الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين؛ فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها، فكهذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قُرِنَ بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي، وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة"
(1)
.
فخلاصة القاعدة: أنها دلت على تغاير مفهومي الربوبية والألوهية، وأنه في حال اجتماعهما في النصوص فلكل واحد منهما معنى، وعند افتراقهما فكل واحد منهما يتضمن معنى الآخر ويشمله.
*
المسألة الثالثة* أدلة القاعدة
دلَّ على صحة القاعدة أدلة متعددة منها:
1 -
تفريق أهل اللغة وأرباب العربية بين مدلول كلمة (رب) ومدلول كلمة (إله)، فذكروا أن معنى الرب الخالق المالك المدبر شؤون عباده ومصلحها، وأن الإله هو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب خضوعًا وحبًا وخوفًا ورجاء كما سبق بيان ذلك.
2 -
النصوص الشرعية أيدت هذا التباين، وقررت هذا الفرق، فالمتأمل لنصوص الشرع يجدها قد دلَّت على عدم اتحاد معنى (الرب) و (الإله)، وذلك بما ورد فيها من اجتماع كلمة (الرب) و (الإله) في سياق واحد، مما يدل على أن لكل كلمة معنى خاصًا بها وإلا كان تكرارًا يتنزه الشرع عنه، ومن تلك النصوص:
(1)
جامع العلوم والحكم (ص 28).
أ- قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} [الناس: 1 - 3]، فهنا ذكر الرب والإله في سياق واحد مما يدل على أن لكل من (الرب) و (الإله) معنى يخصه وإلا كان تكرارًا مخرجًا للكلام عن حد البلاغة، مدخلًا له في حد الركاكة، وهذا مما يتنزّه عنه كلام الرب سبحانه وتعالى الذي هو في قمّة الفصاحة، وقوة البلاغة، وعظم الإعجاز، ولذا وصف سبحانه كتابه العزيز بقوله:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42].
ولذا اتفق أهل التفسير على التفريق بين الرب الخالق المدبر، وبين الإله المعبود إذا اجتمع ذكرهم في النصوص
(1)
.
يقول ابن القيم: "فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وإجلالًا وإكرامًا وتعظيمًا وذلًا وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلًا، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما سواه"
(2)
.
ويقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3 ضض)} : "هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل الربوبية، والملك، والإلهية، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له"
(3)
.
ب- قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، فجمع في هذه الآية بين (الله) وبين (الرب) مما يدل على أن لكل واحد منهما معنى يخصه.
(1)
انظر: تفسير الطبري (30/ 354)، وتفسير الرازي (26/ 11)، وتفسير أبي السعود (9/ 216)، وأضواء البيان (9/ 188)، وتفسير آيات من القرآن الكريم (ص 387).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 27)، وانظر: طريق الهجرتين (ص 97).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 575).
يقول -الإمامِ المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} : "فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف الألوهية والربوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} "
(1)
.
والآيات التي اقترن فيها لفظ الرب بالإله كثيرة جدًا لمن تأمل كتاب الله تعالى، وكلها قاطعة بالفرق في المعنى بين الرب والإله وإلا صار تكرارًا مخلًا بأسلوب الكلام وبلاغته يتنزه عنه كلام الله تعالى.
3 -
ومما يدل على التفريق في المعنى بين (الرب) و (الإله): أن كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله هي كلمة الإسلام التي يدخل بها الكافر في الإسلام، وأنه لا يقبل إسلام من قال: لا رب إلا الله، أو لا خالق إلا الله، أو لا موجود إلا الله وخاصة مع وجود الاشتباه في إسلامه؛ إذ ليس في هذه الكلمات تفريق بين الإسلام والكفر، ولو كان مدلول معنى كلمة (الرب) هو نفسه مدلول كلمة (الإله) لصح إسلام الشخص بها وبدون أن يتلفظ بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"
(2)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ففاتحة دعوة الرسل: الأمر
(1)
تفسير آيات من القرآن الكريم (ص 11).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم (1/ 17)، برقم (25)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 53)، برقم (22).
بالعبادة. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله"، وذلك يتضمن الإقرار به، وعبادته وحده، فإن الإله هو المعبود، ولم يقل: حتى يشهدوا أن لا رب إلا الله، فإن اسم الله أدل على مقصود العبادة له، التي لها خلق الخلق، وبها أمروا"
(1)
.
