الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي متركبة من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها إفراد اللّه جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله -عليهم الصلاة والسلام-"
(1)
.
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "فمعنى (لا إله إلا اللّه): لا معبود بحق إلا اللّه (لا إله) نافيًا جميع ما يعبد من دون اللّه، فلا يستحق أن يعبد (إلا اللّه)، مثبتًا العبادة للّه، فهو الإله الحق المستحق للعبادة"
(2)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
بعض فوائد القاعدة:
أولًا: دلت القاعدة على تضمن كلمة التوحيد -لا إله إلا اللّه- على النفي والإثبات معًا؛ إذ لا تصح هذه الكلمة العظيمة بواحد منهما دون الآخر، ولا يدخل الكافر في الإسلام إلا إذا جمع بين النفي والإثبات، فالنفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبًا للمدح والثناء، بل لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن أمرًا ثبوتيًا؛ فإن من أثبت الألوهية لله تعالى بدون نفيها عن غيره لم يأت بالتوحيد الذي دلت عليه كلمة لا إله إلا اللّه حتى يجمع بين النفي والإثبات.
يقول الإمام ابن تيمية: "وهذا أصل مستمر: وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتًا لا مدح فيه ولا كمال"
(3)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي
(1)
أضواء البيان (3/ 18).
(2)
معارج القبول (2/ 416).
(3)
منهاج السُّنَّة النبوية (2/ 319).
بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة (لا إله إلا الله) فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سر ذلك"
(1)
.
بل لا يمكن تحقيق الإثبات الكامل العاري عن كل نقص بدون اعتقاد النفي، ولذا قُدّم النفي على الإثبات، فينفي النقص والباطل أولًا ثم يثبت بعد ذلك الكمال.
يقول أبو المظفر الإسفرايني
(2)
: "وأمر سبحانه الكافة بكلمة الإيمان (لا إله إلا اللّه)، جمع فيها بين النفي والإثبات، وقدم النفي على الإثبات ليعلم أن الإثبات لا يحصل إلا بصيانته عن كل ما يتضمن مخالفته، وهكذا جمع في سورة الإخلاص بين النفي والإثبات، فوصف نفسه بأوصاف الكمال في قوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1، 2]، ونفى عن نفسه النقصان بقوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 3، 4]،
…
وتقرَّر بهذه الجملة وجوب المعرفة بالنفي والإثبات، والتمييز بين الحق والباطل، ومن لم يتحقق له معرفة نفي صفة الباطل لم يتحقق له معرفة إثبات صفة المعرفة بالحق، وقد كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة، وعن الباطل والشر للتمكن من المجانبة"
(3)
.
(1)
بدائع الفوائد (1/ 141).
(2)
هو: شهفور بن طاهر بن محمد الإسفرايني، أبو المظفر، ثم الطوسي، الشافعي، العلامة الفقيه الأصولي المفسر، صاحب التفسير الكبير، كان أحد الأعلام، وكان له اتصال مصاهرة بالأستاذ أبي منصور البغدادي، من كتبه:"التبصير في الدين"، توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. [ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى (5/ 11)، وسير أعلام النبلاء (18/ 401)].
(3)
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية (ص 14).
ثانيًا: جاءت كلمة التوحيد (لا إله إلا اللّه) بما تضمنته من نفي وإثبات على صورة الخبر، والمقصود بذلك الأمر والنهي؛ النهي عن عبادة غيره سبحانه وتعالى، وإفراده عز وجل بالعبادة والخضوع والتعظيم، فهي أمر ونهي لكن بصيغة الإخبار.
يقول الإمام ابن تيمية: "وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ أَخْبَرَ وَبَيَّنَ وأَعْلَمَ أَنَّ مَا سَوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهِ فَلَا يُعْبَدُ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ مَا سَواهُ؛ فَإِنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، كَمَا إِذَا اسْتَفْتَى شَخْصٌ شَخْصًا فَقَال لَهُ قَائِلٌ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ هَذَا هُوَ الْمُفْتِي فَفِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِفْتَاءِ الْأَوَّلِ، وأَمْرٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى اسْتِفْتَاءِ الثَّانِي.
وَكَذَلِكَ إِذَا تَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِ حَاكِمٍ، أَوْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ وَليِّ الْأَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا حَاكِمًا وَلَا هَذَا سُلْطَانًا؛ هَذَا هُوَ الْحَاكِمُ، وَهَذَا هُوَ السّلْطَانُ، فَهَذَا النَّفْيُ وَالْإِثْباتُ يَتَضَمَنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّالِبَ إِنَّمَا يَطْلُبُ مَنْ عِنْدَهُ مُرادُهُ وَمَقْصُودُهُ، فَإِذَا ظَنَّهُ شَخْصًا فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ مُرَادُك عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُكَ عِنْدَ هَذَا كَانَ أَمْرًا لَهُ بِطَلَبِ مُرَادِهِ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ. وَالْعَابِدُونَ إنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَنْ هُوَ إِله يَسْتَحِق الْعِبَادَةَ؛ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ كُلُّ مَا سَوَى اللّهِ لَيْسَ بِإِلَهِ، إِنَّمَا الْإِلَهُ هُوَ اللّهُ وَحْدَهُ كَانَ هَذَا نَهْيًا لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سَوَاهُ وأَمْرًا بِعِبَادَتِهِ"
(1)
.
