المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها - القواعد في توحيد العبادة - جـ ١

[محمد بن عبد الله باجسير]

فهرس الكتاب

- ‌المُقَدِّمَة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌خطة البحث

- ‌المنهج المتبع في هذا البحث

- ‌مشاكل البحث وصعوباته:

- ‌شكر وتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول القاعدة لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الأول: القاعدة لغة

- ‌ المطلب الثاني * القاعدة اصطلاحًا

- ‌ المطلب الثالث * بيان العلاقة بين القاعدة والضابط والأصل

- ‌المبحث الثاني أهمية القواعد وأثرها في العلوم

- ‌المبحث الثالث التقعيد ومنهج العلماء فيه

- ‌المبحث الرابع توحيد العبادة ومنزلته الشرعية

- ‌المطلب الأول: معناه وحقيقته

- ‌ المطلب الثاني * أهميته ومنزلته من الدين

- ‌ المطلب الثالث* أدلته

- ‌ المطلب الرابع* أسماؤه وإطلاقاته

- ‌أ - توحيد الطلب والقصد:

- ‌ب - توحيد الارادة والطلب:

- ‌ج - توحيد الشرع والقدر:

- ‌د - التوحيد العملي الإرادي، أو العملي القصدي:

- ‌هـ - توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة:

- ‌الباب الأول القواعد المتعلقة بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الأول القواعد العامة في توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول قاعدة دين الأنبياء واحد هو الإسلام

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة الشرع مبناه على تكميل أديان الخلق وعلى تكميل عقولهم

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: الشرع:

- ‌ثانيًا: العقل:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدةالدين قد كَمُلَ بيانه في أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة العبادة هي الغاية التي خلق الله لها الخلق من جهة أمره ومحبته ورضاه

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة ليس في الشريعة بقعة تقصد للعبادة لذاتها إلا المساجد ومشاعر الحج

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السادسقاعدة النزاع بين الرسل وأقوامهم إنما كان في إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السابعقاعدة البركة لله وصفًا وملكًا وفعلًا وكل بركة في الكون فمن آثار بركته سبحانه

- ‌ المسألة الأولى * شرح بعض ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في اعتماد القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة [*]: فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثامنقاعدة التوجه إلى شيء أو إلى جهة بقصد القربة وحصول الثواب عبادة

- ‌ توطئة

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى التوجه لغة وشرعًا:

- ‌تمهيد في أحوال التوجه والاستقبال:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثانيالقواعد المتعلقةبحقيقة العبادة وضابطها

- ‌المبحث الأولقاعدة العبادة لا تسمى عيادة في حكم الشرع إلا مع التوحيد

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة مناط العبادة غاية الحب مع غاية الذل ولا تنفع عبادة بواحد دون الآخر

- ‌ المسألة الأولى* شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى العبادة:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة صلاح الأعمال بصلاح النيات وكل عمل تابع لنية عامله وقصده

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى النية لغة وشرعًا:

- ‌ المسألة الثانية*بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثالثالقواعد المتعلقة بأنواع التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدة أنواع التوحيد وأضدادها متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌بيان معنى التلازم في القاعدة:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة توحيد الربوبية لا يصير الإنسان به مسلمًا حتى يأتي بأنواع التوحيد الأخرى

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة توحيد الربوبية أقرت به الخلائق مؤمنها وكافرها ولم ينكره إلا الشذاذ من العالم

- ‌ المسألة الأولى* بيان بعض ألفاظ القاعدة

- ‌معنى توحيد الربوبية:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة الربوبية والألوهية مفهومان متغايران فإذا اقترنا افترقا وإذا افترقا اقترنا

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌بيان معنى الرب والاله في القاعدة:

- ‌أما الألوهية:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الرابعالقواعد المتعلقة بأصل التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدةأصل الإيمان وقاعدته التي عليها مدار أعمال العباد هو تحقيق معنى الشهادتين قولًا وعملًا وعقيدة

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌القسم الرابع:

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة شهادة أن لا إله إلا الله مشتملة على النفي والإثبات

- ‌ المسألة الأولى * شرح مفردات القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة الكفر بالطاغوت ركن التوحيد

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى الطاغوت:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة محبة الله هي أصل الدين والمحبة فيه أو له تبع لمحبته والمحبة معه تضاده وتناقضه

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى المحبة:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: معنى الحنيفية:

- ‌ثانيًا: معنى الفطرة:

- ‌ثالثًا: معنى المُوْجَبِ والمُقْتَضى:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

الفصل: ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

وركبانًا، ويأتون إليها من كل واد عميق، ومرمى سحيق، ويتجشمون في سبيلها مشاق السفر وعناء التنقل،

فيذبحون هنالك الأنعام لله تعالى، ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت"

(1)

.