ويقول العلامة المعصومي: "اعلم أن (لا إله إلا الله) هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام، فمن قالها -عالمًا بمعناها، ومعتقدًا إياها- فقد دخل في الإسلام وصار من أهل دار السلام (الجنة)، وأما من قال:(لا خالق إلا الله)، أو (لا رازق إلا الله)، أو (لا رب إلا الله)، أو (لا موجود إلا الله)، أو (الله موجود)، أو نحو ذلك فلا يكون مسلمًا، ولا يكون من أهل دار السلام، وهذه الكلمات- وإن كانت حقًا لكن يشترك في القول بها سائر الناس، من المشركين والمجوس، والنصارى، واليهود، وغيرهم
…
فما يتداوله العوام، ومن يدعي العلم والدين من الطغام من قولهم:(اللّه موجود)، أو (لا رب إلا الله)، أو (لا خالق إلا الله)، أو نحو ذلك، فليس من خصائص دين الإسلام، ولا من خصائص المسلمين، بل يشترك فيه المشركون، واليهود، والنصارى، والمجوس، فتنبه وتدبر، ولا تكن أعمى، وأصم، تقلّد كل ناعق وناهق"
(2)
.
فبيَّن رحمه الله أن: لا إله إلا الله هي الفارقة بين الإسلام والشرك، فلا يعتبر إسلام الكافر إلا بقولها، ولو كان الرب بمعنى الإله، أو كان الإله بمعنى الخالق، أو الرازق، أو الموجود لم يكن لـ (لا إله إلا الله) خاصية في اعتبار الدخول في الإسلام دون غيرها.
(1)
مجموع الفتاوى (2/ 13 - 14).
(2)
مفتاح الجنة (ص 40 - 41).
وأما ما ذكره أهل العلم من علاقة الاقتران والافتراق بين الربوبية والألوهية بأنهما إذا اقترنا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فإنما أخذوا ذلك من دلالة النصوص الشرعية، إذ قد وردت نصوص ذكر فيها اسم الرب متضمنًا معنى الربوبية والألوهية ولا يصح حمله على الربوبية فقط دون الألوهية، وقد تطلق الربوبية في بعض النصوص ويراد بها الألوهية، ولكن تدخل فيها الربوبية من باب التضمن، وقد تطلق الربوبية وتدخل فيها الألوهية من باب الاستلزام، ولذا جمع أهل العلم بين هذه النصوص بتطبيق قاعدة (الاقتران والافتراق) بين كلمة (الرب) و (الإله) ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80].
فكلمة الأرباب جمع رب ومعناها: الإله والمعبود؛ لأن الآية قيل نزلت في اليهود والنصارى، وهم لم يدعوا أن الملائكة والنبيين خالقين لهم ولا خالقين للعالم، وقيل: نزلت في وفد نجران عندما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن نعبدك)
(1)
، فهذا يدل على أن كلمة الأرباب المقصود منها أنهم اتخذوهم آلهة ومعبودين صرفوا لهم العبادة، أو أنهم صرفوا لهم الطاعة في الحلال والحرام وكلاهما عبادة لله تبارك وتعالى.
يقول الإمام الطبري: "لأن الآية نزلت في سبب القوم
(2)
الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن نعبدك)، فأخبرهم الله جلَّ ثناؤه أنه ليس لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين
(1)
أخرجه الإمام الطبري في تفسيره (3/ 325)، وابن كثير في التفسير (1/ 378)، وعلق عليه العلامة أحمد شاكر في تفسير الطبري ولم يتكلم على سنده صحة وضعفًا.
انظر: تفسير الطبري (6/ 539) برقم (7296) بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر.
(2)
علق الشيخ محمود محمد شاكر على هذا الموضع بقوله: "في المطبوعة: "في سبب القوم
…
"، وهو باطل المعنى، ولم يحسن قراءة المخطوطة؛ لأنها غير منقوطة؛ يعني: بقوله: "في سب القوم
…
": من جراء القوم وبسبب قولهم ما قالوا". [تفسير الطبري بتحقيق شاكر (6/ 548)].
أربابًا، ولكن الذي له أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين
…
فتأويل الآية إذًا: وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا؛ يعني بذلك: آلهة يعبدون من دون الله، كما ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله"
(1)
.
ويقول الإمام السمعاني: "ولا يأمركم ذلك البشر أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا؛ فالنصارى هم الذين اتخذوا النبيين أربابًا، والصابئون هم الذين اتخذوا الملائكة أربابًا"
(2)
.
ومن المعلوم أن النصارى تؤمن بربوبية الله تعالى وكونه رب العالمين، وخالقهم لكنهم يشركون بالله تعالى بعبادة الأحبار، وقولهم في عيسى عليه السلام أنه ابن الله.
