الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سؤال عن حكم التبرك بالأموات: "لا يجوز لأحد أن يتبرك بالأموات أو قبورهم
…
؛ لأن العبادة حق الله وحده ومنه تطلب البركة وهو سبحانه هو الموصوف بالتبارك كما قال عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]، وقال سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]، ومعنى ذلك: أنه سبحانه بلغ النهاية في العظمة والبركة"
(1)
.
*
المسألة الخامسة [*]: فوائد القاعدة وتطبيقاتها
المتأمل لهذه القاعدة يظهر له العديد من الفوائد والفروع التي يمكن الاستفادة منها، وفيما يلي أستعرض ما ظهر لي من ذلك:
أولًا: دلت القاعدة على أن البركة والتبارك والمباركة من الصفات الذاتية الفعلية لله سبحانه وتعالى، فبركته في ذاته مستلزمة لمباركته تبارك وتعالى لمن شاء من خلقه، وهذه المباركة هي صفة فعل لله تعالى، والفعل منها (بَارَكَ)، والمفعول منها (مُبَارَك).
وقد ذكرت فيما مضى طرفًا من الآيات القرآنية، وأقوال أهل العلم الدالة على هذا المعنى.
ومما يدل على أن البركة صفة لله تبارك وتعالى ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أيوب يغتسل عريانًا فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى، قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك"
(2)
.
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (4/ 330).
(2)
البخاري في الصحيح، كتاب الغسل، باب: من اغتسل عريانًا (1/ 107)، رقم (275).
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع «السادسة»
فأضاف البركة إليه سبحانه وتعالى إضافة الصفة للموصوف.
يقول الحسن: " (تبارك) صفة من صفات الله تعالى؛ لأن كل بركة تجيء منه"
(1)
.
ويقول ابن القيم: "فتباركه سبحانه صفة ذات له وصفة فعل"
(2)
.
وقد جاء عن السلف عدة تفسيرات لمعنى هذه الصفة وفيما يلي أذكر بعضها:
قال ابن عباس رضي الله عنه: "جاء بكل بركة"
(3)
. وقيل: "تعظَّم"
(4)
.
وقيل: "ارتفع، والمبارك المرتفع"
(5)
. وقيل: "تقدس، والقدس الطهارة"
(6)
.
وقيل: "تبارك الله؛ أي: باسمه يتبرك في كل شيء"
(7)
.
وكل هذه الأقوال ذكرها الإمام البغوي ثم قال بعدها: "وقال المحققون: معنى هذه الصفة: ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت"
(8)
.
يقول الإمام ابن عطية الأندلسي: "تبارك: تفاعل من البركة؛ وهي التزيد في الخيرات"
(9)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وحقيقة اللفظة أن البركة: كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلًا منه تبارك وتعالى. وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان"
(10)
؛ أي: الكثرة والنماء مع الثبات والدوام، والله أعلم.
(1)
تفسير السمعاني (4/ 5).
(2)
جلاء الأفهام (ص 306).
(3)
تفسير البغوي (2/ 165).
(4)
المصدر السابق (3/ 360).
(5)
المصدر السابق (2/ 165).
(6)
المصدر السابق (2/ 165).
(7)
المصدر السابق (2/ 165).
(8)
المصدر السابق (2/ 165).
(9)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (5/ 337).
(10)
بدائع الفوائد (2/ 411).
ويقول ابن كثير: "تبارك: وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة"
(1)
.
ويقول الشيخ الشنقيطي: "الأظهر في معنى (تبارك) بحسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى تبارك: تكاثرت البركات والخيرات من قبله؛ وذلك يستلزم
(2)
عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات، ويدر الأرزاق على الناس، هو وحده المتفرد بالعظمة واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير ولا رزق؛ كالأصنام وسائر المعبودات من دون الله لا يصح أن يعبد، وعبادته كفر مخلد في نار جهنم"
(3)
.
كما أنه لا يجوز أن تطلق لفظة (تبارك)
(4)
على غير الله تعالى، فهي صفة خاصة بالله عز وجل، ولذا فإنك تجدها مطردة في جميع النصوص مضافة إلى الله سبحانه وتعالى، أو إلى أسمائه، ولم تضف ولا في موضع واحد إلى غيره.
يقول الإمام ابن عطية: "وتبارك: فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره؛ ولذلك لم يصرف منه مستقبل ولا اسم فاعل، وهو صفة فعل؛ أي: كثرت بركته"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم (3/ 309).
(2)
المفعولات دالة على الأفعال، والأفعال دالة على الصفات، والصفات لا تنفك عن الذات.
(3)
أضواء البيان (6/ 4).
(4)
كما أن (تبارك) فعل جامد لا يتصرف فلا يأتي منه مضارع ولا مصدر، والسبب في ذلك عدم وجود النص، فالواجب عند ذلك التوقيف؛ إذ صفاته سبحانه وأسماؤه مبناها على التوقيف. [انظر: أضواء البيان (6/ 4 - 5)].
(5)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي (4/ 199).
وقال ابن القيم مفصلًا لهذا المعنى: "والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها (تبارك)، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه (المُبَارِك)، وعبده ورسوله (المُبَارَك)، كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارَك، وأما صفته (تبارك) فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، أفلا تراها كيف اطردت فى القرآن جارية عليه، مختصة به، لا تطلق على غيره"
(1)
.
وقال الشوكاني: "قال العلماء: هذه اللفظة -أى: تبارك- لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي"
(2)
.
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: "قال العلماء: معنى تبارك؛ أي: كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون: إن هذا لا يوصف به إلا الله، فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن هذا الوصف خاص بالله"
(3)
.
والسبب في عدم جواز إطلاقها على غير الله تعالى هو أنها لم ترد في النصوص مسندة لغير الله عز وجل، والواجب الوقوف على ما ورد به الشرع، هذا أولًا؛ وثانيًا: لتضمنها لغاية التعظيم والثناء، ونهاية التمجيد والتبجيل، وكل ذلك لا يليق إلصاقه بمخلوق قط، فهي كلمة تعظيم لا تليق إلا بالله تعالى
(4)
.
ومما سبق يتضح لنا أن التبارك والبركة صفة لله تعالى، ذاتية وفعلية، وأن لفظ (تبارك) خاص بالله عز وجل لا يطلق على غيره سبحانه وتعالى.
ثانيًا: طلب البركة واعتقادها ورجاؤها، عبادة لله عز وجل، وبيان
(1)
انظر: بدائع الفوائد (2/ 411).
(2)
فتح القدير (4/ 60).
(3)
فتاوى الشيخ ابن عثيمين (10/ 1103).
(4)
فتح القدير، للشوكاني (4/ 60).