*‌

‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

هذه بعض الفوائد التي يمكن الاستفادة منها من خلال هذه القاعدة العظيمة:

أولًا: الضابط في تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كانت مقامًا له، أو مكانًا مرَّ به وصلى فيه، أو بقعة نزل واستراح فيها، أو غير ذلك من مواضع جلوسه أو قيامه أو نومه، أو البقاع التي نزل بها في طريق هجرته، هو أن:

ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأمكنة والبقاع بالعبادة، أو كان يتحراها بإيقاع العبادة فيها، أو قصدها تشريعًا للأمة فهذا يشرع متابعته فيها صلى الله عليه وسلم، وتحري تلك الأمكنة بالعبادة اقتداء به عليه الصلاة والسلام، وطلبًا للقربة والثواب، وذلك مثل قصده للصلاة عند مقام إبراهيم عليه السلام عملًا بقوله تعالى:{مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وكقصده لعرفات، ومزدلفة، ومنى، وغيرها من المواضع التي قصدها تقربًا وتشريعًا للأمة.

وأما ما فعله صلى الله عليه وسلم من العبادات وغيرها في أي بقعة من البقاع اتفاقًا، أو للحاجة، ولم يكن قصده التشريع للأمة، وإنما فعلها من باب العادة، أو صادفته الصلاة فيها، وصلى من غير قصد أو تحر لها، فهذا مما لا يشرع قصده أو متابعته فيه.

(1)

رسالة التوحيد (ص 100).

ص: 199

هذا هو الضابط في تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لا يجوز متابعته إلا فيما قصد فيه التعبد، والقربة إلى الله تعالى، وأما ما حصل من باب العادة، أو اتفاقًا ومصادفة، أو للحاجة، فلا تشرع فيه المتابعة؛ لأن المتابعة الشرعية تكون في صورة العمل والقصد، وهذا هو المذهب الحق

(1)

.

يقول الإمام ابن تيمية: "وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه، فإذا خصص زمانًا أو مكانًا بعبادة كان تخصيصه بتلك العبادة سُنَّة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها، وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنَّه فعل، وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد"

(2)

.

وقال رحمه الله: "فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلًا سنَّ لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحًا كما فعله مباحًا؛ ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان، كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنّا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحًا فعلناه مباحًا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصًا به نوع اختصاص"

(3)

.

وممن مال إلى كونه عبادة الإمام الشوكاني حيث قال: "فإن تتبع

(1)

لقد تمت دراسة هذه المسألة في قاعدة مستقلة بعنوان: (اعتبار ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم عبادة موقوف على قصده التعبد)(ص 704).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 409).

(3)

المصدر نفسه (27/ 504).

ص: 200

آثاره، والوقوف في مواقفه، في حج وغيره، هو من أعظم مواطن التبرك التي تكون ذريعة إلى الخير، وصلة إلى الرشد، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في مثل هذا، ويتنافسون فيه، حتى كان عبد الله بن عمر إذا وصل إلى السباطة التي بال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فعل كفعله وبال قائمًا"

(1)

.

وهذا كما سبق خلاف ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من السلف.

لكن هناك فرقًا بين التأسي به في مجرد أفعاله صلى الله عليه وسلم التي لم يقصد بها العبادة، -كما هو الواقع من فعل ابن عمر- وبين تلمس البركة واعتقادها في آثاره صلى الله عليه وسلم المكانية، فيعتقد أن في نفس المكان وذات الموضع بركة تلتمس بسببه صلى الله عليه وسلم، فهذا الثاني مما لا خلاف فيه بين السلف، وهو من أسباب حدوث الشرك في الأمة، إذ هو ما كانت اليهود والنصارى تفعله مع قبور أنبيائها.

يقول الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان: "فالجاهلية هي التي تعظم آثار أنبيائها، ولهذا يقول عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يذهبون إلى شجرة البيعة:(إنما أهلك من كان قبلكم أنهم تتبعوا آثار أنبيائهم) ثم أمر بقطع الشجرة، وهذه الأماكن لم يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، أما الأماكن التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، مثل صلاته عند مقام إبراهيم، عملًا بقوله تعالى:{مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فإنَّها تشرع الصلاة فها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما جلوسه في غار حراء، وفي غار ثور، أو جلوسه في الطريق بين مكة والمدينة للاستراحة، فهذا لم يفعله من أجل التشريع، وإنما فعله اتفاقًا وللحاجة، فيجب أن يفرق بين هذا وهذا، فالأماكن التي لم يقصدها للتشريع، وإنما مرّ بها أو جلس فيها

(1)

السيل الجرار (2/ 201).

ص: 201

من باب العادة، أو للاستراحة، أو صادفته الصلاة وصلى فيها من غير قصد لها، فإنَّه لا يتخذ هذا المكان الذي صلى فيه الرسول مصلى؛ لأنَّه فعله لا من باب القصد، وإنما فعله لأن الصلاة أدركته في هذا المكان فصلى فيه"

(1)

.

