الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث التقعيد ومنهج العلماء فيه
عرفنا فيما سبق أهمية القواعد الشرعية، لا سيما القواعد التي تتعلق بأصول الدين وأسس العقيدة، ونتعرف في هذا المبحث على المناهج المتبعة والطرق التي سلكها أهل العلم عمومًا في وضع القواعد، واعتمادها في سائر الفنون ولا سيما علم أصول الدين، وفيما يأتي أقف بعض الوقفات التي يتضح من خلالها منهج أهل العلم وطريقتهم في اعتماد القواعد وتقريرها:
أولًا: معنى كلمة التقعيد قد مرَّ معنا في المبحث الأول من هذا التمهيد عند الكلام على مادة (قعد)، وأنها راجعة إلى الثبوت والاستقرار، فتقعيد الأمر أو الشيء هو أن تجعل له أصلًا وأساسًا ثابتًا مستقرًا يعتمد عليه، ويتقوى به، وهذا الأساس هو القاعدة.
وعليه فالتقعيد في عرف أهل العلم واستعمالهم: هو عملية وضع القواعد، أو إبرازها من مصادرها لتطبيقها والاستفادة منها.
ثانيًا: منهج أهل العلم في وضعهم للقواعد:
لقد تميزت طريقة العلماء في اعتماد القواعد وإبرازها والاستدلال بها بعدة أمور، أذكر فيما يأتي ما ظهر لي منها:
أ - كان اعتمادهم في وضع القواعد وإبرازها في المقام الأول على نصوص الكتاب والسُّنَّة، إذ لا تخلو قاعدة شرعية من دليلٌ شرعي يدل عليها، وإلا لم تكن قاعدة صحيحة، وكما ذكرنا من قبل فإن نصوص
الكتاب والسُّنَّة يصلح بعضها لأن يكون قاعدة في نفسه، فيأتي العالم ويبرز هذه المعاني التي جاء التنصيص عليها في الكتاب أو السُّنَّة؛ كمن يقعد فيقول: الشرك لا يغفره اللَّه تعالى أبدًا، مستخلصًا لها من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وكمن يقعد قاعدة: صلاح الأعمال بصلاح النيات، من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"
(1)
، وهكذا في سائر ما وضعه أهل العلم من قواعد في سائر العلوم.
يقول الإمام ابن تيمية مبينًا أهمية الاعتماد على النصوص في وضع القواعد: "وقد كتبت قبل هذا في القواعد ما في طريقي أهل الكلام والنظر، وأهل الإرادة والعمل من الانحراف إذا لم يقترن بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم والهدى والدين هو الإيمان باللّه ورسوله، واستصحاب ذلك في جميع الأقوال والأحوال"
(2)
.
ويقول الشيخ السعدي: "ولهذا كان الكتاب والسُّنَّة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين، وأصوله وفروعه، فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم، وأحكامهم، إلى علوم غير علم الكتاب والسُّنَّة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل للّه ولرسوله"
(3)
.
وبيَّن رحمه الله الواجب تجاه النصوص النبوية، بقوله: "ولذلك أمر اللَّه بالقاعدة الكلية، والأصل العام فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذا شامل لأصول الدين وفروعه،
(1)
سيأتي تخريج الحديث في قاعدة النيات، من هذه الرسالة.
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 360).
(3)
تفسير السعدي (ص 220).
وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به، واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص اللَّه تعالى، لا رخصة لأحد، ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله"
(1)
.
ويقول الشيخ صالح الفوزان حفظه اللَّه في دفاعه عن -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سياق حديثه عن القواعد: "ولكن الواجب: أننّا نرجع في تقعيدنا إلى الكتاب والسُّنَّة، ليكون هذا التقعيد تقعيدًا صحيحًا، سليمًا، مأخوذًا من كتاب اللَّه وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في هذين الأمرين العظيمين -التوحيد والشرك-، والشيخ رحمه الله لم يذكر هذه القواعد من عنده أو مِنْ فكره، كما يفعل ذلك كثيرٌ من المتخبِّطين، وإنما أخذ هذه القواعد من كتاب اللَّه ومن سُنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسيرته.