ذلك: أن ما شرع لنا التماس البركة منه، أو به، لا يخلو إما أن يكون واجبًا أو مستحبًا أو مباحًا، فالواجب والمستحب لا شك من دخوله في العبادة، وأما المباح فإن قصد به طاعة الله تعالى، أو معنى صحيحًا يحبه الله فإنَّه يدخل في العبادة كذلك، أما إذا لم ينو قصدًا حسنًا محبوبًا لله يثاب عليه فلا يدخل التماسه في العبادة.
كما أن اعتقاد وجود البركة فيما نص عليه الشرع هو من التصديق الواجب الذي يثاب عليه العبد، ويؤجر عليه، بل هو أصل لا يصح الإيمان بدونه؛ لأن عدم اعتقاده يكون من باب التكذيب لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز في جواب سؤال حول التبرك بالقبور: "لأن العبادة حق الله وحده ومنه تطلب البركة"
(1)
.
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: "لأن التبرك بالله وأسمائه لا يمكن أن يستعمل إلا على الوجه الذي ورد؛ لأنَّه عباده، والعبادة مبناها على التوقيف"
(2)
.
ثالثًا: دلت القاعدة على بطلان فعل المشركين من التماسهم للبركة من الآلهة والأوثان من دون الله سبحانه وتعالى، لأنَّهم بهذا الفعل وهو طلب البركة من الآلهة، واعتقاد أنهم يهبون البركة في الأموال والأولاد، وأن دوام الخير وثباته بسبب القرب منهم، قد صرفوا العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فالطلب والرجاء لا يكون إلا من الله وفي الله تعالى، وهم بفعلهم هذا قد تعلقوا بغير الله في حصول البركة والخير والفضل، ولا شك أنهم عاجزون كل العجز عن تحقيق ما يطلبونه منهم.
فالعلة التي صاروا بها مشركين كونهم اعتقدوا أن الآلهة تملك
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/ 330).
(2)
فتاوى نور على الدرب، لابن عثيمين، التوحيد والعقيدة.
البركة، وتهبها لهم؛ إما بذاتها، أو بوساطتها عند الله تعالى، وكل ذلك شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام، أضف إلى هذا ما يقوم بقلوب هؤلاء من عظيم الخضوع وغاية المحبة، وخالص الخشوع.
ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من سأله في غزوة حنين، فقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي
(1)
: (أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون. إنها السُّنن لتركبن سُنن من كان قبلكم
…
"
(2)
.
فشبه النبي صلى الله عليه وسلم طلبهم هذا من أجل التبرك باتخاذ إله مع الله، وسمى التماس التبرك منه، واعتقاد البركة فيه تألهًا.
وذلك لكون المشركين اعتقدوا أن الأوثان تملك البركة، وتعطيها من تشاء، ثم رتبوا على ذلك دعاءها والرغبة إليها، والخضوع بين يديها وصرفوا لها صنوف العبادات والتعظيمات.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "عباد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها، ودعائها، والاستعانة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركتها، وشفاعتها، وغير ذلك، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار
(1)
أبو واقد الليثي مختلف في اسمه قيل: الحارث بن مالك وقيل: ابن عوف وقيل: عوف بن الحارث بن أسيد بن جابر بن عبد مناة بن شجع بن ليث بن بكر بن مناف، شهد بدرًا. [انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 455)].
(2)
مسند الإمام أحمد (5/ 218)، رقم (21947).
والأحجار؛ كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر، أو حجر، أو شجر، فقد ضاهى عبَّاد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك. فالله المستعان"
(1)
.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله، وطلبها من غير الله شرك"
(2)
.
ويقول رحمه الله في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)} [النجم: 19]: "دلت الآية على أن الله تعالى أنكر على المشركين ما كانوا يفعلونه عند هذه الأوثان، وذلك أنهم كانوا يعتقدودن حصول البركة بتعظيمها، ودعائها، والاستعانة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركتها وشفاعتها، وغير ذلك"
(3)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حكم من يتبرك بالأشجار والأحجار: "وحكمه أنه مشرك الشرك الأكبر، لكونه تعلق على غير الله في حصول البركة من غيره، وإن كان الله جعل فيه بركة"
(4)
.
وقد ردّ الشيخ النجمي -حفظه الله- على من قال بأن التبرك: معلوم من الدين وسير السلف الصالح، قال: "نعم معلوم من الدين منعه وتحريمه، وجعله من التاله لغير الإله الحى الذي انفرد بالنفع والضر، ومن المعلوم أن الكفار حينما علقوا أسلحتهم بالشجرة زاعمين أنها تبارك هذه الأسلحة قد طلبوا البركة من غير مصدرها، وطلبوا النصر من غير
(1)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 103)، وانظر: الدر النضيد على أبواب التوحيد، للشيخ سليمان الحمدان (ص 90).
(2)
فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/ 115)، رقم (62).
(3)
المصدر نفسه (1/ 124) رقم (63).
(4)
حاشية كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ص 90).
مالكه، وذلك تأليه للشجرة، [و] من تبرك بالموتى فقد طلب البركة من غير مالكها وواهبها جلَّ وعلا"
(1)
.
ويقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -: "فمعنى تبرك المشركين: أنهم كانوا يرجون كثرة الخير، ودوام الخير، ولزوم الخير، وثبات الخير، بالتوجه إلى الآلهة، وهذه الآلهة يكون منها: الصنم الذي من الحجارة، والقبر من التراب، ويكون منها الوثن، والشجر، ويكون منها البقاع المختلفة، كالغار أو عين ماء، أو نحو ذلك، فهذه التبركات المختلفة جميعها تبركات شركية"
(2)
.
هذا ما كان يفعله المشركون مع آلهتهم، إذ إن طلبهم للبركة، ورجاءها، واعتقاد كونهم مالكين لها، من الشرك بالله تبارك وتعالى، وبناء على ذلك صرفوا لهم صنوفًا من العبادات والتألهات، من الدعاء والتعظيم، والعكوف عليهم وغير ذلك.
رابعًا: ما خصه الله بالبركة من الذوات، والأماكن، والأزمان، والأقوال، والأفعال، وغير ذلك، هو محض فضل الله، وبالغ حكمته؛ إذ هو مالك البركة، وخالقها، وواهبها، كما قال سبحانه:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]، ولكن هذا الاختيار والتخصيص له أسباب وموجبات وصفات خلقها الله وقدرها في ذات الشيء الذي بارك فيه، ثم تتفاوت العظمة والقداسة والبركة فيه بعد ذلك بحسب ما يقترن به من أحوال، ويتصل به من أعمال مشروعة يحبها الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام ابن القيم: "فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته، والتخصيص بكرامته. فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان
(1)
أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة (ص 207).
(2)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 127).