ومما سبق تقريره يمكن القول بأنه لا يجوز تتبع آثاره صلى الله عليه وسلم بقصد العبادة إلا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قصده إياها لأجل التعبد؛ وهذا بخلاف مسجده صلى الله عليه وسلم، والمسجد الحرام، ومسجد قباء، وكقصده لمقام إبراهيم، وكل ما ثبت بالنص من ذلك.

ثانيًا: لا يشرع قصد المساجد والمشاهد التي بمكة أو بالمدينة، وما حولهما من بقاع وجبال وأودية، بنية التعبد وحصول الثواب، وبحجة أنها آثار له صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن مجرد قصد التعبد يفتقر إلى دليل يثبته، وهذا فيما ثبت أنه من الآثار النبوية؛ فكيف بما أحدث وجعل من الآثار المعظمة بعده صلى الله عليه وسلم بقرون عديدة، وأزمان مديدة.

يقول الإمام ابن تيمية: "فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقًا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجًا وعمارًا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبًا لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسُنَّته، وأتبع لها من غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسُنَّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة

(1)

شرح مسائل الجاهلية، للشيخ صالح الفوزان (ص 228).

ص: 202

ضلالة"

(1)

"

(2)

.

كما أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قصد جبل حراء، ولا جبل ثور بعد أن أكرمه الله بالرسالة، وأمر الأمة بالإيمان به وبطاعته، مع أنه اعتمر أربع عمر، وحج حجة الوداع، لا هو ولا أحد من صحابته لم يثبت عنهم ذلك.

يقول شيخ الإسلام: "فتحنثه

(3)

وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به، وطاعته، واتباعه، أقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين، الذين هم أفضل الخلق، ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء.

ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر، وعمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله.

وهو في ذلك كله؛ لا هو، ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئًا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا

(1)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السُّنَّة، باب: في لزوم السُّنَّة (4/ 200)، رقم (4607)، والترمذي في جامعه، كتاب العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع (5/ 44)، رقم (2676)، وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وأحمد في المسند (4/ 126)، رقم (17185)، والدارمي في المقدمة (1/ 57)، رقم (95).

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 389).

(3)

التَّحَنُّثُ: هُوَ مطلق التَّعَبُّدُ، وقيل: هو التعبد اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَد، كما في حديث الغار، حيث جاء تقييده في كلام الزهري، فظَنَّ البعض أَنّ قولَه الليَالِيَ ذوات العدَد قَيْدٌ في تَفْسِيرِ يَتَحَنَّث، وقد صَرّحَ شُرّاحُ البُخَارِيّ وغيرُهم من أَهلِ الغَريب بأَنَّ قولَ الزُّهْرِيّ اللّيَالِي ذَواتِ العَدَدِ إِنّمَا هو لِبَيَانِ الوَاقِعَةِ، ذَكَرَها اتّفاقِيَّةً، لا أنّ الَتَّحَنُتَ هو التَّعَبُّدُ بقَيْدِ اللّيَالِي ذَواتِ العَدَدِ، فإِنّه لا قائِلَ بِه، بل التَّحَنُّثُ هو التَّعَبُّد المُجَرَّدُ، صرَّحَ به غيرُ واحِدٍ، فلا معنى لتَقْييدِه، وقوى هذا البحث الزبيدي جدًّا. [انظر: المصباح المنير (1/ 154)، وتاج العَروس (5/ 225)].

ص: 203

بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى، والمزدلفة، وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة.

ثم بعده خلفاؤه الراشدون، وغيرهم من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء"

(1)

.

فتتبع هذه الآثار وقصدها من أجل القربة والعبادة ليس من فعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفائه الراشدين، الذين أعلى الله ذكرهم في كتابه، وحث المصطفى صلى الله عليه وسلم على متابعتهم، والاهتداء بهديهم، بل هو مما أحدث في دين الله سبحانه وتعالى.

يقول الإمام ابن وضاح القرطبي

(2)

بعد أن ذكر قصتي عمر: "وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم، ما عدا قباء وأُحدًا. قال: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس، فصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضًا ممن يقتدى به، وقَدِمَ وكيع

(3)

أيضًا مسجد بيت المقدس فلم يَعْدُ فعل سفيان

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 425).

(2)

هو: محمد بن وضاح بن بزيع مولى ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الأموي الداخل، وهو الحافظ الكبير أبو عبد الله القرطبي، ولد سنة تسع وتسعين ومائة، أو سنة مائتين بقرطبة، وكان عالمًا بالحديث، بصيرًا بطرقه، متكلمًا على علله، كثير الحكاية عن العباد، ورعًا، زاهدًا، متعففًا، صبورًا على نشر العلم، رحل إلى المشرق، وأخذ عن كثير من العلماء، ثم عاد إلى الأندلس، فحدث مدة طويلة، ونشر بها علمه، فنفع الله بن أهل الأندلس، صنف كتبًا منها: البدع والنهي عنها، ومكنون السر ومستخرج العلم، توفي سنة 289 هـ. [انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ (2/ 646 - 647)، والأعلام (7/ 133)].

