الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قامت المعارك الكلامية، والقتالية بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم
(1)
.
*
المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
بناء على ما سبق من تقرير للقاعدة، وتدليل على صحتها وثبوتها من النصوص الشرعية، ومن أقوال أهل العلم المرعية، فلا يخفى بعد ذلك أهمية القاعدة، وكونها أصلًا تنبني عليه بعض المسائل الهامة التي هي من صميم التوحيد، والتي لها الأثر الكبير في مسار دعوة الخلق إلى الله تعالى، وفيما يأتي أذكر بعض ما ظهر لي من تلك المسائل والفوائد المستفادة من القاعدة:
أولًا: دلت القاعدة على أن أصل النزاع بين الرسل وأقوامهم انحصر في توحيد العبادة، وهذا يدل على أنهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنهم لم ينكروا الله تعالى، سواء وجوده، أو صفاته
(2)
، ولذا لم يأت التكليف من الله تعالى على لسان الرسل بتقرير الربوبية، أو الأسماء والصفات أصالة واستقلالًا، وإنما الذي ضلوا فيه الضلال المبين هو توحيد الإلهية، وإفراد الله تعالى بالتأله والتعبّد، ولذا جاء الأمر به في دعوة جميع الرسل.
يقول الشهرستاني
(3)
: "ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد، ونفي الشريك، "أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ
(1)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (4/ 233 - 234).
(2)
سيأتي تفصيل ذلك في قاعدة مستقلة (ص 450).
(3)
هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني أبو الفتح شيخ أهل الكلام وصاحب التصانيف منها نهاية الإقدام والملل والنحل مات سنة تسع وأربعين وخمسمائة. [انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (20/ 286)].
النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لَا إلهَ إلَّا الله"
(1)
، ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
…
} الآية [غافر: 12]، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45]، {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 46] "
(2)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "فالخصومة: بين الرسل وأممهم، ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع: فإن الفطر، والعقول: دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؛ وإنما كانت الخصومة: في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله"
(3)
.
ثانيًا: ومما يستفاد من القاعدة أن النزاع بين الرسل وأقوامهم إنما كان في إبطال معبودات المشركين الباطلة من حيث عبادتها والتوجه إليها، ولم يكن نزاعهم من جهة وجودها الحسي، وإمكانها العيني، بل كانت خصومتهم مع المشركين في حقيقة هذه المعبودات، وفي حكم وجودها شرعًا، وفي صحة ما ألبسوها من الأسماء والصفات؛ ولذا ما جاء من التعبير بالنفي المطلق لهذه المعبودات في النصوص الشرعية عائد إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي
(4)
.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ
(5)
: "والنزاع
(1)
انظر: (ص 501).
(2)
نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني (ص 123 - 124)، ونقله عنه شيخ الإسلام في درء التعارض (3/ 129 - 130)، و (7/ 398)، [وانظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية للعروسي (2/ 864)].
(3)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 234).
(4)
انظر: للتفريق بين الوجود الحسي والشرعي: كتاب الكليات للكفوي (ص 418).
(5)
هو: هو العلامة الأوحد الكبير الفقيه علامة المعقول والمنقول حاوي علمي الفروع والأصول كما وصفه بهذا علامة العراق محمود شكري الألوسي: الشيخ عبد اللطيف =
بين الرسل ومن خالفهم، في حقيقة معبوداتهم مع الله، لا في وجودها؛ فإن الوجود أمر محسوس لا ينكر؛ ولكن أهل الكلام يكذبون بالحسيات والبديهيات، ويزعمون أنهم أهل العلم والعقليات، ويسمون نصوص الكتاب والسُّنَّة ظنيات، وقواعد المناطقة قطعيات؛ فلا عجب من ضلالهم، في معنى هذه الكلمة، وما أحسن ما حكى الله عن رسله عليه السلام من قولهم لمن كذب بتوحيده، وشك فيما جاءت به رسله:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]؛ لأن هذا من أظهر الظاهرات، وأوضح الواضحات، وأبين البينات.
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل"
(1)
ثانيًا: أن الدعوة إلى توحيد العبادة هي مفتتح دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، لم يشذ نبي في ذلك البتة، ولذا كان أصل النزاع محصورًا فيه، وهذا يدل على أهمية الدعوة إلى التوحيد
(2)
.
يقول أبو حيان: "أخبر -سبحانه- أنه ما أرسل من رسول إلا جاء مقررًا لتوحيد الله، وإفراده بالإلهية، والأمر بالعبادة، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوات، وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام"
(3)
.
رابعًا: ومما يستفاد من القاعدة أن أصل النزاع والخصومة محصور
= ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب النجدي أبو عبد الله، ولد رحمه الله في بلدة الدرعية عام 1225 هـ، من مصنفاته: البراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية وعيون الرسائل، ومصباح الظلام وغيرها كثير، توفي عام 1293 هـ. [مشاهير علماء نجد (ص 70) فما بعدها].
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 340).
(2)
سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في: قاعدة: دين الأنبياء واحد وهو دين الإسلام (ص 75).
(3)
انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان (6/ 285).
في إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه عليه السلام بها دون غيره، لا في صرف أصل العبادة لله تعالى، إذ لم ينازع أحد من المشركين في كونه سبحانه معبودًا
(1)
، أو في كونه يعبد ويستحق العبادة في الجملة، وإنما كانت حقيقة الخلاف في اختصاص الله بالعبادة، وأنه هو الإله الحق، وأن ما دونه من الآلهة لا تستحق شيئًا من العبادة، وأنها باطلة لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا، وأن ما أطلق عليها من تسميات فإنما هي تسميات باطلة خاوية من الحقيقة في أرض الواقع.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "وتقدم قول قوم هود عليه السلام: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف: 70]: دليل على أنهم أقروا بوجوده، وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه، فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع: فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؛ وإنما كانت الخصومة: في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله"
(2)
.
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "الخصومة بين الرسل والأمم في توحيد العبادة، وإلا فالأمم تقر بأن الله ربها، وخالقها، ورازقها، وتعرف كثيرًا من أسمائه وصفاته، ولكن النزاع والخصومة من عهد نوح إلى يومنا
(1)
وما وقع من إنكار ذلك: فإنما هو محض المكابرة، وحال الجحود، ومجرد العناد، وقع من نزر حقير لا يكاد يذكر، قد ملئ مكرًا وخبثًا وخسة وتجبرًا واستكبارًا؛ من شذاذ العالم، وسفلة الخلق، وأراذل البشرية، أنكروا ذلك في الظاهر، وأخفوا بين جنبات نفوسهم يقينًا لم ينفعهم، واعترافًا أوقعهم في المهالك، فكانوا كما حكى الله عنهم:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14].
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 234).
هذا في توحيد الله بالعبادة، فالرسل تقول للناس: أخلصوا العبادة له، وحدوه بها، واتركوا عبادة ما سواه، وأعداؤهم وخصومهم يقولون: لا، بل نعبده، ونعبد غيره، ما نخصه بالعبادة.
هذا هو محل النزاع بين الرسل والأمم، الأمم لا تنكر عبادته بالجملة، بل تعبده، ولكن النزاع هل يخص بها أم لا يخص؟، فالرسل بعثهم الله لتخصيص الرب بالعبادة، وتوحيده بها دون كل ما سواه؛ لكونه عز وجل القادر على كل شيء، الخلاق، الرزاق للعباد، العليم بأحوالهم، إلى غير ذلك"
(1)
.
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/ 42).