والأماكن والأشخاص، وغيرها مشتملة على صفات، وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها الله، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات، وخصها بالاختيار، فهذا خلقه، وهذا اختياره:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة، وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض، وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها، وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة، ونسبوها إليها وهي بريئة منها، وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة؛ لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية، وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدًا، ولا بين ذات الماء وذات النار أبدًا، والتفاوت البيَّن بين الأمكنة الشريفة وأضدادها، والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير؛ فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع، وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضًا بكثير، فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة، والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات، والأذكار، والدعوات".
ثم قال رحمه الله: "ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول، وإنما قصدنا تصويره، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم، ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئًا، والله سبحانه لا يخصص شيئًا ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله؛ نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه، فهو الذي خلقه ثم اختاره بعد خلقه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} "
(1)
.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 53 - 54).
خامسًا: أن الأماكن والأزمان المباركة إنما يحصل نفعها، وتحصل بركتها للشخص الذي يطيع الله تعالى فيها، أما ذات المكان والزمان فلا نفع فيه -يرجع إلى المكلف- بدون القيام بطاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع سُنَّته.
يقول الإمام ابن تيمية: "فالمساجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل، وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي
(1)
وأبي الدرداء
(2)
، وكان أبو الدرداء بدمشق، وسلمان الفارسي بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان:(هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: أن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الرجل عمله)
(3)
"
(4)
.
(1)
هو: سلمان أبو عبد الله الفارسي، ويقال له سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، وقال ابن حبان: من زعم أن سلمان الخير آخر فقد وهم. أصله من رامهرمز، وقيل: من أصبهان، وكان قد سمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث، فخرج في طلب ذلك، فأسر وبيع بالمدينة، فاشتغل بالرق حتى كان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، وكان عالمًا زاهدًا، خيرًا فاضلًا متقشفًا، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وحدث عنه، وكان لبيبًا حازمًا من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم، توفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل: سنة ست وثلاثين في أولها. [ترجمته في: الاستيعاب (2/ 635 - 638)، وسير أعلام النبلاء (1/ 505)، والإصابة (3/ 141)].
(2)
هو: الصحابي الجليل المشهور، اشتهر بكنيته واختلف في اسمه فقيل عويمر بن عامر، وقيل غير ذلك الأنصاري الخزرجي، أسلم يوم بدر وشهد أُحدًا، توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه. [ترجمته في: الإصابة (4/ 621 - 622)، التقريب (ص 759)].
(3)
رواه الإمام مالك في الموطأ، باب: جامع القضاء وكراهيته (2/ 769) رقم (1459).
(4)
مجموع الفتاوى (27/ 438)، وانظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الآلوسي (ص 152).
وقال الزرقاني
(1)
في معنى: (إن الأرض لا تقدس أحدًا): "لا تطهره من ذنوبه، ولا ترفعه إلى أعلى الدرجات، وإنما يقدس الإنسان عمله الصالح في أي مكان"
(2)
.
سادسًا: أفادت القاعدة أن حصول البركة موقوف على الشرع، فلا يشرع التماس البركة إلا بالطريقة الشرعية التي دلت عليها النصوص الواردة في القرآن والسُّنَّة؛ وبناء على ذلك فإنه يجب التفريق بين ما شُرعَ لمجرد التعبد، أو شُرعَ لمجرد التماس البركة الحسية، أو لمجموعهما، وعليه فالأحوال ثلاثة:
1 -
ما شرع لأجل التعبد المحض، ولا يجوز التماس البركة الحسية عن طريقه، كتقبيل الحجر الأسود، فلا يجوز التماس البركة الحسية منه، أو طلب الاستشفاء بمسحه وتقبيله.
2 -
ما أثبت الشارع فيه البركة الحسية، كالاستشفاء بالعسل، فهذا يتبرك به ولا تدخله نية العبادة إلا من حيث اعتقاد صدق ما أخبر به الشارع.
3 -
ما شرع لأجل الأمرين معًا؛ كقراءة القرآن تعبدًا وطلبًا للثواب، وهذا هو الأصل في تنزيله، ثم طلبًا للشفاء والبركة.
وكل هذه الأمور مردها إلى حكم الشارع الحكيم، فما شُرعَ لنا فيه التعبد أو التبرك، أو التعبد مقرونًا بالتبرك فلا يجوز أن يتعدى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
هو: العلامة محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الأزهري أبو عبد الله المصري المالكي الشهير بالزرقاني، ولد سنة 1055 هـ، وتوفي سنة 1222 هـ، من تصانيفه: شرح موطأ مالك في الحديث، وشرح المواهب اللدنية للقسطلاني في إحدى عشر مجلدًا، ومختصر المقاصد الحسنة للسخاوي وغير ذلك. [ترجمته في: كشف الظنون (2/ 1896)، والأعلام (6/ 184)].
(2)
شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 93).
يقول الإمام أبو العباس القرطبي: "وقوله: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع)
(1)
دفع لتوهم من وقع له من الجهال: أن للحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته، كما توهمه بعض الباطنية
(2)
، وبين أنه ليس في تقبيله إلا الاقتداء المحض، ولو كان هناك شيء مما يفترى لكان عمر رضي الله عنه أحق الناس بعلمه"
(3)
.
وقال الطيبي
(4)
في حديث عمر وتقبيله للحجر الأسود: "إنما قال ذلك: لئلا يغتر بعض قربيي العهد بالإسلام، الذين قد ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها، ورجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله فيفتتن به، فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع باعتبار الجزاء والثواب"
(5)
.
ولا شك أن مجرد التعبد بامتثال أمر الشارع من أعظم الخيرات المعقولة، وأجل البركات المحسوسة، التي ينالها المسلم في دنياه وآخرته.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود (2/ 579) برقم (1520)، عن عمر بن الخطاب.
(2)
الذي يظهر أن للحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته، وليس هو كبقية أحجار الدنيا، وأن بركته بركة ذاتية كما سبق تقرير ذلك، وهكذا جميع الأعيان التي أثبت الشارع بركتها كما مرَّ في كلام ابن القيم، ومع كون ذاته مباركة فلا يلزم منه جواز التماس البركة الحسية منه لعدم ورود الدليل المثبت لشرعية ذلك، فلم يبق إلا بركة التعبد المحض، كما نص على ذلك عمر رضي الله عنه.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 378).
(4)
هو: شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي، ولد سنة 743 هـ، كان حسن المعتقد، شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، له مصنفات منها: حاشية على الكشاف والكاشف عن حقائق السُنن، شرح مشكاة المصابيح وغيرها. [الدرر الكامنة (2/ 156)].
(5)
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (5/ 278).
