المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها - القواعد في توحيد العبادة - جـ ١

[محمد بن عبد الله باجسير]

فهرس الكتاب

- ‌المُقَدِّمَة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌خطة البحث

- ‌المنهج المتبع في هذا البحث

- ‌مشاكل البحث وصعوباته:

- ‌شكر وتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول القاعدة لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الأول: القاعدة لغة

- ‌ المطلب الثاني * القاعدة اصطلاحًا

- ‌ المطلب الثالث * بيان العلاقة بين القاعدة والضابط والأصل

- ‌المبحث الثاني أهمية القواعد وأثرها في العلوم

- ‌المبحث الثالث التقعيد ومنهج العلماء فيه

- ‌المبحث الرابع توحيد العبادة ومنزلته الشرعية

- ‌المطلب الأول: معناه وحقيقته

- ‌ المطلب الثاني * أهميته ومنزلته من الدين

- ‌ المطلب الثالث* أدلته

- ‌ المطلب الرابع* أسماؤه وإطلاقاته

- ‌أ - توحيد الطلب والقصد:

- ‌ب - توحيد الارادة والطلب:

- ‌ج - توحيد الشرع والقدر:

- ‌د - التوحيد العملي الإرادي، أو العملي القصدي:

- ‌هـ - توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة:

- ‌الباب الأول القواعد المتعلقة بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الأول القواعد العامة في توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول قاعدة دين الأنبياء واحد هو الإسلام

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة الشرع مبناه على تكميل أديان الخلق وعلى تكميل عقولهم

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: الشرع:

- ‌ثانيًا: العقل:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدةالدين قد كَمُلَ بيانه في أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة العبادة هي الغاية التي خلق الله لها الخلق من جهة أمره ومحبته ورضاه

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة ليس في الشريعة بقعة تقصد للعبادة لذاتها إلا المساجد ومشاعر الحج

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السادسقاعدة النزاع بين الرسل وأقوامهم إنما كان في إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السابعقاعدة البركة لله وصفًا وملكًا وفعلًا وكل بركة في الكون فمن آثار بركته سبحانه

- ‌ المسألة الأولى * شرح بعض ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في اعتماد القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة [*]: فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثامنقاعدة التوجه إلى شيء أو إلى جهة بقصد القربة وحصول الثواب عبادة

- ‌ توطئة

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى التوجه لغة وشرعًا:

- ‌تمهيد في أحوال التوجه والاستقبال:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثانيالقواعد المتعلقةبحقيقة العبادة وضابطها

- ‌المبحث الأولقاعدة العبادة لا تسمى عيادة في حكم الشرع إلا مع التوحيد

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة مناط العبادة غاية الحب مع غاية الذل ولا تنفع عبادة بواحد دون الآخر

- ‌ المسألة الأولى* شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى العبادة:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة صلاح الأعمال بصلاح النيات وكل عمل تابع لنية عامله وقصده

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى النية لغة وشرعًا:

- ‌ المسألة الثانية*بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثالثالقواعد المتعلقة بأنواع التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدة أنواع التوحيد وأضدادها متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌بيان معنى التلازم في القاعدة:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة توحيد الربوبية لا يصير الإنسان به مسلمًا حتى يأتي بأنواع التوحيد الأخرى

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة توحيد الربوبية أقرت به الخلائق مؤمنها وكافرها ولم ينكره إلا الشذاذ من العالم

- ‌ المسألة الأولى* بيان بعض ألفاظ القاعدة

- ‌معنى توحيد الربوبية:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة الربوبية والألوهية مفهومان متغايران فإذا اقترنا افترقا وإذا افترقا اقترنا

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌بيان معنى الرب والاله في القاعدة:

- ‌أما الألوهية:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الرابعالقواعد المتعلقة بأصل التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدةأصل الإيمان وقاعدته التي عليها مدار أعمال العباد هو تحقيق معنى الشهادتين قولًا وعملًا وعقيدة

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌القسم الرابع:

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة شهادة أن لا إله إلا الله مشتملة على النفي والإثبات

- ‌ المسألة الأولى * شرح مفردات القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة الكفر بالطاغوت ركن التوحيد

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى الطاغوت:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة محبة الله هي أصل الدين والمحبة فيه أو له تبع لمحبته والمحبة معه تضاده وتناقضه

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى المحبة:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: معنى الحنيفية:

- ‌ثانيًا: معنى الفطرة:

- ‌ثالثًا: معنى المُوْجَبِ والمُقْتَضى:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

الفصل: ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

يستحق المحبة الكاملة، والذل التام إلا الله سبحانه"

(1)

.

ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "ثم اعلم أنها لا تقبل الأعمال الظاهرة ما لم يساعدها عمل القلب، ومناط العبادة هي غاية الحب مع غاية الذل ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر، ولذا قال من قال من السلف

(2)

: من عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد"

(3)

.

*‌

‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

لا تخفى أهمية هذه القاعدة، لتعلقها بالغاية التي خلق الله الخلق من أجلها، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وبعد إنعام النظر، واستقصاء التأمل فيها، بدت لي بعض الفوائد الإيجابية لها أذكرها فيما يلي:

الفائدة الأولى: أن المحبة والذل والخضوع لله تعالى أصل العبادة، فلا تصح عبادة ظاهرة ولا باطنة بدون المحبة والخضوع، بل لا تسمى عبادة؛ لأن العبادة هي توجه إلى المعبود على غاية الحب والخضوع.

يقول الإمام ابن تيمية: "والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح؛ فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، وإنما ذلك بعلمه وحاله، كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله بمعرفته، ومحبته، هو أصل الدعوة"

(4)

.

(1)

الدرر السنية (2/ 290 - 291).

(2)

انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 372).

(3)

معارج القبول (2/ 437).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 6).

ص: 354

ويقول رحمه الله: "وإذا كان أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الله أصل التوحيد العملي، وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة، مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام"

(1)

.

ويقول الشيخ حافظ حكمي: "ثم اعلم أنها لا تقبل الأعمال الظاهرة ما لم يساعدها عمل القلب، ومناط العبادة: هي غاية الحب مع غاية الذل، ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر"

(2)

.

ثانيًا: قررت القاعدة أصول التعبد لله تبارك وتعالى، التي يسير بها العبد إلى ربه تبارك وتعالى، وهي المحبة والخوف والرجاء، فلا تصح عبادة بدون هذه الأصول الثلاثة، فإن المحبة تستوجب الذل والخوف والرجاء، ولا بد، فلا تنفع محبة بدون أصل الخوف والرجاء، ولا ينفع كل من الرجاء والخوف بدون محبة، ومثال ذلك: الطائر الذي يطير في جو السماء، فإن المحبة هي رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فلا يستقر سيره وطيرانه بدون واحد من الثلاثة.

يقول الإمام ابن القيم: "الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها؛ وهي الخوف، والرجاء، والمحبة، وقد ذكره سبحانه في قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56، 57] فجمع بين المقامات الثلاثة؛ فإن ابتغاء الوسيلة إليه: هو التقرب إليه بحبه، وفعل ما يحبه، ثم يقول: ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، فذكر الحب والخوف والرجاء؛ والمعنى: إن الذين تدعونهم من دون الله؛ من الملائكة، والأنبياء،

(1)

قاعدة في المحبة (ص 68).

(2)

معارج القبول (2/ 437).

ص: 355

والصالحين، يتقربون إلى ربهم، ويخافونه، ويرجونه، فهم عبيده كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه، وأنتم وهم عبيد له، وقد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، فجعل الخوف منه شرطًا"

(1)

.

ويقول رحمه الله أيضًا: "فصل: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر" فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد، وكاسر، ولكن السلف: استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف

فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه"

(2)

.

ويقول- الإمام المجدد- محمد بن عبد الوهاب في تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]: "هذه الآيات الثلاث تضمنت ثلاث مسائل؛ (الآية الأولى): فيها المحبة؛ لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه

(الآية الثانية): فيها الرجاء، و (الآية الثالثة): فيها الخوف، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث؛ بمحبتك، ورجائك، وخوفك، فهذه الثلاث (أركان العبادة)، وصرفها لغير الله شرك، وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منهن، كمن تعلق بالمحبة وحدها، أو تعلق بالرجاء وحده، أو تعلق بالخوف وحده، فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك، وفيها من الفوائد: الرد على (الثلاث الطوائف) التي كل طائفة تتعلق بواحدة منها، كمن عَبَدَ الله تعالى بالمحبة وحدها، وكذلك من عَبَدَ الله بالرجاء

(1)

طريق الهجرتين (ص 422).

(2)

مدارج السالكين (1/ 517).

ص: 356

وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج"

(1)

.

