الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
قاعدة صلاح الأعمال بصلاح النيات وكل عمل تابع لنية عامله وقصده
وفيه مسائل:
*
المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة
معنى النية لغة وشرعًا:
أصل النية مشتق من الفعل الثلاثي المعتل (نوى)، يقال: نَوَى الشَيءَ يَنْوِيهِ نِيَّةً بالكَسْر مع تَشْدِيدِ ذلك النَّوَى: وهو التَّحَوُّل من دار إلى دار، هذا هو الأصل، ثم حمل عليه البابُ كلُّه، ومنه النِّيَّةُ فإنَّها: عزمُ القَلْب وتَوَجُّهه وقَصْدُه إلى الشيءِ وقيل: أصل فقالوا: نوَى الأمرَ يَنوِيه، إذا قَصَدَ له، ومنه قولهم: نَوَاه الله، كأنَّه قَصَدَه بالحِفْظِ والحِياطة. قال الشاعر:
يا عَمرُو أحسِنْ نَواكَ اللّهُ بالرَّشَدِ
…
واقرأْ سلامًا على الذَّلْفاءِ بالثَّمَدِ
(1)
(1)
ذكره الأزهري وابن فارس ولم أقف على قائله. انظر: تهذيب اللغة (15/ 399)، ومعجم مقاييس اللغة (5/ 366).
أي: قصَدَك بالرَّشَد، وقيلَ: النَّوَى: البُعْد، كأنَّ النَّاوِي يَطْلبُ بعَزْمِه ما لم يَصِل إليه، والنِيَّةُ بالكسر: الوجهُ الذي يُذْهَبُ فيه مِن سَفَرٍ أَو عَمَلٍ، أو الوجهُ الذي يَنْوِيه المُسافِرُ مِن قُرْبٍ أَو بُعْدٍ
(1)
، وبناء على ما سبق يكون معنى النية لغةً: انبعاث القلب، وقصده نحو ما يراه موافقًا لغرضه؛ من جلب نفع ودفع ضر حالًا ومآلًا
(2)
.
وحقيقة النية ترجع إلى الإرادة، فالإرادة أصل النية، وهي -أي: الإرادة- صفة تقتضي التخصيص لذاتها عقلًا، شاهدًا وغائبًا، كما يقتضي العلم الكشف لذاته عقلًا، شاهدًا وغائبًا، وترتب الكشف عليه، والتخصيص على الإرادة ليس بمعنى زائد أوجب له ذلك، بل التخصيص مع الإرادة، والكشف مع العلم، نحو: كون العشرة زوجًا، والخمسة فردًا، ليس معللًا بشيء.
ثم إن هذه الإرادة متنوعة إلى: العزم، والهم، والنية، والشهوة، والقصد، والاختيار، والقضاء، و القدر، والعناية، والمشيئة، فهي عشرة ألفاظ
(3)
.
وهذه الألفاظ غير مترادفة وبينها فروق دقيقة
(4)
.
يقول القرافي في بيان حقيقة النية: "وأما النية فهي إرادة تتعلق بإمالة الفعل إلى بعض ما يقبله، لا بنفس الفعل من حيث هو فعل، ففرق بين قصدنا لفعل الصلاة، وبين قصدنا لكون ذلك قربة، أو فرضًا، أو نفلًا، أو أداء، أو قضاء، إلى غير ذلك مما هو جائز على الفعل بالإرادة المتعلقة بأصل الكسب والإيجاد، وهي المسماة: بالإرادة، من جهة أن
(1)
انظر: تهذيب اللغة (15/ 399)، وتاج العروس (40/ 139 - 140)، ومعجم مقاييس اللغة (5/ 366)، والمصباح المنير (2/ 631 - 632)، والمعجم الوسيط (2/ 966).
(2)
انظر: الكليات للكفوي (ص 902).
(3)
انظر: الأمنية في إدراك النية (ص 7).
(4)
انظر: الأمنية في إدراك النية (ص 7 - 11).