وقال أبو الحسن المباركفوري
(1)
في فوائد قول عمر عن الحجر الأسود: "وفيه الحث على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله، وتنبيه على أنه: لولا الاقتداء لما فعله"
(2)
.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "والكعبة نفسها -زادها الله تشريفًا- لا يتبرك بها؛ ولهذا لا يقبل منها إلا الحجر الأسود فقط، ولا يمسح منها إلا هو، والركن اليماني فقط، وهذا المسح والتقبيل المقصود منه طاعة رب العالمين، واتباع شرعه؛ ليس المراد أن تنال اليد البركة في استلام هذين الركنين"
(3)
.
ويقول الشيخ العثيمين في الإجابة على أحد الأسئلة: "وبهذه المناسبة أود أن ألفت نظر الحجاج إلى أن المقصود بمسح الحجر الأسود والركن اليماني: هو التعبد لله تعالى بمسحهما لا التبرك
(4)
بمسحهما، خلافًا لما يظنه الجهلة، حيث يظنون إن المقصود هو التبرك، ولهذا ترى بعضهم يمسح الركن اليماني أو الحجر الأسود ثم يمسح بيده
(1)
هو: عبيد الله بن عبد السلام الرحماني المباركفوري أبو الحسن، من الدعاة من الهند ومن أهل الحديث، ولد في مباركفور سنة 1327 هـ، وهو من مؤسسي الجامعة السلفية في بنارس، وترأسها وعمل على إنشاء جامعة المعارف الإسلامية، وهو قائد جماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية. شغل منصب نائب رئيس هيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند. بالإضافة إلى عضويته وقيادته لعدد من المؤسسات التعليمية والدينية. وله مؤلفات عديدة على رأسها شرحه الضافي لمشكاة المصابيح:"مرعاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح" وصل فيه إلى نهاية كتاب البيوع وأكمله ولده عبد الرحمن من بعده. [ترجمته في: إتمام الأعلام (ص 180 - 181)].
(2)
مرعاة المفاتيح (9/ 128).
(3)
فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (5/ 9)، برقم (1176).
(4)
أي: ليس المقصود من (التقبيل والمسح) البركة الحسية؛ من شفاء أو زيادة خير دنيوي، بحيث تنتقل البركة من الحجر إلى الشخص المقبل والماسح، وإنما المقصود بركة التعبد لله وامتثال أمره، وهو كثرة الخير والأجر في الدار الآخرة، وكفى بها بركة.
على صدره، أو على وجهه، أو على صدر طفله، أو على وجهه، وهذا ليس بمشروع، وهو اعتقاد لا أصل له، ففرق بين التعبد والتبرك، ويدل على أن المقصود التعبد المحض دون التبرك أن عمر رضي الله عنه قال وهو يقبل الحجر:(إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) "
(1)
.
ويقول الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله -: "ومعنى كون الأرض مباركة: أن يكون فيها الخير الكثير اللازم الدائم لها؛ ليكون ذلك أشجع في أن يلازمها أهلها الذين دعوا إليها، وهذا لا يعني - أبدًا - أن يتمسح بأرضها، أو أن يتمسح بحيطانها؛ لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات. فبركة الأماكن، أو بركة الأرض، ونحو ذلك، بركة لازمة لا تنتقل بالذات؛ يعني: أنك إذا لامستَ الأرض، أو دُفنت فيها، أو تبركت بها، فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط
(2)
.
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته؛ يعني: ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة، وإنما هو مبارك من جهة المعنى
(3)
؛ يعني: اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في البنية، من جهة تعلق القلوب بها، وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها، وأتاها، وطاف بها، وتعبد عندها.
وكذلك الحجر الأسود، هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل العبادة؛
(1)
فتاوى نور على الدرب، لابن عثيمين، التوحيد والعقيدة.
(2)
هذا التعبير والذي بعده في كون بركة (المسجد الحرام ليست بركة ذاتية) فيه نظر، إذ ليس عليه دليل، والصحيح أن بركة المسجد الحرام وغيره من الذوات المباركة بركتها بركة ذاتية؛ أي: أن ذاته نفسها مباركة، فالتعبير بالبركة المعنوية أو بركته من جهة المعنى قد يلزم منه أن الله لم يبارك في ذات قط وإنما بركته حالة ونازلة فيما يتعلق بهذه الذات ولا شك أن هذا خطأ إذ فيه مصادمة للنصوص التي دلت على أن بركة الله تتعلق بالذوات.
(3)
وفي هذا نظر أيضًا. انظر: الحاشية السابقة.
يعني: أن من استلمه تعبدًا مطيعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه له، وفي تقبيله فإنَّه يناله به بركة الاتباع. وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبَّل الحجر:(إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) فقوله: لا تنفع ولا تضر؛ يعني: لا يجلب لمن قَبَّلَه شيئًا من النفع، ولا يدفع عن أحد شيئًا من الضر، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتّساء، تعبدًا لله، ولذلك قال:(ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة"
(1)
.
أما التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية التي قصدها للعبادة، كمقام إبرا هيم، وكعرفات ومزدلفة ومنى وغيرها، فهذه تقصد للعبادة، وتكون البركة فيها بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، وكفى بذلك بركة.
أما الآثار المكانية التي لم يقصدها صلى الله عليه وسلم بقربة ولا طاعة، وإنما نزل فيها لمصادفته أو لحاجته، فهذه لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم تتبعوها رجاء بركتها، بل تتبع هذه الآثار من أجل العبادة فيها، والتبرك بها من البدع التي لم يكن عليها فعل السلف، لا من الصحابة ولا من بعدهم، بل هو من فعل أهل الكتاب والمشركين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله في مرضه الذي لم يقم منه:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"
(2)
.
وقال عمر رضي الله عنه عندما رأى الناس يذهبون مذاهب فسأل عن ذلك فقيل له: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رضي الله عنه:(هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل)
(3)
.
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 124 - 125).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 468) برقم (1324)، ومسلم في صحيحه (1/ 376) برقم (529)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 151)، رقم (7550)، وعبد الرزاق في مصنفه =
ومما يستدل به البعض على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه المروي في "الصحيحين": "أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وودت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سأفعل إن شاء الله". قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال: "أين تحب أن أصلي من بيتك"، قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم"
(1)
.
لكن لا حجة في هذا، وقد بيَّن أهل العلم أن عتبان لم يكن قصده أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبرك به، وإنما كان مقصوده التبرك بكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يصلي في مسجده.