ثالثًا: تضمنت القاعدة الرد على كل من تعبد لله بواحد من هذه الثلاثة، كمن ادعى محبة الله تعالى بدون الخوف والرجاء، أو تعبَّد لله بالخوف وحده، أو بالرجاء وحده، فاعلم أنه لا تصح محبة ولا تكمل إلا إذا قارنها أصل الخوف من الله تعالى، والرغبة فيه عز وجل، وهكذا كل واحد من الثلاثة لا يصح بدون البقية، فهي متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر.

قال وهب بن منبه

(2)

: "قال حكيم من الحكماء: إني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة قط فأكون كالأجير السوء، إذا أعطي عمل، وإذا لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده مخافة النار قط فأكون كالعبد السوء، إن خاف عمل، وإن لم يخف لم يعمل، وأنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره"

(3)

.

يقول الإمام ابن رجب بعد أن ذكر أثر وهب بن منبه هذا: "وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته: وهو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده، أو على وجه الخوف وحده، وهذا حسن، وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق

(4)

، ومن عبده

(1)

مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان (ص 383).

(2)

هو: أبو عبد الله، وهب بن منبه بن كامل الأبناوي، اليماني، تابعي ثقة، أخذ عن ابن عباس، وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم، ولد سنة 34 هـ، ومات سنة 114 هـ، وقيل: 113 هـ. [انظر ترجمته في: التاريخ الكبير (8/ 164)، وتذكرة الحفاظ (1/ 100)].

(3)

حلية الأولياء (4/ 53 - 54)، والمقصود الجمع بين هذه الأركان الثلاثة للعبادة، كما هي حال الأنبياء والمرسلين؛ إذ كانوا يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، ولا يخفى أن جعل العبادة من أجل المحبة فقط لا غير دون الخوف والرجاء من عقائد أهل التصوف التي ضلوا بسببها.

(4)

يقول السبكي في معنى زنديق في قول مكحول: (وقول مكحول: من عبد الله بالمحبة =

ص: 357

بالخوف، والرجاء، والمحبة، فهو موحد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان.

وهؤلاء العارفون لهم ملحظان، أحدهما: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع، ويحب، ويبتغي قربه، والوسيلة إليه، مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده، ويعاقبهم كما قال القائل:

هب لبعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق

حياء العباد من المنعم

وقد أشار هذا إلى أن نعمه على عباده تستوجب منهم شكره عليها، وحياءهم منه، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم:"لما قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا"

(1)

.

والملحظ الثاني: أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار، فأعلى الخوف خوف البعد، والسخط، والحجاب عنه سبحانه، كما قدم سبحانه ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم النار في قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

= فهو زنديق؛ فمعناه: من لم يعبده خوفًا منه، ولا رجاءً، ولا لصفة أخرى غير المحبة، ولا شك أنه متى فرض بهذه المثابة انتفى اعتقاد الوجوب، وصار كمن يعمل لمن يحبه عملًا لأجل محبته له، لا لاستحقاقه عليه ذلك العمل، ومن اعتقد هذا في حق الله تعالى فهو كافر، وإظهاره للإيمان بلسانه وبطاعاته الظاهرة فقط مثل إظهار الزنديق الإسلام بالشهادتين، وإسراره الكفر؛ فلهذا شبهه بالزنديق من جهة أن اعتقاده كفر، وعمله عمل الإسلام). [فتاوى السبكي (2/ 559)].

(1)

رواه البخاري في صحيحه، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه (1/ 380)، برقم (1078)، ومسلم في صحيحه، باب: باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/ 2171)، برقم (2819).

ص: 358

لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15، 16].

كما أن أعلى الرجاء: ما تعلق بذاته سبحانه من رضاه، ورؤيته، ومشاهدته، وقربه، ولكن قد يغلط بعض الناس في هذا، فيظن: أن هذا كله ليس بداخل في نعيم الجنة، ولا في مسمى الجنة إذا أطلقت، ولا في مسمى عذاب النار، أو في مسمى النار إذا أطلقت، وليس كذلك.

وبقي ها هنا أمر آخر وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة، لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيمِ المتعلق بالأمور المخلوقة، لا يحبه العارفون، ولا يطلبونه، وهذا أيضًا غلط، والنصوص الدالة على خلافه كثيرة جدًا، ظاهرة.

وهو أيضًا مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم، وكراهة ما ينافرهم، وإنما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره، واصطلامه، واستغراقه، وغيبة عقله، فظن أن العبد لا يبقى له إرادة أصلًا، فإذا رجع إليه عقله، وفهمه، علم أن الأمر على خلاف ذلك.