هذه الإرادة مميلة للفعل إلى بعض جهاته الجائزة عليه، فتسمى من هذا الوجه: نية، فصارت الإرادة إذا أضيف إليها هذا الاعتبار صارت نية، وهذا الاعتبار هو تمييز الفعل عن بعض رتبه
(1)
…
هذا، إن اقتصر على الاعتبار العام، وهو مطلق إمالة الفعل إلى بعض جهاته، والصحيح: أنه لا يقتصر عليه، وأن يؤخذ معنى أخص منه، وهو: إمالة الفعل إلى جهة حكم شرعي يشمل الإباحة، فينوي إيقاع الفعل على الوجه الذي أمر الله به، ونهى عنه، أو أباحه.
ومنهم من يقول: بل أخص من هذا، وهو: أن يميل الفعل إلى جهة التقرب، والعبادة"
(2)
.
ويقول أيضًا في بيان حقيقة النية: "حقيقتها: وهى قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله، فهي من باب العزوم والإرادات، لا من باب العلوم والاعتقادات، والفرق بينها وبين الإرادة المطلقة: أن الإرادة قد تتعلق بفعل الغير، بخلافها، كما نريد مغفرة الله جلا جلاله
…
والفرق بينها وبين العزم: أن العزم تصميم على إيقاع الفعل، والنية تمييز له، فهي أخفض منه رتبة، وسابقة عليه"
(3)
.
وقال رحمه الله بعد أن بيَّن الفروق التي بين النية وغيرها من الألفاظ -القريبة منها في المعنى-: "فتلخص: أن النية غير التسعة الباقية؛ لما ذكر فيها من الخصوصية المتقدمة، وخصوصيات كل واحد من التسعة المفقودة في النية، فيجزم الناظر بالفرق حينئذٍ، ولا يضر كون الاستعمال قد يتوسع فيه، فيستعمل: أراد، ومراده نوى، أراد ومراده عزم، أو
(1)
تمييز الفعل عن بعض رتبه: هو من الفروق بين الإرادة والنية، وهناك فرق آخر ذكره القرافي رحمه الله بعد ذلك فقال:(وتفارق النية الإرادة من وجه آخر، وهو: أن النية لا تعلق إلا بفعل الناوي، والإرادة تتعلق بفعل الغير، كما نريد مغفرة الله تعالى وإحسانه، وليست من فعلنا). [الأمنية في إدراك النية (ص 10)].
(2)
الأمنية في إدراك النية (ص 9 - 10).
(3)
الذخيرة للقرافي (1/ 240).
قصد، أو عنى، فإنَّها متقاربة المعاني حتى يكاد يجزم بينها بالترادف"
(1)
.
وبهذا يتضح أن النية الشرعية هي إرادة متوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله، وامتثالًا لحكمه، فهي قصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل
(2)
.
هذا هو معناها في الشرع، وفيما يلي أنقل بعض ما وقفت عليه من تعريفات العلماء لها: قيل: هي العزم على فعل الشيء تقربًا إلى الله
(3)
.
وعرَّفها البهوتي
(4)
بأنها: "عزم القلب على فعل العبادة، تقربًا إلى الله تعالى، بأن يقصد بعمله الله تعالى دون شيء آخر؛ من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح منهم، أو نحوه"
(5)
.
وقال القرطبي رحمه الله في بيان حقيقة النية: "وحقيقتها: قصد التقرب إلى الآمر، بفعل ما أمر به، على الوجه المطلوب منه"
(6)
.
وقال الشوكاني: "والمراد بالنية: قصد تأدية تلك العبادة التي شرعها الله سبحانه لعباده، على الوجه المطلوب منهم"
(7)
.
ويقول الشيخ أحمد الدهلوي: "أقول النية: القصد والعزيمة، والمراد ههنا: العلة الغائية التي يتصورها الإنسان فيبعثه على العمل؛ مثل طلب ثواب من الله، أو طلب رضا الله، والمعنى ليس للأعمال أثر في
(1)
الأمنية في إدراك النية (ص 12).