يقول الإمام ابن تيمية: "لأن عتبان رضي الله عنه كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه، وتبرك بكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه أولًا، كما أنه صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء، وبنى مسجده، والمسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره، كما فضل المسجد الحرام ومسجد سليمان عليه السلام، بخلاف من لم يكن
= (2/ 18)، رقم (2734)، وقال الشيخ الألباني رحمه الله:"وسنده صحيح على شرط الشيخين". [انظر: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (ص 97)، وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما من تتبعه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان قصده مجرد الاتباع والاتساء بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قصده التبرك بتلك الآثار].
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: المساجد في البيوت (1/ 164)، رقم (415)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (1/ 455)، رقم (33).
مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر"
(1)
.
وقال رحمه الله: "فإنَّه قصد -أي: عتبان- أن يبني مسجدًا وأحب أن يكون أول من يصلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في المكان الذي يبنيه، فكانت الصلاة مقصودة لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصودًا لأجل كونه صلى فيه اتفاقًا، وهذا المكان مكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه ليكون مسجدًا، فصار قصد الصلاة فيه متابعة له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد"
(2)
.
وهناك احتمال آخر ذكره الحافظ ابن حجر بقوله: "ويحتمل أن يكون عتبان رضي الله عنه إنما طلب بذلك الوقوف على جهة القبلة بالقطع"
(3)
.
ويظهر بهذا أن فعل عتبان إنما كان قصده التبرك بالصلاة في الموضع الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه، ولا شك في جواز ذلك، أما ما صلى فيه اتفاقًا بدون قصد فلا يجوز جعله مسجدًا ولا التبرك بالصلاة فيه.
ثم إن البركة المشروعة في حديث عتبان هي بركة متابعته في الصلاة التي صلاها في تلك البقعة لا أن يتبرك بذات البقعة من جلوس وتمسح وغير ذلك، وإنما البركة محصورة في صلاته فيها كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه يحمل بعض كلام أهل العلم ممن صرح بجواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك ابن عبد البر حيث قال: "وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووطئها وقام عليها"
(4)
.
(1)
تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 527).
(2)
مجموع الفتاوى (17/ 468)، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 387).
(3)
فتح الباري (1/ 522).
(4)
التمهيد لابن عبد البر (6/ 228).
فالمقصود الآثار التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم فأوقع فيها العبادة بقصد منه، فصارت متابعته في فعله وقصده هي عين السُّنَّة، أما عموم ما وطئه وقام عليه بدون تقصد منه للعبادة فلا تجوز متابعته في ذلك كما سيأتي تقريره
(1)
.
ثم إن تبرك عتبان بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم له في بيته، وتحديد مكان لمسجده ومصلاه هو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يؤتى بصالح أو عالم أو زاهد فيتبرك بصلاته كما فعل عتبان مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من أعظم ذرائع الشرك، وأكبر وسائل الفتنة.
وقد بيَّن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على قول الحافظ ابن حجر من الفتح بوجوب إجابة من دعي من الصالحين ليتبرك به، فقال:"هذا فيه نظر، والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيه من البركة، وغيره لا يقاس عليه، لما بينهما من الفرق؛ ولأن فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك، كما قد وقع من بعض الناس. نسأل الله العافية"
(2)
.
سابعًا: لقد جعل الله البركة فيمن شاء من خلقه؛ إذ هي خلقه وملكه وفعله وصفته، فبارك فيمن شاء من الأعيان والذوات والأشخاص، وعليه يكون التماس البركة من تلك الذوات والأعيان مبنيًا على أصول ومقدمات:
الأولى: إثبات كون الذات المعينة مباركة، بدليل شرعي من الكتاب أو السُّنَّة.
الثانية: اعتقاد أن مصدر البركة ومنشأها هو الله تبارك وتعالى، وليس في مقدور أحد إنشاء البركة في نفسه أو في غيره.
(1)
سيأتي التفصيل في هذه المسألة في قاعدة خاصة (ص 704).
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 522).
الثالثة: معرفة الكيفية الشرعية التي تنال بها بركة هذه العين أو ذاك الشخص، وعمدة ثبوت ذلك على النصوص الشرعية.
وهذا الضابط الأخير من الأهمية بمكان؛ إذ ليس في استطاعة كل أحد أن يلتمس البركة في كل ذات أو عين، وإن ثبتت بركتها من ناحية الشرع، إذ لا بد من التقيد والالتزام بالكيفية الشرعية لالتماس البركة.
وعليه فما هي الصفة الشرعية لالتماس البركة من الأنبياء وأهل العلم والصلاح، وقبل ذلك يجب لفت النظر إلى انقسام التبرك بالذوات سواء كانوا أنبياء أو من تبعهم من أهل العلم والصلاح إلى قسمين:
1 -
تبرك عام، ويشترك فيه جميع الأنبياء والمرسلين والعلماء وأهل الصلاح، ويكون سببه العلم والعمل، ولا شك أن الأنبياء هم الأعظم بركة من ناحية العلم والعمل، لكثرة من يقتدي بهم ويتبعهم، ولعظم إيمانهم وطاعتهم وقربهم من الله تعالى، وأعظمهم بركة في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء من بعده، ثم صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا تكون درجاتهم بحسب ما معهم من العلم والعمل.
ويدخل في التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم: التبرك بالإيمان به، واتباعه، وطاعته، ونصرته، وموالاته، ومجاهدة أعداء الدين معه، ودعاؤه لأصحابه، واستغفاره لهم، وتعليمه إياهم.
يقول الإمام ابن عبد البر: "فالبركة والخير كله في اتباع أدب رسول الله، وامتثال أمره صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
ويقول ابن الحاج: "فالحاصل من هذا: أن البركة كامنة في امتثال السُّنَّة حيث كانت"
(2)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه:
(1)
التمهيد (18/ 182).
(2)
المدخل (3/ 140).
حصل له من بركة الرسول بسب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله"
(1)
.
وأما غير الأنبياء من أهل العلم والصلاح والاستقامة فيتبرك بعلمهم وعملهم كذلك، مع العلم أن بركتهم أصلها وأساسها هو طاعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيتبرك بأخذ العلم عنهم، الذي أساسه نصوص الشرع، ويقتدى كذلك بعملهم الذي وافقوا فيه السُّنَّة، واعتمدوا فيه على الشرع والدليل.
يقول الإمام ابن تيمية: "وقول القائل: ببركة الشيخ، قد يعنى بها دعاءه، وأسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب، وقد يعنى بها بركة ما أمره به، وعلمه من الخير، وقد يعنى بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين، ونحو ذلك، وهذه كلها معانٍ صحيحة"
(2)
.
ويقول رحمه الله: "فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق؛ بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق، وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفعِ من العذاب بسببهم، حق موجود فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقًا فقوله حق"
(3)
.