فإذا عرفت هذه القواعد وفهمتها سهُل عليك بعد ذلك معرفة التوحيد الذي بعث اللَّه به رسله، وأنزل به كتبه، ومعرفة الشرك الذي حذّر اللَّه منه، وبيّن خطره وضرره في الدنيا والآخرة، وهذا أمرٌ مهمّ جدًّا، وهو ألزم عليك من معرفة أحكام الصلاة والزكاة والعبادات وسائر الأمور الدينيّة؛ لأن هذا هو الأمر الأوّلي والأساس؛ لأنّ الصلاة والزكاة والحج وغيرها من العبادات لا تصحّ إذا لم تُبنَ على أصل العقيدة الصحيحة، وهي التوحيد الخالص للّه عز وجل"
(2)
.
فجميع ما سبق من نقول تدلل على أن الواجب في التقعيد والتأصيل التقيد بنصوص الكتاب والسُّنَّة، وما يتبع ذلك من إجماع صحيح ثابت، أو استقراء تام.
يقول يعقوب الباحسين مبينًا أن القاعدة الفقهية لا بد أن تستند على
(1)
تفسير السعدي (ص 851).
(2)
شرح القواعد الأربع، للشيخ صالح الفوزان، تحقيق: خالد الردادي (ص 7 - 8).
النص الشرعي: "تُعَدُّ النصوص الشرعية أقوى مصادر القواعد الفقهية، وأرسخها، كما تُعَدُّ القواعد المستندة إليها أقوى أنواع القواعد، وأرجحها في الاستدلال"
(1)
. ثم ذكر أن بناء القواعد على النصوص إما أن تكون مباشرة فتكون القاعدة بصيغة النص، أو تستخرج القاعدة من النص عن طريق الاجتهاد والنظر.
ب - ومن أبرز ما تَمَيَّزَ به منهج العلماء في صياغة القواعد وتقريرها هو التزامهم بفهم السلف الصالح من الصحابة وأهل القرون المفضلة فيما يؤصلونه ويقعدونه؛ وذلك لما لهم من الخصائص التي انفردوا بها عن غيرهم من مشاهدة التنزيل ومعايشة الوحي، والتلقي عن النبع الصافي الذي لا كدر فيه ولا نقص، ولما لهم من الفهم الثاقب، والذهن المتوقد، والنظرة العميقة الفاحصة، والقلب الصافي المتهيئ لمباشرة النصوص وفهمها الفهم الصحيح، مع إخلاصهم للّه تعالى، وتجردهم للحق، إضافة إلى ما اختصوا به من علوم الآلة التي كانت سجيتهم بدون تعب ولا تكلف.
يقول الإمام ابن تيمية: "وكل من أمعن نظره، وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علمًا، وأبر قلوبًا، وأقل تكلفًا، وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم، وقبلوا الحق، وردوا الباطل"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم في تعظيم شأن الصحابة: "أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبو قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصهم اللَّه تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو
(1)
القواعد الفقهية، للباحسين (ص 195).
(2)
درء التعارض (3/ 454).
عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران؛ أحدهما: قال اللَّه تعالى كذا، وقال رسوله كذا، والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما.
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة، وهممهم متشعبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم، وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية إن كان لهم همم تسافر إليها، وصلوا إلها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة، وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة، إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها وافاها بذهن كال، وقوة ضعيفة، وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة، تضعف قوته عند العمل المشروع، كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني، فإذا جاءه قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالة، وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته إلى الصور، أو المال، أو الجاه، فإذا طالب قلبه بمحبة اللَّه فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة، قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام اللَّه ورسوله جاء بفكرة كالة، فأعطى بحسب ذلك.
والمقصود أن الصحابة أغناهم اللَّه تعالى عن ذلك كله، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى
الأذهان، وصفائها، وصحتها، وقوة إدراكها، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا، وما شاركناهم فيه، فكيف نكون نحن، أو شيوخنا، أو شيوخهم، أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل، ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم واللّه المستعان"
(1)
.
فهذا هو المنهج الذي سار عليه علماء الإسلام من أهل السُّنَّة والجماعة فيما يتعلق بوضعالقواعد وتقريرها، إذ ما برحوا يستدلون على دينهم، وعقائدهم، بما جاء في كتاب اللَّه عز وجل، وبما صح من سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا فبما ثبت وأُثر عن السلف الصالحين، من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين المعروف عنهم الإمامة في السُّنَّة والتقدم فيها، فيسلكون طريقهم ويقولون فيها بقولهم
(2)
.