(2)
انظر: الكليات للكفوي (ص 902).
(3)
انظر: المطلع على أبواب المقنع (ص 69).
(4)
هو: منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي: شيخ الحنابلة بمصر في عصره، نسبته إلى (بهوت) في غربية مصر، ولد سنة 1000 هـ، له كتب، منها: الروض المربع شرح زاد المستقنع المختصر من المقنع، وكشاف القناع عن متن الإقناع للحجاوي، ودقائق أولي النهي لشرح المنتهى، وغيرها، توفي سنة 1051 هـ. [ترجمته في: الأعلام للزركلي (7/ 307)].
(5)
كشاف القناع (1/ 313).
(6)
تفسير القرطبي (1/ 176).
(7)
السيل الجرار للشوكاني (1/ 211).
تهذيب النفس، وإصلاح عوجها، إلا إذا كانت صادرة من تصور مقصد، مما يرجع إلى التهذيب، دون العادة، وموافقة الناس، أو الرياء والسمعة، أو قضاء جبلة؛ كالقتال من الشجاع الذي لا يستطيع الصبر عن القتال، فلولا مجاهدة الكفار لصرف هذا الخلق في قتال المسلمين"
(1)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "وأعني بالنية المعنى الباعث على العمل، من التصديق بما أخبر به الله على ألسنة الرسل، من ثواب المطيع، وعقاب العاصي، أو حب امتثال حكم الله فيما أمر ونهى، ولذلك وجب أن ينهى الشارع عن الرياء والسمعة، ويبين مساويهما أصرح ما يكون"
(2)
.
وعمومًا فإطلاق النية في كلام أهل العلم يتضمن نوعين هما:
الأول: قصد العبادة، وهذا يشتمل على مرتبتين:
1 -
تمييز عبادة عن عبادة.
2 -
تمييز عبادة عن عادة.
الثاني: قصد المعبود، وبهذه النية يتميز المعبود المستحق للعبادة عن غيره.
وهما بمثابة الركنين لنية العبادة.
يقول الإمام ابن تيمية: "وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين: على قصد العبادة، وقصد المعبود، وقصد المعبود هو الأصل الذي دلَّ عليه قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرف إلى ما هاجر إليه"
(3)
، فإنه رحمه الله ميز بين مقصود ومقصود
…
(1)
حجة الله البالغة، للدهلوي (ص 364 - 365).
(2)
المرجع السابق (ص 597).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، في بدء الوحي وغيره، باب: كيف كان بدء الوحي =
وأما قصد العبادة: فقصد العمل الخاص، فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله؛ فقد يريده بصلاة، وقد يريده بحج، وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به، فقد أطاعه في هذا العمل، وقد يقصد طاعته في هذا العمل، فهذا القصد الثاني مثل: قصد الصلاة دون الصوم، ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر، ثم الفرض دون النفل، وهذه النية التي تذكر غالبًا في كتب الفقه المتأخرة، وكل واحدة من النيتين فرض في الجملة.
أما الأولى: فبها يتميز من يعبد الله مخلصًا له الدين ممن يعبد الطاغوت، أو يشرك بعبادة ربه، ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا، وهو الدين الخالص لله -الذي تشترك فيه جميع الشرائع- الذي نهى الأنبياء عن التفرق فيه كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] "
(1)
.
ويزيد الإمام ابن تيمية الأمر وضوحًا بقوله: "ولفظ النية يجري في كلام العلماء على نوعين؛ فتارة يريدون بها: تمييز عمل من عمل، وعبادة من عبادة، وتارة يريدون بها: تمييز معبود عن معبود، ومعمول له عن معمول له.
= إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 3)، برقم (1)، وفي كتاب الإيمان، باب: ما جاء أن
الأعمال بالنية والحسبة .. (1/ 30)، برقم (54)، كما أخرجه في مواضع عديدة من
كتابه الصحيح، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم
إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال (3/ 1515)، برقم (1907)، بلفظ (النية) بدلًا عن (النيات). قال الإمام النووي:"هذا حديث صحيح متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلاته، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وكان السلف وتابعوهم من الخلف رحمهم الله يستحبون استفتاح المصنفات بهذا الحديث؛ تنبيهًا للمطالع على حسن النية، واهتمامه بذلك، والاعتناء به". [الأذكار للنووي (ص 5)].
(1)
مجموع الفتاوى (26/ 23، 24، 25).
فالأول: كلامهم في النية هل هي شرط في طهارة الأحداث، وهل تشترط نية التعيين والتبييت في الصيام، وإذا نوى بطهارته ما يستحب لها هل تجزيه عن الواجب، أو أنه لا بد في الصلاة من نية التعيين ونحو ذلك.
والثاني: كالتمييز بين إخلاص العمل لله، وبين أهل الرياء والسمعة، كما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم-ص عن الرجل يقاتل شجاعة، وحمية، ورياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال:"من قماتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
.
وهذا الحديث يدخل فيه سائر الأعمال، وهذه النية تميز بين من يريد الله بعمله والدار الآخرة، وبين من يريد الدنيا؛ مالًا، وجاهًا، ومدحًا، وثناء، وتعظيمًا، وغير ذلك، والحديث دل على هذه النية بالقصد -وإن كان قد يقال: إن عمومه يتناول النوعين- فإنه فرق بين من يريد الله ورسوله، وبين من يريد دنيا أو امرأة، ففرق بين معمول له ومعمول له، ولم يفرق بين عمل وعمل"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم مبينًا الفرق بين النيّتين: "ويفرق بين النية المتعلقة بالمعبود، التي هي من لوازم الإسلام، وموجباته، بل هي روحه، وحقيقته التي لا يقبل الله من عامل عملًا بدونها البتة، وبين النية المتعلقة بنفس العمل، التي وقع فيها النزاع في بعض المواضع، ثم يعرف ارتباطها بالعمل، وكيف قصد به تمييز العبادة عن العادة، إذ كانا في الصورة واحدًا، وإنما يتميزان بالنية، فإذا عدمت النية كان العمل
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (3/ 1034)، برقم (2655)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (3/ 1513)، برقم (1904)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
مجموع الفتاوى (18/ 256 - 257).
عاديًا، لا عباديًا، والعادات لا يتقرب بها إلى بارئ البريات، وفاطر المخلوقات.
فإذا عري العمل عن النية، كان كالأكل، والشرب، والنوم الحيواني البهيمي، الذي لا يكون عبادة بوجه، فضلًا أن يؤمر به، ويرتب عليه الثواب، والعقاب، والمدح، والذم، وما كان هذا سبيله لم يكن من المشروع للتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى، ولذلك يقصد بها تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، فيميز فرضها عن نفلها، ومراتبها بعضها عن بعض، وهذه أمور لا تَحَقُّقَ لها إلا بالنية، ولا قوام لها بدونها البتة"
(1)
.
ومن أهل العلم من اعتبر مراتب النوع الأول للنية -وهو قصد العبادة- هي الحكمة في إيجاب النية ومنهم القرافي رحمه الله فقال: "حكمة إيجابها وهي تمييز العبادات عن العادات؛ ليتميز ما لله عن ما ليس له، أو تمييز مراتب العبادات في أنفسها؛ لتتميز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه، فمثال الأول: الغسل يكون تبردًا، وعبادة، ودفع الأموال يكون صدقة شرعية، ومواصلة عرفية، والإمساك عن المفطرات، يكون عبادة، وحاجة، وحضور المساجد، يكون مقصودًا للصلاة، وتفرجًا، يجري مجرى اللذات.