(3)

هو: وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي أبو سفيان، من الحفاظ المتقنين، وأهل الفضل في الدين، وكان ممن رحل، وكتب، وجمع، وصنف، وحفظ، وحدث، وذاكر، وبث، كان مولده سننة تسع وعشرين ومائة، ومات بطريق مكة سنة =

ص: 204

فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرًا عند من مضى، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه، ومتقربٍ إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة"

(1)

.

كما أن تتبع هذه الآثار من أعظم أسباب الفتنة، والشيطان حريص على إيقاع المسلم فيما يبعده عن ربه تبارك وتعالى، وأعظم ما يحرص عليه الشيطان تلبيس الدين على أهل الإسلام بإيقاعهم في البدع والشرك بالله العظيم.

ولذا كان أمن الفتنة، وسد باب الذريعة من أعظم الأسباب التي دعت عمر رضي الله عنه لقطع الشجرة التي كان ينتابها أصحابه، ولا شك أن سد ذرائع الشر، وقفل أسباب الفتن من أعظم أصول هذه الشريعة

(2)

.

يقول عيسى بن يونس

(3)

مفتي أهل طرسوس

(4)

عن قطع عمر للشجرة: "قطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة"

(5)

.

= ست وتسعين ومائة. [انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ (1/ 306)، ومشاهير علماء الأمصار (ص 173)].

(1)

انظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 43).

(2)

سيأتي الكلام عن قاعدة: سد ذرائع الشرك (ص 963).

(3)

هو: عيسى بن يونس ابن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، الإمام، القدوة، الحافظ، الحجة، أبو عمرو وأبو محمد، الهمداني، السبيعي، الكوفي، كان واسع العلمن كثير الرحلة، وافر الجلالة، واتفقوا على توثيقه، مات سنة تسع وثمانين ومائة. [انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 489 - 492)، ومشاهير علماء الأمصار (ص 186)].

(4)

طَرَسُوس بفتح أوله وثانيه، وسينين مهملتين بينهما واو ساكنة، بوزن قَرَبُوس: كلمة أعجمية رومية، ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر، قيل: إن مدينة طرسوس أحدثها سليمان خادم الرشيد، وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. [انظر: معجم البلدان (4/ 28)].

(5)

البدع والنهي عنها (ص 42).

ص: 205

وقال الحافظ ابن حجر في شأن الشجرة التي قطعها عمر: "وبيان الحكمة في ذلك: وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدًا فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله؛ أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى"

(1)

.

وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "ولأن تتبعها -أي: آثار النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الوثنية فيما بعد بتبرك الناس به، ويقصدونه من بعيد، ويسافرون إليه، فيحصل في ذلك ما حصل في الأمم السابقة من الشرك، وربما يبنى عليه"

(2)

.

وبناء على ذلك فالقول بعدم جواز تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم فيه سد لذرائع عظيمة وفتن كبيرة، ومن أعظمها الشرك بالله العظيم، خاصة من عوام الأمة وضعفاء القلوب.

ثم إن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها النبي، أو جلس عليها، أو طريق مرَّ بها تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعًا، مع عدم فعل الصحابة لشيء من ذلك

(3)

.

يقول الشيخ صديق حسن خان: "قالوا: المشي في أرض مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر السيئات، خصوصًا مع النجة الصالحة، وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعًا آثاره الشريفة، قلت: وذلك يحتاج إلى سند؛ لأن المكفّر إنما هو اتباع هديه وسُنَّته ظاهرًا وباطنًا، دون تتبع آثاره

(1)

فتح الباري (6/ 118)، وانظر: عمدة القارئ (17/ 220).

(2)

شرح مسائل الجاهلية، للشيخ الفوزان (ص 228 - 229).

(3)

انظر: التبرك أنواعه وأحكامه، للجديع (ص 348).

ص: 206

الأرضية فقط، فتدبر"

(1)

.

ويقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-: "وأما آثاره المكانية كمكانٍ سار فيه، أو بقعةٍ صلى فيها، أو أرضٍ نزل بها، فلم يعرف دليل شرعي يومئ أو يشير إلى أن بركة بدن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعدت إلى هذا المكان، فيكون مباركًا يشرع التبرك به، ولذا لم يكن يفعل هذا صحابته في حياته ولا بعد مماته.

فما سار فيه رسول الله أو نزل فيه فلا يجوز التبرك به؛ لأن هذا وسيلة إلى تعظيم البقاع التي لم يشرع لنا تعظيمها، ووسيلة من وسائل الشرك، وما تتبع قوم آثار أنبيائهم إلا ضلوا وهلكوا"

(2)

.