ويقول الشيخ سليمان آل الشيخ: "فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى اللّه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم
(1)
مجموع الفتاوى (14/ 171 - 172).
الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلًا يستفتي أو يستشهد من ليس أَهْلًا لذلك، ويدع من هو أَهْلٌ له، فتقول: هذا ليس بمفتٍ، ولا شاهدٍ، المفتي فلان، والشاهد فلان؛ فإن هذا أمر منه ونهي"
(1)
.
ثالثًا: لا بد من اعتقاد النفي والإثبات الذي دلت عليه كلمة التوحيد، وإلا فمجرد النطق بها باللسان لا يعتد به، ولا يكون المتلفظ بها داخلًا في الإسلام إذا لم يعتقد ويعلم ويتيقن بما دلت عليه من النفي والإثبات، فمن لم يعتقد ذلك ويوقن به فلا اعتبار لقوله، وإن نطق بها ليله ونهاره، فإن مدار نفع هذه الكلمة بعد النطق بها على معرفة معناها، واعتقاد ما دلت عليه من نفي الإلهية عن غيره سبحانه، واثباتها له عز وجل خالصة دون ما سواه.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه لكلام جدّه - الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمها اللّه: "وقوله رحمه الله: (ومنهم من لم يعرف الشرك، ولم ينكره) قلت: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره لم ينفه؛ ولا يكون موحدًا إلا من نفى الشرك، وتبرأ منه، وممن فعله، وكفرهم، وبالجهل بالشرك لا يحصل شيء مما دلت عليه لا إله إلا اللّه، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة، ومضمونها فليس من الإسلام في شيء؛ لأنه لم يأت بهذه الكلمة، ومضمونها عن علم، ويقين، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وقبول، وانقياد، وهذا النوع ليس معه من ذلك شيء، وإن قال لا إله إلا اللّه، فهو لا يعرف ما دلت
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 56) بتصرف.
عليه، ولا ما تضمنته"
(1)
.
رابعًا: النفي الذي تضمنته كلمة التوحيد والمتمثل في قولنا (لا إله) يتناول آلهة حقيقية، لها أفراد في هذا العالم، عبدت وصرفت لها العبادة من دون اللّه تعالى، من الأصنام والأوثان، والطواغيت، والأحجار، والأشجار، وغير ذلك مما عُبِدَ وأُلِّه من دون اللّه عز وجل.
وفي هذا إبطال لقول من جعل المنفي بلا إله إلا اللّه كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد هو المستثنى، فهو المنفي وهو المستثنى.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "واعلم أنني لما كتبت قبل هذا في رد قول هذا الملحد: أن المنفي بلا إله إلا اللّه كلي منوي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله:
إذا كانت لا إله إلا اللّه لم تنف إلا كليًا منويًا، فعلى هذا القول الباطل لم تنف لا إله إلا اللّه صنمًا، ولا وثنًا، ولا طاغوتًا، وصار النفي مُنْصبًّا على الفرد، فهو المنفي وهو المستثنى، وتناقض هذا لا يخفى على من له عقل وفهم.
وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة لما بعث اللّه به رسله من توحيده، وعلى قول هذا لم يكن لـ (لا إله إلا اللّه) مدخل في الكفر بالطاغوت، والبراءة من الأوثان التي صرح القرآن بنفيها بكلمة الإخلاص -لا إله إلا اللّه-"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "وكل ما نفته (لا إله إلا اللّه) من الأصنام والأنداد فليس كليًا لا يوجد إلا ذهنًا، كما يقوله المفتري أفلاطون الفيلسوف وشيعته، وإنما كانت أشخاصًا متعددة، يباشرها عبادها بالعبادة
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 208).
(2)
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4/ 439).
بالدعاء، والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها، والتبرك بها كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد"
(1)
.
وقال رحمه الله: "ثم إن هذا الرجل انتهى أمره في ما كتبه إلى أن زعم: أن المنفي بـ (لا) كلي، وهذا الكلي منوي ذهنًا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه، وهذا صريح كلامه، وأتى فيه بثلاث عظام هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان:
الأولى: أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنًا، فعنده أنها لم تنف طاغوتًا، ولا وثنًا، ولا صنمًا، ولا غيرها مما يعبد من دون اللّه.
كما أنه خالف أيضًا أهل المنطق؛ فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين، مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.
الثانية: أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيًا بـ (لا) صار ثابتًا بـ (إلا)، وهو فرد واحد، فصار الإله عنده متصفًا بالنفي والإثبات، والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولًا باطلًا؛ لأنه منفي بـ (لا) ثم صار حقًا؛ لأنه استثني بـ (إلا)، فاجتمع فيه الوصفان. نعوذ باللّه من هذا التهافت والإلحاد، والتناقض والعناد.
والثالثة: أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وهذا هو حقيقة قول هذا؛ ولهذا مثّله بقوله:(لا شمس إلا الشمس) "
(2)
.
(1)
الدرر السنية (1/ 249).
(2)
الدرر السنية (11/ 261 - 263) بتصرف.