ومثال القسم الثاني: الصلاة؛ تنقسم إلى فرض ومندوب، والفرض ينقسم إلى الصلوات الخمس؛ قضاء، أو أداء، والمندوب ينقسم إلى راتب كالعيدين، والوتر، وغير راتب كالنوافل، وكذلك القول في قربات المال، والصوم، والنسك، فشرعت النية لتمييز هذه الرتب، ولأجل هذه الحكمة تضاف صلاة الكسوف، والاستسقاء، والعيدين، إلى أسبابها؛ لتمييز رتبتها، وكذلك تتعين إضافة الفرائض إلى أسبابها؛ لتتميز لأن تلك
(1)
بدائع الفوائد (3/ 706).
الأسباب قرب في نفسها"
(1)
.
فذكر رحمه الله النوع الأول للنية وهو قصد العبادة، وذكر مراتبه وهي: تمييز عبادة عن عادة، أو تمييز عبادة عن عبادة، ولم يتطرق إلى النوع الثاني وهو قصد المعبود وتمييزه عن غيره، والأول هو المشهور عن الفقهاء عند كلامهم في أبواب الطهارة والصلاة وغيرها.
فالنية كما أنها أصل في حصول الأعمال الشرعية وصلاحها، ومع ذلك فهي تميّز الأعمال عن بعضها البعض، وإن اتفقت في الصورة، وعليه فتختلف أحكامها، فالذي يذبح شاة مثلًا، يحتمل فعله هذا عدة صور، فربما ذبحه تقربًا لله تعالى، وربما كان الذبح لغير الله، وربما كان لمجرد الأكل والاستمتاع باللحم، وأحكام هذه الصور تختلف بحسب اختلاف نية الذابح.
يقول الإمام ابن تيمية: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات": كلمة جامعة كاملة؛ فإن النية للعمل كالروح للجسد، وإلا فكل واحد من الساجد لله، والساجد للشمس والقمر، قد وضع جبهته على الأرض، فصورتهما واحدة، ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى، وهذا أبعد الخلق عن الله"
(2)
.
ويقول الشاطبي: "ويكفيك منها: أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة، وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب، وغير واجب، وفي العادات بين الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم، والصحيح، والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة، ويقصد به شيء آخر فلا يكون كذلك، بل يقصد به شيء فيكون إيمانًا، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرًا؛ كالسجود لله أو للصنم.
(1)
الذخيرة (1/ 242)، وانظر:(3/ 219)، والأمنية في إدراك النية (ص 20).
(2)
مجموع الفتاوى (28/ 291).
وأيضًا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم، والغافل، والمجنون"
(1)
.
ويقول الإمام ابن رجب مبينًا إطلاقات النية في النصوص الشرعية، وفي كلام أهل العلم: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين.
وقد صنَّف أبو بكر بن أبي الدنيا
(2)
مصنفًا سماه كتاب "الإخلاص والنية"، وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك"
(3)
.
وبناء على ذلك فإن لفظ النية الشرعي يتضمن معنى الإخلاص
(1)
الموافقات (2/ 324).
(2)
هو: المحدث العالم الصدوق أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبي الدنيا القرشي الأموي مولاهم البغدادي، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، ولد سنة ثمان ومائتين، وكان مؤدب أولاد الخلفاء، ومات في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين ومائتين. [ترجمته في: تذكرة الحفاظ (2/ 677 - 679)، طبقات الحفاظ (1/ 298)].
(3)
جامع العلوم والحكم (ص 11 - 12).
إضافة إلى معنى قصد التعبد والتقرب، فهو يتضمن معنى الإخلاص وزيادة.
يقول الإمام العز بن عبد السلام
(1)
: "الرياء والإخلاص: إرادتان زائدتان على إرادة العبادة، فإرادة العبادة أن يريد إيقاع تلك الطاعة، والإخلاص: أن يريد بها ثواب الله تعالى، دون شيء من الأغراض الدنيوية، والرياء: أن يريد بعمله التعظيم، والمدح، وغير ذلك من أغراض الرياء"
(2)
.