وأما ما استدل به البعض بما كان يفعله ابن عمر

(3)

رضي الله عنهما من تتبعه لمواضع النبي صلى الله عليه وسلم التي صلى فيها أو نزل فيها

(4)

، فلا حجة في فعله رضي الله عنه، وقبل بيان ضعف هذه الحجة لا بد من تصور محل النزاع في هذه المسألة، وبيان ما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنهما على وجه التحديد؛ لأن بعض الناس قد اتخذ من فعل ابن عمر ذريعة لتجويز أمور لا يستحلها ابن عمر رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة، بحجة أن ابن عمر فعلها، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ثلاثة صور لتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ومواطن عبادته، وبيَّن أن الصورة الأولى هي التي كان ابن عمر يفعلها، بخلاف

(1)

رحلة الصديق إلى البيت العتيق، لصديق حسن خان (ص 21).

(2)

هذه مفاهيمنا، صالح آل الشيخ (ص 220 - 221).

(3)

هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدوي، ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية، وكان من أهل الورع والعلم، كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على تحري أفعاله وسيرته، والتشبه به في سائر أحواله، وكان من المكثرين من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، توفي رضي الله عنه سنة 72 هـ، وقيل: 73 هـ. [انظر: الاستيعاب (2/ 333)، والإصابة (2/ 338)].

(4)

صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 183)، رقم (469).

ص: 207

بقية الصور، وفيما يلي ذكر هذه الصور بإيجاز وتصرف:

أولًا: أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في صورة الفعل الذي فعله، من غير أن يعلم قصده فيه، أو مع عدم السبب الذي فعله، وهذا ما كان يفعله عبد اللّه بن عمرر رضي الله عنهما.

ثانيًا: أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتًا للصلاة، بل أراد أن ينشئ الصلاة والدعاء لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره.

ثالثًا: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرًا قصيرًا أو طويلًا، مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال: فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، ونحو هذه البقاع، فهذا مما يعلم كل من كان عالمًا بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئًا من هذه الأمكنة

(1)

.

والصورة الأولى التي كان يفعلها ابن عمر لا حجة للمتمسك بها في تجويزه تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم من أجل العبادة أو التبرك بها؛ لأمور عدة:

أولًا: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن قصده بركة البقعة، أو خيرية المكان، وإنما كان يقصد تمام الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له في كل أموره وشؤونه.

يقول الإمام ابن تيمية: "وهذا من ابن عمر تحرِّ لمثل فعله، فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، ولم

(1)

انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 424).

ص: 208

يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها"

(1)

.

وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-: "وابن عمر ما كان يطلب بركة المكان، ولكنه يطلب تمام الاقتداء بكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، حتى إنه أراد الصلاة في كل مكانٍ صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتتبع ذلك ويعلمه، وما كان فعله -فيما يظهر- قصدًا للتبرك بالبقعة كما يفهمه المتأخرون، وإنما قصد تمام الاقتداء"

(2)

.

ويقول الدكتور ناصر الجديع: "إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يقصد التبرك بالصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما كان قصده شدة الاقتداء والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم والتشبه به، فهو حريص على بركة الاقتداء، لا على بركة المكان"

(3)

.

ثانيًا: أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بموافقته في الظاهر والباطن؛ أي: في صورة العمل وقصده من العمل -كما مرَّ معنا من قبل- أما موافقته صلى الله عليه وسلم في ظاهر العمل ومخالفته في القصد والنية، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن ذلك لا يعتبر اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل قد يكون من البدع المنهي عنها.

يقول الإمام ابن تيمية: "وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلًا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند إسطوانة

(1)

المصدر نفسه (ص 423).

(2)

هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح آل الشيخ (ص 222).

(3)

التبرك أنواعه وأحكامه (ص 350).

ص: 209

مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء، والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.

وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده؛ مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه، أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع"

(1)

.

ثالثًا: أنه لم يوافق ابن عمر رضي الله عنهما على فعله هذا جمهور الصحابة، بل هذا مما انفرد به مخالفًا بذلك الغالب والمتواتر من فعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فالحجة في قول جمهور الصحابة؛ إذ إن قول الصحابي لا يعتبر حجة إذا خالفه صحابي آخر، فكيف والمخالفة وقعت من جمهورهم.

يقول الإمام ابن تيمية: "ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحبًا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والإقتداء به"

(2)

.

وقال رحمه الله أيضًا: "وإدن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله، فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك، وتواتر عن المهاجرين والأنصار:

أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ فيمتنع أن يكون فعل ابن عمر -لو فعل ذلك- حجة على أبيه، وعلى المهاجرين والأنصار"

(3)

.

وقال الشيخ محمود شكري الألوسي

(4)

في ترجيحه لفعل عمر بن

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 280)، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 387).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 280).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 424).

(4)

هو: أبو المعالي السيد محمود شكري ابن السيد عبد الله بن السيد محمود (5) شهاب الدين الألوسي، العالم العلامة، اللغوي، الأديب المصلح، ولد سنة =

ص: 210

الخطاب على ابنه عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما: "وما ذكره عمر هو الحريّ بالقبول، وهو مذهب جمهور الصحابة -غير ابنه-، وهو الذي يجب العمل به ويعول عليه"

(1)

.

ويقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-: "وإنما قصد -أي: ابن عمر- تمام الاقتداء، ولم يفعله غيره من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يوافقوه، بل إن أباه نهى الناس عن تتبع الآثار المكانية، وقوله مقدم على رأي ابنه عند الخلاف باتفاق، وهو خلاف لا يقوم في مقابلة اتفاق عمل الصحابة على ترك ما فعله ابن عمر رضي الله عنه، ولا شك أن الصواب، والحق مع عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة، وهو الحري بالاتباع، الفاصل عند النزاع، والله أعلم"

(2)

.

ثالثًا: لقد ظهر لنا بجلاء -مما سبق- خطورة تتبع آثار الأنبياء وما فيه من التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، وكونه ذريعة لتعظيم تلك الآثار، وتعلق القلوب بها، مما يفضي في الغالب -مع طول العهد- إلى وقوع المسلم في الشرك بالله تعالى، واعتقاد النفع والضر في تلك الأماكن، فيقصدها تقربًا إلى الله، وطلبًا للبركة وابتغاء للخير.

وبناء على ذلك، يظهر حكم إحياء الآثار الإسلامية؛ وخاصة آثار الأنبياء والصالحين، والاهتمام بها، وتعظيمها، وتمجيدها، والمحافظة عليها، وأن ذلك مما نهى عنه الشرع وحرمه، بل الواجب هو إزالتها،

= 1272 هـ، تلقي العلم عن أبيه وعمه نعمان خير الدين وغيرهم، وتقدم في العلوم العقلية والنقلية، حارب البدع والخرافات، ودعا إلى نهج السلف الصالح، وهاجم التصوف وطرقه، من مؤلفاته: بلوغ الإرب في أحوال العرب، وأخبار بغداد وما جاورها من البلدان، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، توفي رحمه الله في بغداد سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وأربعين من الهجرة. [انظر ترجمته في: مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص 286)، والأعلام للزركلي (7/ 172 - 173)].

(1)

مسائل الجاهلية (ص 123).

(2)

هذه مفاهيمنا (ص 222 - 223).

ص: 211

وإخفاؤها، والقضاء عليها حتى لا تكون مصدر شر، ومنبع فتنة للجهلة وضعاف النفوس.

ومما يدل على حرمة إحياء ما يسمى بالآثار الإسلامية، وتشديد الشرع في تشييدها، والمحافظة عليها ما يلي:

أولًا: كون ذلك من البدع التي ليس عليها دليل من الكتاب والسُّنَّة، ولا من فعل سلف الأمة من أهل القرون المفضلة، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اهتم بالآثار الإسلامية من حيث البناء والتشييد والزيارة

(1)

، إلا ما دل الشرع على وجوب تعظيمه، ولم يثبت ذلك عن صحابته الكرام، ولا عن أحد من علماء الأمة المشهود لهم بالخيرية والإمامة، ولو كان ذلك خيرًا وسُنَّة وطاعة لسبقونا إليه، فعلم أنه من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن الإحداث في الدين الذي نهانا عنه ربنا تبارك وتعالى في قوله عز وجل:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. فسماهم الله ظالمين وتوعدهم بالعذاب.

وجاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم"، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة")

(2)

.

(1)

لقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة، ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء. [انظر: مجموع الفتاوى (18/ 11)، وانظر:(26/ 144)].

(2)

رواه الإمام مسلم، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة (2/ 592)، رقم (867).

ص: 212

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في جواب سؤال عن دار الأرقم وجعلها مزارًا أو مكتبة، أو متحفًا: "أما اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم

(1)

مزارًا للوافدين إلى البيت الحرام يتبركون به بأي وسيلة كان ذلك، سواء كانت إعلان كتابة دار الأرقم عليها وفتحها للزيارة، أو اتخاذها مكتبة، أو متحفًا، أو مدرسة، فهذا أمر لم يسبق إليه الصحابة الذين هم أعلم بما حصل في هذه الدار من الدعوة إلى الإسلام والاستجابة لها؛ بل كانوا يعتبرونها دارًا للأرقم، له التصرف فيها شأن غيرها من الدور، وكان الأرقم نفسه يرى هذا الرأي حتى إنه تصدق بها على أولاده، فكانوا يسكنون فيها"

(2)

.

ويقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: "ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها مما يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم، أو فعله أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الدين، بل هو من المحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها أصحابه رضي الله عنهم"

(3)

.

ويقول رحمه الله أيضًا: "ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرًا مشروعًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة، أو أمر بذلك، أو فعله أصحابه،

(1)

هو: الأرقم بن أبي الأرقم بن عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن مرة بن كعب أبو عبيد الله القرشي المخزومي، أحد السابقين، استخفى النبي صلى الله عليه وسلم بداره المعروفة بدار الخيزران عند الصفا حين دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأسلم، نفله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيفًا، واستعمله على الصدقات، وهو ممن شهد بدرًا وأحدًا، والمشاهد كلها، وأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة، مات سنة 53 هـ، وقيل: سنة 55 هـ، وقيل: يوم توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ودفن بالبقيع عن بضع وثمانين سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بوصيته. [انظر ترجمته في: مشاهير علماء الأمصار (ص 31)، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (1/ 165)].