ج - طريقة أهل العلم فيما يبرزونه من القواعد والأصول إنما يكون لفائدة مرجوة من هذا التقعيد، أو لحاجة طرأت لهم، كما حصل لهم عندما كثرت الفرق والطوائف والآراء، وخالفت ما هو مقرر من أصول أهل السُّنَّة والجماعة اضطر العلماء بعد ذلك لإبراز هذه الأصول والتعبير بالقواعد؛ لأن القواعد في الأصل لم يكن معبِّرًا عنها بالقاعدة عند السلف الصالح؛ يعني عند الصحابة والتابعين، وإنما وضعها العلماء وعبروا عنها بلفظ قاعدة، أو باصل ونحو ذلك من التعبيرات؛ لأجل أن تُضبط المسائل، وحتى يسهل على الناظر أنْ يتفطّن للمسائل المتفرقة وما يجمعها من قاعدةٍ وأصلٍ واحد
(3)
.
(1)
إعلام الموقعين (4/ 148 - 150).
(2)
انظر: وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق (ص 103 - 104).
(3)
محاضرة بعنوان (قواعد القواعد) لمعالي الشيخ صالح آل الشيخ (كاسيت)، مع التصرف.
د - بالنسبة للتنصيص على أن هذه قاعدة أو لأصل موجود في كثير من أقوالهم رحمهم الله، فيقولون: لأنّ القاعدة كذا، أو لأنّ الأصل كذا، وتارة لا تجد التعبير بلفظ القاعدة أو أصل، وإنما تجد التعبير بالأمر الكلّي، أو الكلمة الجامعة في كذا كذا، ويقولون: كل كذا ثم يذكر الحكم، أو يقول فكل شيء ثم يذكر الحكم، ومن المعلوم أن التعبير بالأمر الكلي يفهم منه أنّ هذا تقعيد؛ لأنّ الكليات ترجع إليها أفرادها
(1)
.
ثالثًا: ومما يتعلق بمبحث التقعيد أن بابه ليس مفتوحًا بحيث يتاح لكل أحد أن يُقَعِّد، وأن يستخرج قواعد أو أصول كلية من خلال النصوص الشرعية، وإنما مرجع هذه الأمور للمجتهد المتمرس الذي استقرى الأدلة، وسبر النصوص، وبالنسبة للعالم الذي يريد وضع قواعد في العقيدة لا بد أن يكون متمكنًا في العقيدة، مُلِمًّا بأقوال السلف في أدق الأمور، وبأقوال مخالفيهم واستدلالهم وشبهاتهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قعَّد وأصَّل في كثير من مسائل العقيدة وهو أَهْلٌ لذلك؛ لمعرفته الدقيقة بمآخذ الأدلة وأصول الاعتقاد من الكتاب والسُّنَّة، إذ جميع ما قرره من قواعد لها أدلتها من الكتاب والسُّنَّة، ولم يأت بشيء يخالف هذه الأصول في الغالب.
وما يجب التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يسوغ لأحد أن ينسب قاعدة من القواعد؛ سواء كانت في العقيدة، أو في العبادة فينسبها للسلف الصالح فيقول: القاعدة عند السلف كذا، أو من قواعد السلف كذا إلا بأحد طريقين:
الأول: أنْ يجد نصًا من أحد علماء السلف على أنها قاعدة، مثل قولهم: والقاعدة كذا، والأصل كذا، حتَّى لا نجعل السلف مقعدين
(1)
المصدر نفسه، مع التصرف.
لقواعد لا علم لهم بها، هذا الطريق الأول لفهم التقعيد المنسوب للسلف الصالح أن ينص على هذه القاعدة عند السلف.
الثاني: أنْ يستقري
(1)
عالم راسخ متأن لكلام السلف في المسألة، وبعد استقرائه لكلامهم ولأحوالهم يُخْرِج تقعيدًا وينسبه للسلف الصالح كما فعل الإمام ابن تيمية في كثير من مسائل العقيدة، وإذا نظرت في غالب أقوال السلف وأحوالهم لا تجد أنها تخرج عن تقعيدات شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنّه استقرى وهو راسخ في العلم، واستقرى وهو ينظر إلى أقوال السلف جميعًا بروية وتؤده وبدودن عجلة، حتَّى لا يقع في مخالفة أقوال السلف
(2)
.
(1)
الاستقراء: من الفعل استقرى يستقري، وهو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته، فإن كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تامًا؛
…
والناقص؛ كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ؛ لوجود ذلك في أكثر جزئياته، ولعله فيما لم يستقرى على خلافه. [انظر: المعجم الوسيط (2/ 732)، ومجموع الفتاوى (9/ 196)].
(2)
محاضرة بعنوان (قواعد القواعد)، الشيخ صالح آل الشيخ (كاسيت)، مع بعض التصرف.