فالنية شاملة لهذين المعنيين، قصد العبادة بتمييزها عن غيرها، أو عن العادة، وقصد المعبود بتمييزه عن غيره مما لا يستحق العبادة، ومن الناس من جعل المعنى الأول هو المختص بلفظ النية -فلا يستعمل لفظ النية إلا فيه- مع أن المعنى الثاني هو الغالب، وهو الأكثر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة.
يقول الإمام ابن رجب: "وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النجة أيضًا- من الألفاظ المقاربة لها، وإنما فرق من فرق بين النية، وبين الإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء،
…
وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبًا، فهى حينئذٍ بمعنى الإرادة"
(3)
.
(1)
هو: أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، المشهور بسلطان العلماء، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة وتفقه على ابن عساكر، وقرأ الأصول على الآمدي، وبرع في المذهب، وفاق فيه الأقران، وجمع بين فنون العلم، له تفسير مختصر، وكتاب قواعد الأحكام، ومختصر صحيح مسلم، وغيرها، ولي الخطابة بدمشق، وولي القضاء في مصر ثم عزل نفسه، توفي بمصر سنة ستين وستمائة. [ترجمته في: طبقات المفسرين (ص 242)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 109)].
(2)
مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل (ص 91).
(3)
جامع العلوم والحكم (ص 11 - 12).
أما النية في القرآن الكريم، فإنها لم ترد بلفظها، لكن ورد معناها وعُبِّر عنها بلفظ الإرادة، وبلفظ الابتغاء، فمن ذلك قوله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وقوله عز وجل:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]، وقوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، وقوله:{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38]، وقوله:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: 39].
وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265]، وقوله تعالى:{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقوله:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]
(1)
.
والحاصل: أن الغالب في استعمالات النية في النصوص الشرعية هو المعنى الثاني، وهو قصد المعبود وتمييزه عن غيره، وهذا هو
(1)
انظر: جامع العلوم والحكم (ص 11 - 12).
الإخلاص المذكور في النصوص، وكما سبق التعبير عنه في القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية، بالإرادة والابتغاء.
ولذا عبَّر كثير من أهل العلم بالنية عن الإخلاص، أو العكس، فإن النية تتضمن إخلاص العمل لله، والإخلاص لا يحصل بدون النية
(1)
، فكلاهما يحصل به تمييز المعبود الذي يستحق أن يعبد ممن لا يستحق ذلك، ولذلك عرَّفوا الإخلاص بالنية، والنية بالإخلاص:
ومن ذلك قولهم في معنى الإخلاص: "تصفية النية في طاعة الله تعالى"
(2)
.
ويقول الإمام ابن حزم: "والإخلاص: هو القصد بالقلب إلى ذلك، وهو النية نفسها"
(3)
.
وقال الإمام الماوردي
(4)
: "والإخلاص في كلامهم: النية"
(5)
.
وقال الإمام ابن عبد البر: "والإخلاص: النية في التقرب إليه، والقصد بأداء ما افترض على المؤمن"
(6)
.
ويقول الإمام ابن قدامة: "والإخلاص: عمل القلب، وهو النية، وإرادة الله وحده دون غيره"
(7)
.
ويقول الشيخ السعدي: "والإخلاص: معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات، الواجبة والمستحبة"
(8)
.
(1)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 127).
(2)
تفسير السمعاني (4/ 457).
(3)
النبذة الكافية لابن حزم (ص 50).
(4)
هو: علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الفقيه الشافعي. له مصنفات كثيرة منها: الأحكام السلطانية، والحاوي، والإقناع في الفقه، وأدب الدين والدنيا، والتفسير، توفي سنة 450 هـ. [ترجمته في: طبقات الفقهاء (ص 131)، وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 303)].
(5)
مغني المحتاج (1/ 148).
(6)
التمهيد (22/ 100).