ويستمر الإمام ابن رجب في توضيح هذه المسألة فيقول: ونحن نضرب لذلك مثلًا يتضح به هذا الأمر -إن شاء الله تعالى- وهو: أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، واستدعاهم الرب سبحانه إلى زيارته، ومشاهدته، ومحاضرته يوم المزيد، فإنَّهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة، حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجهه جل جلاله"

(1)

.

ويقول الإمام ابن تيمية: "والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا

(1)

انظر: التخويف من النار لابن رجب (ص 16 - 18).

ص: 359

تنفع صاحبها، بل تضره؛ لأنَّها توجب التواني والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله، ومحبته له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل"

(1)

.

ويقول أيضًا: "وقال بعضهم: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عَبَدَ الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد)

(2)

؛ وذلك لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله، حتى قالت اليهود والنصارى:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية، ولهذا قرن الخشية بها في قوله:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)} [ق: 32 - 34] "

(3)

.

ويقول الشيخ الحكمي: "ولذا قال من قال من السلف: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد).

قلت: وبيان كلامهم هذا: أن دعوى الحب لله بلا تذلل، ولا خوف، ولا رجاء، ولا خشية، ولا رهبة، ولا خضوع دعوى كاذبة: ولذا ترى من يدعي ذلك كثيرًا ما يقع في معاصي الله عز وجل ويرتكبها، ولا يبالي، ويحتج في ذلك بالإرادة الكونية، وأنه مطيع لها، وهذا شأن

(1)

مجموع الفتاوى (15/ 20).

(2)

هذا القول ينسب إلى مكحول الدمشقي، [وانظر إلى كلام السبكي السابق].

(3)

المصدر السابق (10/ 81 - 82).

ص: 360

المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] وغير ذلك، وإمامهم في ذلك الاحتجاج: هو إبليس.

وكذلك الرجاء وحده إذا استرسل فيه العبد تجرأ على معاصي الله، وأمن مكر الله، وقد قال الله تعالى:{فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].

وكذلك الخوف وحده إذا استرسل فيه العبد ساء ظنه بربه، وقنط من رحمته، ويئس من روحه، وقد قال تعالى:{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 87]، وقال:{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} [الحجر: 56]، فالأمن من مكر الله خسران، واليأس من روحه كفران، والقنوط من رحمة الله ضلال وطغيان، وعبادة الله عز وجل بالحب، والخوف، والرجاء، توحيد وإيمان؛ فالعبد المؤمن بين الخوف والرجاء كما قال تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]، وقال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وبين الرغبة والرهبة كما قال تعالى في آل زكريا عليه السلام:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90] "

(1)

.

رابعًا: ومما سبق يتبين بطلان قول من قال: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، أو حبًا لذاتك، فهذا وأمثاله مما زيَّنه الشيطان لأرباب العبادة والسلوك، فخرج بهم عن المنهج المحمدي الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، بل هو منهج جميع الأنبياء والمرسلين، وكان من جملة الأسباب في ضلال

(1)

معارج القبول (2/ 437 - 438).

ص: 361

هؤلاء المنحرفين في هذا الباب خطؤهم في مفهوم الجنة الشرعي، حيث قصروا ذلك المفهوم على المآكل والمشارب واللباس، والنكاح، والتمتع بالمخلوقات، ونفوا أن يكون الخالق نفسه من النعيم في الجنة، وأن رؤيته ومحبته، والقرب منه من مفهوم الجنة.

يقول الإمام ابن تيمية: "ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قالى: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه: أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، والسماع، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية، أو من يقر بها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية الله، كما يقوله طائفة من المتفقهة، فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات، ولهذا قال بعض من غلط من المشائِخ لما سمع قوله:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، قال: فأين من يريد الله، وقال آخر في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه، وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر.

والتحقيق: أن الجنة: هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة كما أخبرت به النصوص، وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم، يدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقولى فإنما قصده: أنك لو لم تخلق نارًا، أو لم تخلق جنة، لكان يجب أن تعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا: ما يتمتع فيه المخلوق.

ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة الله ما يدعوه إلى طاعته، ومن إجلاله، والحياء منه، ما ينهاه عن معصيته، كما قالى عمر رضي الله عنه: (نعم

ص: 362

العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)

(1)

؛ أي: هو لم يعصه، ولو لم يخفه فكيف إذا خافه؛ فإن إجلاله، وإكرامه لله يمنعه من معصيته.

فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه، ورجاؤه، بالتعذب باحتجاب الرب عنه، والتنعم بتجليه له، فمعلوم أن هذا من توابع محبته له، فالمحبة: هي التي أوجبت محبة التجلي، والخوف من الاحتجاب، وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق، والتنعم به، فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته، ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء، كما في الحديث:"إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس"

(2)

، وهو

(1)

اشتهر في كلام الأصوليين، وأصحاب المعاني، وأهل اللغة، من حديث عمر، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر البهاء السبكي: أنه لم يظفر به بعد البحث والتفحص، وهذا ما قاله جمع من أهل اللغة، ونقل السخاوي عن ابن حجر أنه ظفر به في مشكل الحديث لابن قتيبة، ولكن بدون إسناد، ولكن جاء بمعناه عن سالم مولى أبي حذيفة، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن الأرقم قال: حضرت عمر عند وفاته مع ابن عباس، والمسور بن مخرمة، فقال عمر سمعت رسول الله يقول:"إن سالما شديد الحب لله عز وجل لو كان لا يخاف الله ما عصاه" قال السخاوي: (وسنده ضعيف)، وذكر كثجر من أهل العلم بأنه لا أصل له. [انظر: المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 701)، كشف الخفاء للعجلوني (2/ 428)، والنخبة البهية لمحمد الأمير المالكي (ص 128)، والمصنوع لعلي القارئ (ص 202)، وكذا: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للقارئ (ص 372)، واللؤلؤ المرصوع لمحمد خليل الطرابلسي (ص 210)، والتذكرة في الأحاديث المشتهرة لبدر الدين الزركشي (ص 169)، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (ص 409)، والفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة للشيخ مرعي المقدسي (ص 112)، ونقل الزركشي رحمه الله عن بعض الفقهاء في معناه:"وهو الذي يقتضيه قول عمر: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) وتقديره: أنه لو لم يخف الله لم يعصه؛ لإجلاله لذاته وتعظيمه، فكيف وهو يخاف، وإذا كان كذلك كان عدم عصيانه معللًا بالخوف والإجلال والإعظام". [البحر المحيط في أصول الفقه (4/ 158 - 157)].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفات=

ص: 363

يبين غاية تنعمهم بذكر الله، ومحبته، فالخوف من التعذب بمخلوق، والرجاء له يسوقه إلى محبة الله التي هي الأصل، وهذا كله ينبني على أصل المحبة"

(1)

.

وبذلك يتبين بطلان الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن شداد بن أوس قال: (بكى شعيب النبي صلى الله عليه وسلم من حب الله حتى عمي، فرد الله إليه بصره، وأوحى إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أشوقًا إلى الجنة، أم خوفًا من النار، قال: إلهي وسيدي أنت تعلم ما أبكي شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من النار، ولكني اعتدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي يصنع بي، فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يك ذلك حقًا فهنيئًا لك لقائي يا شعيب؛ لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي)

(2)

.

ويتبيَّن ضعف الحديث بما يلي:-

1 -

مخالفة الحديث لنص القرآن، حيث ذكر الله تعالى حال جملة من الأنبياء في عبادتهم ودعائهم لله تبارك وتعالى، وأنهم كانوا يدعونه خوفًا من عذابه، وطمعًا ورجاء في ثوابه، كما قال سبحانه:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]، ونبي الله شعيب شأنه شأن هؤلاء الأنبياء ممن عبد الله حبًا لذاته وخوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه؛ ولذا عندما أعرض قومه عن دعوته حذرهم من عذاب الله كما قال عز وجل: {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ

= الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا (4/ 2180)، برقم (2835)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 62 - 64).

(2)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 315)، ترجمة رقم (3362)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (9/ 19)، ترجمة رقم (751)، وكنز العمال (12/ 216)، برقم (35580)، كلهم من رواية: إسماعيل بن الحسن بن بندار الأستراباذي.

ص: 364

تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)} [هود: 93].

2 -

كما أن الحديث ضعيف من ناحية السند لا يثبت، وحكم عليه أهل العلم بالنكارة والضعف

(1)

.