ويقول الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله -: "فكل مسلم فيه بركة، وهذه البركة ليست بركة ذات، وإنما هي بركة عمل
(4)
، وبركة ما معه من الإسلام والإيمان، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله - جلَّ وعلا - والإجلال له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه البركة التي في العلم أو العمل، أو الصلاح: لا تنتقل من شخص إلى آخر، وعليه فيكون معنى
(1)
مجموع الفتاوى (11/ 131).
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 96).
(3)
مجموع الفتاوى (11/ 113 - 114).
(4)
هذا الإطلاق فيه نظر، والصحيح أن بركة المسلم بركة ذات ومعنى، وانظر: ما سبق تقريره.
التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم، والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا، ولا يجوز أن يتبرك بهم بمعنى أن يتمسح بهم، أو يتبرك بريقهم"
(1)
.
وعلة المنع من ذلك هو عدم ورود الدليل الدال على مشروعية التماس البركة عن طريق أبدانهم، وإن كانت ذواتهم مباركة في نفسها.
ثم هي لا تستطيع أن تفيض على غيرها البركة؛ لأن إفاضة البركة على الغير هو فعل الله تعالى، ولا يتأتى ذلك إلا بنص.
2 -
تبرك خاص: وهو يتعلق بالأنبياء والمرسلين فحسب، وليس له تعلق بأهل العلم والصلاح من غير الأنبياء، بل هو خاص بالرسل الكرام عليهم السلام، فقد شرع الله لنا التماس البركة في أجسادهم وما انفصل منها، في حياتهم وبعد مماتهم، وعليه يجوز التبرك بكل ما ثبت من ذلك
(2)
.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ عند كلامه على بركة الأنبياء والرسل: "فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية، يعني: أن أجسامهم مباركة، فالله - جلَّ وعلا - هو الذي جعل جسد آدم مباركًا، وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركًا، وجعل جسد نوح مباركًا، وهكذا جسد عيسى، وموسى، -عليهم جميعًا الصلاة والسلام- جعل أجسادهم جميعًا مباركة، بمعنى: أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم، إما بالتمسح بها، أو بأخذ عرقها، أو بالتبرك ببعض أشعارهم، فهذا جائز، لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية، وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده -أيضًا- جسد مبارك"
(3)
.
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 127).
(2)
انظر: المفهم لم أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 276).
(3)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 125).
ولذا ثبت عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتبركون بجسده الطاهر صلى الله عليه وسلم، وكذا بما انفصل منه؛ من الشعر والريق، والنخامة، والعرق، وكذا التبرك بثيابه التي كان يلبسها، ومن ذلك التبرك بفضل وضوءه وغسله، وفضل إنائه الذي شرب منه، ومواضع أصابعه في الإناء الذي أكل منه وغير ذلك
(1)
.
ومما يجب التنبيه إليه هنا أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم المنفصلة عن جسده الطاهر غير ممكن، وذلك لعدم القطع واليقين بوجود شيء من آثاره عليه السلام في هذه الأيام، والموجود من ذلك قد حامت حوله الشبهات والشكوك، مع توافر دواعي فقدها، وأسباب ضياعها؛ لأجل ما مرت به الأمة من فتن وبلايا وحروب
(2)
.
وأما قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم به في باب التبرك بالآثار الجسدية المنفصلة؛ فإنه من أبطل الباطل، وبيانه كما يلي:
أولًا: قياس الصالحين على النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق، إذ من المعلوم أن مقام النبوة أعلى من مجرد مقام الصلاح، فالمقاربة في
(1)
تبرك الصحابة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم أو بما انفصل من جسده، أو لامس بدنه الطاهر، في حياته وبعد مماته من الشهرة بمكان. انظر: صحيح البخاري (1/ 75) رقم (168)، و (2/ 974)، رقم (2581)، و (3/ 1422)، رقم (3697)، و (5/ 224)، رقم (5689)، و (5/ 2210)، رقم (5557)، و (6/ 2673)، رقم (6910)، وصحيح الإمام مسلم (3/ 1691)، رقم (2146)، و (3/ 1623)، رقم (2053)، و (4/ 1723)، رقم (2192)، و (4/ 1812)، رقم (2325)، و (4/ 1815)، رقم (2331).
(2)
قد نفى وجود آثار النبي صلى الله عليه وسلم في عصرنا الحاضر جملة من العلماء منهم أحمد تيمور باشا، والشيخ الألباني، والشيخ النجمي وغيرهم. انظر: [الآثار النبوية لأحمد تيمور باشا (ص 78)، والتوسل أنواعه وأحكامه (ص 161 - 162)، وأوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة للنجمي (ص 505)، وللوقوف على المزيد في هذه المسألة يرجى الرجوع والنظر في كتاب التبرك أنواعه وأحكامه للشيخ الجديع (ص 256 - 260).
الفضل والبركة منتفية فضلًا عن المساواة، فكيف يقاس الأعلى بالأدنى، ثم إن سبب التبرك بالجسد أو بما انفصل منه ليس هو الصلاح فحسب، وإنما الأصل في جواز التبرك به صلى الله عليه وسلم هو النبوة.
ثانيًا: بركة النبوة يقينية، وبركة الصلاح ظنية، فكيف يقاس الظني على اليقيني.
ثالثًا: دل فعل الصحابة وسيرتهم على أن التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم الجسدية من خصوصياته عليه السلام؛ ولذا لم ينقل عنهم -مع حرصهم على الخير- أنهم تبركوا بآثار أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، فدل ذلك على الخصوصية.
رابعًا: عدم أمن الفتنة على الشخص الذي يتبرك بجسده، أو ما ينفصل منه، إذ قد يدخله العجب، ويلعب به الشيطان، فيورثه ذلك فسادًا ومرضًا في القلب، بل هذا هو الواقع المحتوم لمن تأمل في حال من يُفْعَل بهم هذا.
وقد نص الإمام الشاطبي على المنع من ذلك ناقلًا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تركه، وعدم جوازه، مع عنايتهم العظيمة باتباع السُّنَّة واقتفاء الهدي، والحرص على الخير، فقال رحمه الله: "إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم لم يقع من أحدٍ منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنهم فهو كان خليفته، ولم يُفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي ثم سائر الصحابة، الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحدٍ منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها -يعني: بجسده أو بما انفصل منه-، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال، والأقوال، والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذًا إجماع منهم على
ترك تلك الأشياء"
(1)
.
ثم بيَّن رحمه الله توجيه ترك الصحابة ومأخذهم في هذا الترك بقوله: "وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا في الاختصاص، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله؛ للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير؛ لأنه عليه السلام كان نورًا كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نورًا وجده على أي جهة التمسه؛ بخلاف غيره من الأمة؛ فإنه -وإن حصل له من نور الاقتداء به، والاهتداء بهديه ما شاء الله- لا يبلغ مبلغ على حال توازيه في مرتبته، ولا يقاربه، فصار هذا النوع مختصًا به؛ كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات، وشبه ذلك.
فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص، ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع؛ خوفًا من أن يُجعل ذلك سُنَّة؛ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار والنهي عن ذلك، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمُتَبرَّك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتُقِد في المبترَّك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية -حسبما ذكره أهل السير- فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تُعْبَد من دون الله، فكذلك يتفق عند
(1)
الاعتصام (1/ 482).
التوغل في التعظيم"
(1)
.
ويستمر الإمام الشاطبي في تجلية الأمر فيقول: "ولأن الولاية؛ وإن ظهر لها في الظاهر آثار؛ فقد يخفى أمرها؛ لأنَّها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بوليٍّ، أو ادعاها هو لنفسه، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة، أو من باب السحر
(2)
، أو الخواص أو غير ذلك، والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر، فيعظمون من ليس بعظيم، ويقتدون بمن لا قدوة فيه، وهو الضلال البعيد، إلى غير ذلك من المفاسد، فتركوا العمل بما تقدم -وإن كان له أصل-؛ لما يلزم عليه من الفساد في الدين"
(3)
.
وتابع الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ من قبله من أهل العلم في تأييد ما قرروه من إبطال قياس من قاس غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه في التبرك بجسده وما انفصل منه فقال: "وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ صريح لوجوه: منها عدم المقاربة فضلًا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة، ومنها عدم تحقق الصلاح فإنَّه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص؛ كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين، أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة
(1)
المصدر السابق (1/ 483 - 484) وهنا ذكر الشاطبي عن الفرغاني مذيل (تاريخ الطبري) عن الحلاج: أن أصحابه بالغوا في التبرك به، حتى كانوا يتمسحون ببوله، ويتبخرون بعذرته، حتى ادعوا فيه الإلهية، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. [انظر: المصدر السابق].
(2)
كلمة (السحر) ساقطة من النسخة، والتصحيح من طبعة أخرى بتحقيق: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية (2/ 278).
(3)
الاعتصام (1/ 484).
بالصلاح، وقد عُدم أولئك. أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم، ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلًا للتبرك بآثاره، ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وأويس القرني، والحسن البصري، ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه، فيورثه العجب، والكبر، والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم"
(1)
.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في حكم قول القائل: (وأعاد علينا من بركته)، فأجاب بقوله:"يعني بركة علمه، وليس المراد بركة ذاته، فإن الذوات جعل الله فيها ما جعل من البركة، ولكن لا تصلح للتبرك بها إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أَبْعاضِه كريقه، ولا يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره، والصحابة ما فعلوا مع أَبِي بكر وعمر من قصد البركة فيهما كما فعلوا مع النبي"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا في مسألة التبرك بآثار الصالحين قياسًا على التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم: "مسألة؛ وهي: أن بعض شراح الحديث يذكر أنه لا بأس بالتبرك بآثار الصالحين إذا مروا بذكر شعر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا غلط ظاهر لا يوافقهم عليه أهل العلم والحق، وذلك أنه: ما ورد إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 153 - 154).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 103 - 104) رقم (40).
أبو بكر، وعمر، وذو النورين عثمان، وعلي، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وبقية البدريين، وأَهل بيعة الرضوان، ما فعل السلف هذا مع واحد منهم، أفيكون هذا منهم نقصًا في تعظيم الخلفاء التعظيم اللائق بهم، أو أنهم لا يلتمسون ما ينفعهم؟! فاقتصارهم على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بركة جعلها الله في النبي صلى الله عليه وسلم كما جعلها في بعض المخلوقات"
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين: "لأن ريق الإنسان ليس سببًا للبركة والشفاء، ولا أحد يتبرك بآثاره إلا محمد صلى الله عليه وسلم، أما غيره فلا يتبرك بآثاره. فالنبي صلى الله عليه وسلم يتبرك بآثاره في حياته وكذلك بعد مماته إذا بقيت تلك الآثار، كما كان عند أم سلمة
(2)
رضي الله عنهما جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي بها المرضى، فإذا جاء مريض صبت على هذه الشعرات ماء ثم حركته ثم أعطته الماء، لكن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد أن يتبرك بريقه، أو بعرقه، أو بثوبه، أو بغير ذلك، بل هذا حرام، ونوع من الشرك"
(3)
.
وبهذه النقول يتبين لنا ضعف قول من قاس أهل الصلاح على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن السبب الذي من أجله جاز التبرك ببدن النبي صلى الله عليه وسلم أو بما انفصل منه ليس هو مجرد الصلاح، وإنما السبب الرئيس هو النبوة والرسالة، فالله تعالى قد بارك في أجساد الأنبياء، وجعلها مباركة، وشُرعَ لنا أن نتبرك بها إكرامًا لهم ورفعةً لمنزلتهم.
(1)
المصدر السابق (1/) رقم (41).
(2)
هي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، أم المؤمنين أم سلمة، مشهورة بكنيتها، وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وهو ابن عمها، وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة، ولما مات تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. [ترجمتها في: الإصابة (8/ 150)].
(3)
مجموع فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين (1/ 107 - 108).
ومما ينبغي التنبيه عليه أن التبرك المشروع ببدن النبي صلى الله عليه وسلم أو بما انفصل منه ليس من باب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليس هو مالك البركة وواهبها، ولكنه يدخل في باب التعظيم الذي يستحقه صلى الله عليه وسلم، والإكرام الذي يليق به عليه السلام، مع وجوب القطع بأن مالك البركة وواهبها هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلت فيه البركة، فهو مبارَك، والله هو المبارِك له، وقد شرع لنا التماس البركة منه صلى الله عليه وسلم.
ثم لو كان في ذلك أدنى مثقال ذرة من الغلو، أو صرف لشيء من التأله لغير الله تعالى لما رضيه صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ أصحابه عليه، كيف وهو إمام الحنفاء، وأعظم من حقق التوحيد وحمى حماه.
يقول الشيخ عبد العزيز المحمد السلمان
(1)
: "وإنما جاز في حقه صلى الله عليه وسلم النص به والأمر"
(2)
.
