغرض من التركيب أن الضلالة ليست من ذات المولود، ومقتضى طبعه، بل أينما حصلت فإنما هي بسبب خارج عن ذاته"
(2)
.
ثانيًا: دلت القاعدة على أن الفِطْرَة هي الحنيفية والتوحيد المبنية على المعرفة والإقرار، فالفطرة السليمة هي الإقرار بالخالق ومعرفته ومحبته، وأما مجرد المعرفة بالخالق فإنه جزء الفِطْرَة، ولا يعتبر بمفرده الفِطْرَة الممدوحة في الكتاب والسُّنَّة، بل إن المقر بمعرفة الله ووجوده بقلبه ولسانه بدون الإرادة والمحبة والتوحيد لا يعد ممن تحققت فيه الفِطْرَة السليمة التي فطر الله الخلق عليها، بل هو ممن تبدلت وتغيرت فطرته.
يقول الإمام ابن تيمية ناقلًا عن الإمام ابن عبد البر اختلاف العلماء في معنى الفِطْرَة، وأن منهم من فسَّرها بمعرفة الله تعالى، فقال: "فقال ابن عبد البر: وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخِلْقَة التي خُلِقَ عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خِلْقَه يَعْرِفُ بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خِلْقَة مخالفة لِخِلْقَة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك؛ قالوا لأن الفاطر هو الخالق.
قال -أي: ابن عبد البر-: وأنكرت أن يكون المولود يُفْطَرُ على إيمان، أو كفر، أو معرفة، أو إنكار.
قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة
(1)
المصدر نفسه (8/ 426).
(2)
عمدة القاري في شرح صحيح البخاري (8/ 177).
والقدرة عليها فهذا ضعيف؛ فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته، حتى يُسْأَل عمن مات صغيرًا؛ ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير، ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل.
وإن أراد بالفطرة: على المعرفة مع إرادتها؛ فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "فالإقرار بالصانع بدون عبادته والمحبة له وإخلاص الدين له لا يكون نافعًا، بل الإقرار مع البغض أعظم استحقاقًا للعذاب، فلا بد أن يكون في الفطرة متقض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم؛ فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، ومحبة الأشياء المحبوبة لا تكون بسبب من خارج، بل هو أمر جبلي فطري، وإذا كانت المحبة فطرية فالشعور فطري، ولو لم تكن المحبة فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء، وهذا ممتنع"
(2)
.
ثالثًا: ليس المقصود بأن الخلق يفطرون على الإسلام، وأن المولود يولد على الفِطْرَة، أنه يكون حين يولد عارفًا لهذا الدين معتقدًا ومحبًا له، وإنما المراد أنه يولد سليمًا من الاعتقادات الباطلة؛ من وثنية، ونصرانية، ويهودية، فتكون نفسه متهيئة متقبلة للحق، وهو الإسلام والتوحيد والميل إلى الدين، وبغض الشرك والنفرة منه.
يقول الطيبي في معنى الفِطْرَة الواردة في الحديث: "والمراد تَمَكُّن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن حسن هذا الدين
(1)
درء التعارض (8/ 384 - 385).
(2)
أحكام أهل الذمة (2/ 1068).
ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية؛ كالتقليد"
(1)
.
وإلى هذا مال أبو العباس القرطبي حيث قال: "المعنى: أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق. ودين الإسلام هو الدين الحق"
(2)
.
وقال الإمام النووي: "والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئًا للإسلام؛ فمن كان أبواه أو أحدهما مسلمًا استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه؛ أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره"
(3)
.
"وقال ابن الأثير في معنى حديث الفطرة: "والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة، والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لَافة من آفات البشر والتقليد"
(4)
.
وقال ابن القيم ليس المراد بقوله يولد على الفطرة أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين؛ لأن الله يقول والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته
(1)
انظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 249).
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 676). وانظر: طرح التثريب (2/ 69).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 208).
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 457)، وانظر: مهمات التعاريف للمناوي (ص 560)، والتعريفات للجرجاني (ص 215).
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك؛ لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلًا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا والله أعلم"
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "وإذا قيل إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفًا، ونحو ذلك، فليس المراد به: أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين، ويريده؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ولكن فطرته مقتضية، موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته"
(2)
.
ويقول المناوي: "والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ للإسلام بالقوة، لكن لا بد من تعلمه بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة قيض الله له من يعلمه سبيل الهدى، فصار مهذبًا بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته، ويثني عزمته، والله سبحانه هو المتصرف في عبيده كيف يشاء"
(3)
.
ويقول الألوسي: "فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة، متهيئة لقبول الحق؛ لقضية: كل مولود يولد على الفِطْرَة، فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين"
(4)
.
(1)
انظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 249).
(2)
درء التعارض (8/ 383).
(3)
فيض القدير (5/ 34).
(4)
روح المعاني (9/ 126).