(2)

فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/ 152) وما بعدها.

(3)

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للشيخ ابن باز (1/ 403 - 404).

ص: 213

أو أرشدوا إليه، وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله، وأحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنصحهم لله ولعباده، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة، أو غار ثور، ولم يفعلوا ذلك أيضًا حين عمرة القضاء، ولا عام الفتح، ولا في حجة الوداع، ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد، ولا محل شجرة البيعة، فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله"

(1)

.

ثانيًا: ما يتضمنه إحياء هذه الآثار من التشبه بالمشركين وأهل الكتاب الذين يهتمون ويمجدون هذه الآثار، ويعتجرون تعظيمها والعناية بها مظهرًا من مظاهر التقدم والحضارة، بل ورافدًا اقتصاديًا، وموردًا هامًّا يُدِرُّ على الدول الأموال الطائلة، وذلك بسبب فتحهم لأبواب السياحة، التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الناس.

وقد نهينا عن مشابهتهم كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"

(2)

.

يقول الإمام ابن القيم: "ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب، الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات؛ كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله"

(3)

.

يقول الشيخ محمود شكري الألوسي في مسألة اتخاذ آثار الأنبياء مساجد؛ والتي نص عليها الشيخ -المجدد الإمام- محمد بن عبد الوهاب في كتابه مسائل الجاهلية ما نصه: "فإن هذه المسألة أيضًا من بدع

(1)

المصدر نفسه (3/ 339).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب: في لبس الشهرة (4/ 44)، رقم (4031)، من رواية ابن عمر رضي الله عنه وحسنه الحافظ في الفتح (10/ 271).

(3)

زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 59).

ص: 214

جاهلية الكتابيين، كانوا يتخذون آثار أنبيائهم مساجد، فورثهم الجاهلون من هذه الأمة، فتراهم يبنون على موضع اختفى به النبي صلى الله عليه وسلم أو وصل قدمه المبارك إليه، أو تعبد فيه، وهذا ليس مما يحمد في الشريعة؛ لجره إلى الغلو"

(1)

.

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى؛ فإن الله جلَّ وعلا أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنَّه طريق ضلال وهلاك، ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا، وهم معروفون بالضلال، واتباع الهوى، والتحريف لما جاء به أنبياؤهم، فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم، وسلوك طريقهم"

(2)

.

ولقد جدَّ أعداء الإسلام في نشر هذا الداء بين المسلمين، وهو العناية بالآثار، والتنقيب عنها، وتشييدها، والاهتمام بها، وتسهيل الوصول إليها، وتهيئتها لاستقبال الزوار والسياح، بل والافتخار بها، وتأسيس الوزارات للقيام بشؤونها، والمحافظة عليها، وفرض الميزانيات الضخمة للقيام بصيانتها، واللّه لهم بالمرصاد واللّه غالب على أمره وهو المستعان.

يقول الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- مبينًا ما يحيكه الأعداء لهدم الإسلام: "ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية: دعوتها إلى إحياء الآثار القديمة، والفنودن الشعبية المندثرة؛ حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر، بإحياء الحضارات القديمة، والعودة إلى الوراء، وتجاهل حضارة الإسلام، وإلا فما فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة! والرسوم البالية الدارسة! وما فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد، أو ألعاب قد فنيت وبادت! في وقت هم في أمسّ الحاجة إلى

(1)

مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، للألوسي (ص 120).

(2)

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (3/ 338).

ص: 215

العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا كثيرًا من بلادهم وبعض مقدساتهم"

(1)

.

ثالثًا: إن العناية بهذه الآثار، وتمجيدها، والمحافظة عليها من أسباب الشرك بالله العظيم، كما هو المشاهد من بعض الجهلة عند هذه الآثار من التمسح بها والصلاة عندها، واعتقاد النفع والضر فيها، وطلب الشفاعة من أصحابها.

يقول الإمام ابن رجب: "وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا يُنَجِّيهم غَيْرُه، وهو طاعة الله ورسوله"

(2)

.

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جلَّ وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها.

والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة، يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها ويدعو من نسبت إليه ظنًا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه، ولحصول الشفاعة، وكشف الكربة، ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربَّت الوثنية في نفوسهم، والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس، وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالبًا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط، بل الغالب العكس، ويشاهد العاقل ذلك واضحًا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق

(1)

الخطب المنبرية في المناسبات العصرية (3/ 85 - 86).

(2)

فتح الباري لابن رجب (3/ 179).