ثم إن التبرك ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فيه دليل على صدق إيمان المُتَبَرِّك، والتصديق برسالته وتعظيمه وحبه، وأن له عند الله تعالى مقامًا عظيمًا لا
(1)
هو: العالم المفسر الأصولي الفقيه الفرضي الورع الزاهد، الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد المحسن السلمان أبو محمد من قبيلة عتيبة، ولد في مدينة عنيزة في 25/ رمضان/ 1337 هـ، ابتدأ بالقراءة على علامة القصيم الشيخ المحقق عبد الرحمن بن ناصر السعدي ولازمه ستة عشر عامًا، تولى الإمامة وخطبة الجمعة، وعمل في المعهد العلمي، وبعده في معهد إمام الدعوة العلمي، له كثير من المؤلفات التي لم يسمح بيعها وجعلها وقفًا لله تعالى، ومنها: الأنوار الساطعات لآيات جامعات، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية، وإتحاف المسلمين بما تيسر من أحكام الدين، وأوضح المسالك إلى أحكام المناسك، وغيرها كثير، توفي في التاسع عشر من شهر صفر لعام 1422 هـ. [ترجمته في: مقال بعنوان: (شيخ الزهد)، في جريدة الرياض، يوم الأربعاء 22/ 2/ 1422 هـ، كتبه: إبراهيم بن عبد العزيز الشثري بمركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسويدي، وللمؤرخ كامل محمد عويصة ترجمة موسعة بعنوان: شيخ المعلمين وعلامة القرن العشرين، وعلمت أنها ما زالت مخطوطة في 203 صفحة].
(2)
الكواشف الجلية عن معاني الواسطية (ص 746).
يدركه أحد من أمته، كما أن فيه إعلامًا عظيمًا لجميع أهل الأرض، على اختلاف أديانهم، وتنوع مشاربهم بمكانة هذا النبي الأمي العظيم الصادق الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام القرطبي في تعليل فعل الصحابة وتبركهم بآثار النبي عليه السلام المنفصلة عنه: "وهذا كله عمل بمقتضى الأمر بالتعزير والتعظيم ونتيجة الحب الصحيح، رزقنا الله الحظ الأكبر من تعظيمه ومحبته وحشرنا في زمرته"
(1)
.
ويقول الشيخ النجمي - حفظه الله -: "التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جاز؛ لأنَّه ثمرة الإيمان به، ودليل على صدق إيمان المتبرك [به]، كما في قصة أم سليم، والمهم أن التبرك به إنما جاز؛ لأنَّه من ثمرات الإيمان به، وبرسالته، وأن له عند الله مقامًا لا يوازيه فيه أحد من بني آدم"
(2)
.
ولذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضي الله عنهم على هذا التبرك في غزوة الحديبية، وكان في ذلك غايات حميدة منها إرهاب قريش وإطلاعهم على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وحبهم وتعظيمهم له.
يقول الشيخ الألباني: "النبي صلى الله عليه وسلم وإن أقرّ الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم، وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش، وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم، وحبهم له، وتفانيهم في خدمته، وتعظيم شأنه"
(3)
.
ولذا لم يكن هذا التبرك نافعًا للمنافقين، وأهل الشرك والفساد، بل لا بد للانتفاع بهذا التبرك من الإيمان الصحيح المقبول عند الله تعالى
(4)
.
(1)
المفهم (5/ 276).
(2)
انظر: أوضح الإشارة (ص 504 - 505).
(3)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص 162).
(4)
التوسل أنواعه وأحكامه (ص 161)، وأوضح الإشارة (ص 505).
ثامنًا: دلت القاعدة على أن البركة ملكه سبحانه، وصفته تعالى، وفعله عز وجل، وعليه يكون حظ الخلق من البركة بقدر قربهم من ربهم، وتعلقهم بمعبودهم، ومحبتهم لخالقهم سبحانه وتعالى، وقد سبق تقرير ذلك في الكلام على بركة الأنبياء وأهل العلم، وعمومًا فكلما كان الشيء أقرب إلى الله زادت بركته وكثر خيره، وفي الأعمال كذلك؛ فكلما كان العمل أكثر إخلاصًا وموافقة للسُّنَّة كانت بركته بحسب ذلك.
والعكس بالعكس فكل ما بَعُدَ عن الله ودينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، أو أبْعَدَ عنه قلَّ خيره، ونزعت بركته، وذهبت عافيته
(1)
.
يقول أبو عبد الله الحكيم الترمذي
(2)
: "وكل شيء هو عون للدين فالبركة حالة به، وإذا بورك في الشيء سعد به أهله، وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة، ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عن الأكل، والشرب، واللبس، والركوب، والجماع؛ لما في مقارنة اسم الله من البركة، وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة؛ فإن الرب هو الذي يبارك وحده، والبركة كلها منه، وكلما نسب إليه مُبَارَكٌ، فكلامه مُبَارَك، ورسوله مُبَارَك، وعبده المؤمن النافع لخلقه مُبَارَك، وبيته الحرام مُبَارك، وكنانته من أرضه وهي الشام أرض البركة، وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه، فلا مُبَارِك إلا هو وحده، ولا مُبَارَك إلا ما نسب إليه؛ أعني: إلى
(1)
انظر: فيض القدير (3/ 550).
(2)
هو: محمد بن علي بن الحسن بن بشير الترمذي المؤذن المعروف بالحكيم، صاحب كتاب نوادر الأصول المشهور، وله كتاب ختم الولاية وعلل الشريعة، هجر بسببه في ترمذ آخر عمره. قال عنه ابن حجر:"لم يكن من أهل الحديث، ولا رواية له"، وذكر أنه: تكلم بإشارات الصوفية، ودعوى الكشف عن الأمور الغامضة والحقائق، حتى خرج في ذلك عن قاعدة الفقهاء، واستحق الطعن عليه بذلك، عاش إلى حدود العشرين وثلاثمائة، وعاش نحوًا من تسعين سنة. [ترجمته في: لسان الميزان (5/ 308 - 310)].
محبته وألوهيته ورضاه، وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه، وكلما باعده من نفسه من الأعيان، والأقوال، والأعمال، فلا بركة فيه، ولا خير فيه، وكلما كان منه قريبًا من ذلك ففيه من البركة على قدر قربه منه.
وضد البركة اللعنة فأرض لعنها الله، أو شخص لعنه الله، أو عمل لعنه الله، أبعد شيء من الخير والبركة، وكلما اتصل بذلك، وارتبط به، وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة، وقد لعن عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه، واتصاله، فمن ههنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر، والرزق، والعلم، والعمل، فكل وقت عصيت الله فيه، أو مال عصى الله به، أو بدن، أو جاه، أو علم، أو عمل، فهو على صاحبه ليس له، فليس له من عمره، وماله، وقوته، وجاهه، وعلمه، وعمله، إلا ما أطاع الله به؛ ولهذا من الناس من يعيش في هذه وقوته، وجاهه، وعلمه، وعمله، إلا ما أطاع الله به؛ ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة، أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشرين سنة، أو نحوها، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم، أو نحوها، وهكذا الجاه والعلم،
…
ما كان لله هذا هو الذي فيه البركة خاصة والله المستعان"
(1)
.
(1)
نوادر الأصول في أحاديث الرسول (1/ 397).