(7)
المغني (1/ 278).
(8)
تفسير الشيخ السعدي (ص 734).
ومنهم من عرَّف النية بالإخلاص، ومن ذلك:
قول الزبيدي رحمه الله في معنى حديث: "ولكن جهاد ونية": "والمراد بالنِّيّة: إِخلاصُ العَمَلِ لله تعالى"
(1)
.
وقال الإمام ابن تيمية: "وأما النية: التي هي إخلاص الدين لله، فقد تكلم الناس في حدها، وحد الإخلاص"
(2)
.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن كلا النيّتين واجبة ومقصودة للشارع، سواء نية قصد العبادة، التي تتضمن تمييز العبادة عن العادة، وتمييز مراتب العبادات.
أو نية قصد المعبود التي يتميز فيها المعبود عن المعبود.
أما بالنسبة لنية قصد العبادة التي تتضمن تمييز العبادة عن العادة، أو عن غيرها من العبادات، فهي واجبة في الجملة، على خلاف وتفصيل في بعض الصور يرجع إليه في كتب الفقه.
وأما الثانية: وهي نية قصد المعبود فهي واجبة بالجملة، فلا توجد عبادة؛ سواء كانت قولية، أو فعلية، أو اعتقادية إلا ويشترط في صحتها قصد المعبود، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وإلا كانت فاسدة وباطلة.
يقول الإمام ابن تيمية: "والذي يجب أن يكون العمل له هو الله سبحانه وحده لا شريك له، فإن هذه النية-[أي: نية قصد المعبود]- فرض في جميع العبادات، بل هذه النية أصل جميع الأعمال، ومنزلتها منها منزلة القلب من البدن، ولا بد في جميع العبادات أن تكون خالصة لله سبحانه، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} [الزمر: 2]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: 11]
…
"
(3)
.
(1)
تاج العروس (7/ 537). وانظر: النهاية في غريب الأثر (1/ 219).
(2)
مجموع الفتاوى (18/ 260).
(3)
شرح العمدة (4/ 576).
ويقول رحمه الله: "والكلام في هذه النية وتفاصيلها لا يختص بعبادة دون عبادة، إذ الفعل بدون هذه النية ليس عبادة أصلًا"
(1)
.
وعمومًا فلا تكاد تنفصل نية قصد العبادة عن نية قصد المعبود، إذ لا يمكن إفراد المعبود بإرادة العبادة دون ما سواه، بدون تمييز العبادة عن غيرها من العبادات أو العادات.
يقول الإمام ابن تيمية: "وقد اتفق الفقهاء على أن نية نوع العمل الواجب لا بد منها في الجملة، فلا بد أن يقصد الصلاة، أو الحج، أو الصيام، ولهم في فروع ذلك تفصيل وخلاف ليس هذا موضعه"
(2)
.
ويقول رحمه الله في بيان دليل وجوب كلا النيّتين: "وإنما وجب كل واحد من النيّتين؛ لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التي بعث بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها.
والأعمال المشروعة مؤلفة من: أقوال، وأعمال مخصوصة، قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة، وصفات، كلما كان فرضًا علينا أن نعبد الله، وأن تكون العبادة على وصف معين، كان فرضًا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين، والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به"
(3)
.
ويقول الإمام ابن القيم في بيان التلازم بين نوعي النية: "وهي -أي: النية بنوعيها- مرادة للشارع، بل هي وظائف العبودية، فكيف يؤدي وظائف العبودية من لا يخطر بباله التمييز بين العبادات والعادات، ولا التمييز بين مراتب تلك الوظائف، ومنازلها من العبودية، هذا أمر ممتنع عادة، وعقلًا، وشرعًا، فالنية هي سر العبودية، وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد"
(4)
.
(1)
شرح العمدة (4/ 578).
(2)
مجموع الفتاوى (26/ 29).
(3)
المصدر السابق (26/ 26).
(4)
بدائع الفوائد (3/ 706).