ص: 216

بالأضرحة، وأصبحوا يعبدونها من دون الله ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء، فكيف إذا قيل لهم: إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

رابعًا: أن تعظيم آثار الأنبياء والصالحين لا يكون بتمجيد آثارهم الأرضية الترابية، وإنما يكون بتمجيد آثارهم في أفعالهم وأقوالهم وسيرتهم وحياتهم كلها، والاقتداء بهم فيها، واتباع هديهم، واقتفاء طريقتهم، هذا هو التعظيم النافع، الذي تحتاجه الأمة، وهو الذي ينال به العبد محبة الله تعالى ورضوانه والجنة.

فعن الحسن البصري: "أنه رأى قومًا يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فنافسوا"

(2)

.

قال ابن رجب بعد أن نقل قول الحسن: "يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه"

(3)

.

يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "إن تعظيم الآثار لا يكون بالأبنية، والكتابات، والتأسي بالكفرة، وإنما تعظيم الآثار يكون باتباع أهلها في أعمالهم المجيدة، وأخلاقهم الحميدة، وجهادهم الصالح قولًا وعملًا، ودعوة وصبرًا، هكذا كان السلف الصالح يعظمون آثار سلفهم الصالحين، وأما تعظيم الآثار بالأبنية، والزخارف، والكتابة، ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح، وإنما ذلك سُنَّة اليهود والنصارى ومن تشبه بهم"

(4)

.

ويقول الشيخ صالح الفوزان: "إن الأمة ليست بحاجة إلى إحياء

(1)

مجموع الفتاوى ومقالات متنوعة (3/ 336).

(2)

فتح الباري، لابن رجب (3/ 179) وذكر المحقق أن في إحدى النسخ:(فتنافسوا)، وقد بحثت عن إسناده فلم أجده.

(3)

فتح الباري لابن رجب (3/ 179).

(4)

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 391).

ص: 217

الآثار الترابية، وإنما هي بحاجة إلى إحياء السُّنَّة النبوية، واقتصاد في سُنّة خير من اجتهاد في بدعة"

(1)

.

ولذلك عميت غالب آثار الأنبياء؛ كقبورهم، وما كان مختصًا بهم، وتلك رحمة من الله تبارك وتعالى، ثم إنه لا يترتب على معرفتها مصلحة دينية، ولو كانت هناك مصلحة دينية شرعية لبقيت تلك الآثار إلى نهاية الدنيا، إذ هي بهذه الحال جزء من الدين الذي تكفل الله بحفظه، كما أبقى الله آثار الأنبياء في حجهم مثلًا لهذا البيت العظيم، فأبقى البيت العتيق وعرفة ومزدلفة وغيرها من مشاعر الحج، فهي معروفة معلومة لا يجهلها أحد؛ لما سرتب عليها من المصلحة العظيمة إلى نهاية الدنيا.

يقول الإمام ابن كثير فيما يتعلق بأصحاب الكهف: "ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف، في أي البلاد من الأرض؛ إذ لا فائدة لنا فيه، ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالًا

"، فذكرها ثم قال: "والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت شيئًا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به"

(2)

، فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه"

(3)

.

(1)

مقال بعنوان: (أتعجب من استغلالك النصوص في غير مدلولها وليّ أعناقها في غير اتجاهها)، وهو رد على الكاتب عمر كامل، لمعالي الشيخ صالح الفوزان، جريدة المدينة -ملحق الرسالة- الجمعة بتاريخ 8/ 3/ 1424 هـ.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 5) برقم (2136)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 79) برقم (34332)، وغيرهم، ولفظه: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه

"، وبلفظ آخر رواه الشافعي في مسنده (ص 233)، وعبد الرزاق في مصنفه (11/ 125) برقم (20100)، والزهد، لهناد بن السري (1/ 281) برقم (494)، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 865) برقم (2866).

(3)

تفسير ابن كثير (3/ 76).

ص: 218

ومما سبق يتبين لنا حرمة تعظيم هذه الآثار -سواء كانت آثارًا للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد من الأنبياء أو الصالحين أو العلماء- والمحافظة عليها وتشييدها، وأن الواجب على أولياء الأمور والعلماء محاربة هذه الآثار التي ضلَّ بسببها كثير من الناس، وقادتهم إلى التعلق بها، ومن ثم الاعتقاد فيها رجاء نفعها وبركتها، بل الواجب هدم هذه الآثار، وإزالتها؛ خاصة إذا صارت مظاهر للشرك بالله العظيم.

يقول الإمام ابن القيم: "ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا؛ فإنَّها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركًا عندها وبها، والله المستعان"

(1)

.

هذا ما وقفت عليه من مفاسد تنجم عن العناية بمثل هذه الآثار، إضافة إلى ما في العناية بها من تبذير للأموال العظيمة، وإهدار للطاقات، وتضييع للأوقات، فيما لا نفع فيه ولا فائدة تعود على الأمة، والله أعلم.

(1)

زاد المعاد (3/ 506)، وانظر كذلك:(3/ 601).

ص: 219