يقول الإمام ابن تيمية في قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]: "فبيَّن أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر، ومعلوم أن أحدًا من الخلق لم يزعم: أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس: أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهًا مساويًا لله في جميع صفاته.
بل عامة المشركين بالله: مقرون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له؛ سواء كان ملكًا أو نبيًا أو كوكبًا أو صنمًا كما كان مشركوا العرب يقولون في تلبيتهم:(لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك) فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وقال: "لبيك اللَّهُمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
(1)
تفسير الطبري (3/ 329).
(2)
تفسير السمعاني (1/ 336).
وقد ذكر أرباب المقالات: ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين، في الملل والنحل، والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات"
(1)
.
فدل ذلك على أن اتخاذهم كان للعبادة وليس لاعتقاد الربوبية في الملائكة أو الأنبياء.
ويقول ابن كثير في الآية: "أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}: أي: لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له"
(2)
.
ويقول الألوسي: "والمعنى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك، ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة، وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادًا له"
(3)
.
ويقول -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "كما قال للصحابة: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]، فتأمل هذه الآية، واعرف ما ذكرت لك في الربوبية
(4)
: أنها التي نسبت إلى تاج ومحمد بن شمسان، فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في تاج وأمثاله"
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 96).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 378).
(3)
روح المعاني (3/ 208).
(4)
أي: أنها العبادة أو صرف شيء من العبادة لهؤلاء.
(5)
تفسير آيات من القرآن الكريم (ص 16).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير الآية: "يمتنع ويستحيل كل الاستحالة لبَشَرٍ مَنَّ الله عليه بالوحي، والكتاب والنبوة، وأعطاه الحكم الشرعي، أن يأمر الناس بعبادته، وبعبادة النبيين والملائكة، واتخاذهم أربابًا؛ لأن هذا هو الكفر، فكيف وقد بعث بالإسلام المنافي للكفر من كل وجه، فكيف يأمر بضده، هذا هو الممتنعح لأن حاله وما هو عليه، وما منَّ الله به عليه من الفضائل والخصائص تقتضي العبودية الكاملة، والخضوع التام لله الواحد القهار"
(1)
.
وبهذا يتبين لنا أن المقصود من الأرباب في الآية هم الآلهة المعبودة من دون الله تعالى.
2 -
ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
ذكرت الأرباب في هذه الآية والمقصود بها الآلهة المعبودة؛ فإنهم لم يعتقدوا الأحبار والرهبان أربابًا خالقين ومدبرين، بل ما حصل منهم من الكفر هو عبادتهم، وهذه العبادة هي طاعتهم ومتابعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ولذا قال سبحانه في آخر الآية مؤكدًا أن هذا الاتخاذ للأرباب هو عبادة الأحبار والرهبان:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]، كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطاعة في التحليل والتحريم بأنها عبادة لهم في حديث عدي بن حاتم الآتي، وعليه يكون معنى الأرباب؛ أي: المعبودون بمتابعتهم في التحليل والتحريم.
وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للأرباب جاء في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه
(1)
تفسير الشيخ السعدي (ص 136).
قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:"يا عدي اطرح عنك هذا الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه"
(1)
.
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطاعة في التحليل والتحريم عبادة وأنها من اتخاذ الأرباب، فدل على أن معنى الأرباب في الآية هم المعبودون بسبب الطاعة واتباعهم في التحليل والتحريم.
يقول الإمام الطبري: " {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}: يعني: سادة لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم مما قد أحله الله لهم"
(2)
.
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف اتخذوهم أربابًا؟ قال له النبي-صلى الله عليه وسلم: "إنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم" وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابًا"
(3)
.
3 -
ومن ذلك حديث سؤال الملكين في القبر (من ربك وما دينك ومن نبيك)
(4)
، والمراد بالرب في الحديث: من إلهك ومن معبودك؛ فإن الربوبية لم ينكرها أحد من المشركين كما مرَّ تقرير ذلك من قبل.
(1)
أخرجه الترمذي في جامعه، كتاب: تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة التوبة (5/ 278)، برقم (3095)، وأخرجه الطبري في التفسير (10/ 114)، وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 861)، برقم (3293).
(2)
تفسير الطبري (10/ 114).
(3)
أضواء البيان (1/ 307).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (4/ 239)، برقم (4753)، والترمذي في جامعه:(5/ 295)، برقم (3120)، وقال عقبه:"هذا حديث حسن صحيح"، وهو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.