يقول الشيخ الألباني بعد ذكره للحديث وتضعيفه: "ومما ينكر في هذا الحديث قوله: (ما أبكي شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من النار)!، فإنَّها فلسفة صوفية، اشتهرت بها رابعة العدوية، إن صح ذلك عنها، فقد ذكروا أنها كانت تقول في مناجاتها:(رب! ما عبدتك طمعًا في جنتك، ولا خوفًا من نارك). وهذا كلام لا يصدر إلا ممن لم يعرف الله تبارك وتعالى حق معرفته، ولا شعر بعظمته وجلاله، ولا بجوده وكرمه، وإلا لتعبده طمعًا فيما عنده من نعيم مقيم، ومن ذلك رؤيته تبارك وتعالى، وخوفًا مما أعده للعصاة والكفار من الجحيم والعذاب الأليم، ومن ذلك حرمانهم النظر إليه كما قال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، ولذلك كان الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم

(1)

في السند عدة علل منها: إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار الأستراباذي، قال ابن طاهر:(بان كذبه ومزقوا حديثه)، وقال عنه الخطيب:(ولم يكن موثوقًا به في الرواية)؛ ولذلك حكم على الحديث بأنه منكر، ورواه ابن عساكر من طريق علي بن الحسن بن بندار والد إسماعيل كما رواه إسماعيل فبرئ إسماعيل من عهدته، لكن والده أيضأ ضعيف، قال عنه الذهبي:(اتهمه محمد بن طاهر، وقال ابن النجار: ضعيف)، ولذا حكم الحفاظ على الحديث بالضعف: قال الإمام السمعاني بعد ذكره: (والخبر غريب)، وقال الذهبي:(هذا حديث باطل لا أصل له)، وقال ابن الجوزي:(هذا حديث لا أصل له)، وقال ابن كثير بعد ذكره للحديث:(وهو غريب جدًّا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي)، وقال عنه الشيخ الألباني:(ضعيف جدًّا). [انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (30/ 172)، وتاريخ بغداد للخطيب (6/ 315)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/ 188)، والعلل المتناهية لابن الجوزي (1/ 60)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 399)، وتفسير السمعاني (4/ 135)، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، (2/ 425) برقم (998)].

ص: 365

العارفون بالله حقًا لا يناجونه بمثل هذه الكلمة الخيالية، بل يعبدونه طمعًا في جنته، وكيف لا وفيها أعلى ما تسمو إليه النفس المؤمنة، وهو النظر إليه سبحانه، ورهبة من ناره، ولما لا، وذلك يستلزم حرمانهم من ذلك، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر نخبه من الأنبياء:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]؛ ولذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أخشى الناس لله كما ثبت في غير ما حديث صحيح عنه. هذه كلمة سريعة حول تلك الجملة العدوية، التي افتتن بها كثير من الخاصة فضلًا عن العامة، وهي في الواقع {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] "

(1)

.

خامسًا: وكان من آثار هذه العقيدة: أن ترك أصحابها دعاء الله تعالى؛ فلا يسألونه الجنة، ولا يستعيذون به من النار، بل يعبدونه لذاته، وما يستحقه من الكمال والجلال، ولا شك أن هذا غلط مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه، وهدي أصحابه رضي الله عنهم بل مخالف لهدي جميع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، كما حكى الله عز وجل عنهم ذلك بقوله:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90] وكما قال عز من قائل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]، فأخبر سبحانه بأنهم كانوا يعبدونه بالرغب والرهب، وأنهم كانوا يرجون رحمته وجنته سبحانه، ويخافون من عذابه وناره وأليم عقابه.

فحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أنه كان دائم الدعاء والخضوع لربه تبارك وتعالى، يدعوه، ويسأله الجنة، ويستعيذ به من النار، خلافًا لما عليه من

(1)

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني (2/ 426 - 427).

ص: 366

اعتقد أن العبادة لا تكون إلا لحصول نفع، أو دفع شر، ولذا ثبت عنه أنه كان يعلم أصحابه ذلك، كما جاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء "اللَّهُمَّ إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللَّهُمَّ إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرًا"

(1)

.

كما جاء في "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"

(2)

.

بل كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن كما ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)

(3)

.

وثبت عنه عليه السلام أنه: (قال لرجل: كليف تقول في الصلاة؟ قال:

(1)

رواه الإمام أحمد في مسند عائشة (6/ 133)، برقم (25063)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الدعاء، باب: ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تدعو به (6/ 44)، برقم (29345)، ورواه ابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب: الجوامع من الدعاء (2/ 1264)، برقم (3846)، وصححه الشيخ الألباني. [انظر: السلسلة الصحيحة (4/ 56) برقم (1542)].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 412)، برقم (588).

(3)

رواه أبو داود في سننه، كتاب: باب: (2/ 90)، برقم (1452).

ص: 367

أتشهد، وأقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك

(1)

، ولا دندنة معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حولها ندندن")

(2)

.

يقول الإمام ابن تيمية: (وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله، ورسله، وجميع أولياء الله السابقين المقربين، وأصحاب اليمين، كما في "السُّنن": أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه، "كيف تقول في دعائك؟ " قال: أقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حولها ندندن"، فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ، وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار"

(3)

.

ويتبين بذلك أن طلب الجنة والاستعاذة من النار لا يعارض محبة الله تعالى، وكونه يستحق العبادة لما اتصف من صفات الجمال والكمال، كما أن النظر إلى الثواب والعقاب لا يعتبر مما ينقص رتبة

(1)

يقول الإمام النووي: "الدندنة: كلام لا يفهم معناه، ومعنى "حولها ندندن"؛ أي: حول الجنة والنار، أو حول مسألتهما" إحداهما: سؤال طلب، والثانية: سؤال استعاذة، والله أعلم"، وقال أبو عبيد: "الدندنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته، ولا تفهم عنه؛ لأنه يخفيه، وإنما أراد: أن هذا تسمعه منا، إنما هو من أجل الجنة والنار فهذه الدندنة". [الأذكار للنووي (57)، وغريب الحديث لابن سلام الهروي (1/ 260)، وانظر: النهاية (2/ 137)].

(2)

رواه أبو داود في سننه، كتاب: باب: في تخفيف الصلاة (1/ 210)، برقم (792)، قال النووي:"رواه أبو داود بإسناد صحيح"، [المجموع (3/ 436)].

(3)

الاستقامة (2/ 110 - 111)، يقول السبكي:"ويظن بعض الجهلة خلاف ذلك، وهو جهل، فمن لم يسأل الله الجنة، والنجاة من النار، فهو مخالف للسُّنَّة؛ فإن من سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولما قال ذلك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، وقال ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولها ندندن". فهذا سيد الأولين والآخرين يقول هذه المقالة، فمن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل ختال".

[فتاوى السبكي (2/ 560)، وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 27)].

ص: 368

الإنسان عند الله تعالى، بل هذا مما يحبه الله تعالى من عباده أن يفعلوه، ولهذا طلب الله عز وجل منهم ودعاهم إلى الجنة، كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25].

ويسوق الإمام ابن القيم عددًا من الأدلة في بيان أن سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار هو من صفات عباد الله المؤمنين، وأوليائه المتقين فيقول:"أما إذا كان مطلوبهم الأعظم الذاتي: هو قربه، والوصول إليه، والتنعم بحبه، والشوق إلى لقائه، وانضاف إلى هذا طلبهم لثوابه المخلوق المنفصل، فلا علة في هذه العبودية بوجه ما، ولا نقص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولها ندندن"؛ يعني: الجنة، وقال: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"

(1)

، ومعلوم أن هذا: مسكن خاصة الخاصة، وسادات العارفين، فسؤالهم إياه ليس علة في عبوديتهم، ولا قدحًا فيها"

(2)

.

ويقول رحمه الله أيضًا: "والقرآن والسُّنَّة مملوءان من الثناء على عباده، وأوليائه بسؤال الجنة، ورجائها، والاستعاذة من النار، والخوف منها

والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته؛ ليكونا دائمًا على ذكر منهم، فلا ينسونهما؛ ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة، والعمل على حصول الجنة، والنجاة من النار هو محض الإيمان

وقد حض النبي عليها أصحابه وأمته، فوصفها وجلَّاها لهم؛ ليخطبوها وقال: "ألا مشمر للجنة، فإنها ورب الكعبة: نور يتلألأ،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله (3/ 1028)، برقم (2637)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عن -.

(2)

مدارج السالكين (1/ 480).

ص: 369

وريحانة تهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد، ونهر مطرد،

" الحديث، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، نحن المشمرون لها، فقال: "قولوا: إن شاء الله"

(1)

".

ولو ذهبنا نذكر ما في السُّنَّة من قوله: من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة؛ تحريضًا على عمله لها، وأن تكون هي الباعثة على العمل، لطال ذلك جدًا، وذلك في جميع الأعمال، فكيف يكون العمل لأجل الثواب، وخوف العقاب معلولًا ..

وأيضًا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته، ويستعيذوا به من ناره، فإنَّه يحب أن يسأل، ومن لم يسأله يغضب عليه، وأعظم ما سئل الجنة، وأعظم ما استعيذ به من النار، فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب، مرضي له، وطلبها عبودية للرب، والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها.

وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه، والهرب

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب: صفة الجنة (2/ 1448)، برقم (4332)، وابن حبان في صحيحه، باب: وصف الجنة وأهلها (16/ 389)، برقم (7381)، والبزار في مسنده (7/ 43)، برقم (2591)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 283)، برقم (5654)، كلهم من رواية محمد بن مهاجر، عن الضحاك المعافري، عن سليمان بن موسى عنه، والضحاك: قال عنه الحافظ مقبول، وقال الذهبي: لا يعرف، ووثقه ابن حبان في الثقات. وقال عنه الإمام المنذري:(والضحاك: لم يخرج له من أصحاب الكتب الستة أحد غير ابن ماجه، ولم أقف فيه على جرح ولا تعديل لغير ابن حبان، بل هو في عداد المجهولين)، وقال البزار:(وهذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي إلا أسامة، ولا نعلم له طريقًا عن أسامة إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن الضحاك المعافري إلا هذا الرجل: محمد بن مهاجر). [انظر: الترغيب و الترهيب (4/ 284)، ومسند البزار (7/ 45)، وتقريب التهذيب (ص 280)، برقم (2981)، والمغني في الضعفاء (1/ 312)، برقم (2917)، والثقات (8/ 325)، برقم (13688)]، والحديث ضعفه الشيخ الألباني. [انظر: السلسلة الضعيفة (7/ 370)، برقم (3358)].

ص: 370

من هذه، فترت عزائمه، وضعفمت همته، ووهى باعثه، وكلما كان أشد طلبًا للجنة، وعملًا لها، كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم، وهذا أمر معلوم بالذوق.

ولو لم يكن هذا مطلوبًا للشارع، لما وصف الجنة للعباد، وزينها لهم، وعرضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها، وما عداه أخبرهم به مجملًا، كل هذا تشويقًا لهم إليها، وحثًا لهم على السعي لها سعيها.

وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، وهذا حث على إجابة هذه الدعوة، والمبادرة إليها، والمسارعة في الإجابة.

والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسمًا لمجرد الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة، اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور، إلى هذه اللذة أبدًا، فأيسر يسير من رضوانه أكبر في الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وأتى به منكرًا في سياق الإثبات؛ أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة:

قليل منك يقنعني ولكن

قليلك لا يقال له قليل

(1)

وكذلك النار، أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب

(1)

لم أقف على قائله، وذكره السيوطي في الإتقان ضمن أسباب وأغراض التنكير والتعريف، فقال:(السادس: التقليل، نحو {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}؛ أي: رضوان قليل منه أكبر من الجنات؛ لأنه رأس كل سعادة: قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل). [الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/ 557)].

ص: 371

عن الله، وإهانته، وغضبه، وسخطه، والبعد عنه أعظم من التهاب النار في أجسامهم، وأرواحهم، بل التهاب هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.

فمطلوب الأنبياء، والمرسلين، والصديقين، والشهداء، والصالحين هو الجنة، ومهربهم من النار، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل"

(1)

.

سادسًا: كما أنه يستفاد من القاعدة في الرد على من جعل الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب بدون إقرار اللسان، وبدون عمل القلب من المحبة والخضوع والخوف والرجاء وبدون الانقياد إلى الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل المحبة والخضوع أصل وركن في الإيمان لا يصح إيمان بدون محبة الله تعالى، بل هي شرطه الأعظم، ولا يقبل من أحد إيمان ولا إسلام بدون هذه المحبة لله تعالى.

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري في بيان مقالات أهل الفرق في حقيقة الإيمان: "فالفرقة الأولى منهم: يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله، وبرسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وإن ما سوى المعرفة؛ من الإقرار باللسان، والخضوع بالقلب، والمحبة لله، ولرسوله، والتعظيم لهما، والخوف منهما، والعمل بالجوارح، فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله: هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان، وزعمت الجهمية: أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب، دون غيره من الجوارح"

(2)

.

ثم إن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضًا لكن على

(1)

انظر: مدارج السالكين (2/ 78 - 81).

(2)

مقالات الإسلاميين (ص 132).

ص: 372

طريق الإشراك بل قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جلَّ وعلا شرعًا بل قيل: إنهم غير عابدين لغة أيضًا؛ لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل

(1)

.

(1)

انظر: روح المعاني (15/ 115).

ص: 373