الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعقوبة"
(1)
.
وبذلك يظهر تفاوت العقول فيما بينها، وتفاضل بعضها على بعض، وذلك بحسب ما يقترن بها من مؤثرات، وبحسب نصيبها من استعمال الفضائل، والتزود بالطاعات، وفعل المأمورات وترك المنكرات.
يقول الشيخ السعدي: "وإذا أردت معرفة مقادير عقول الخلق على الحقيقة فانظر إلى عقول المهتدين بهداية القرآن والسُّنَّة، وإلى عقول المنحرفين عن ذلك تجد الفرق العظيم.
ولا تحسبن العقل هو الذكاء، وقوة الفطنة، والفصاحة اللفظية، وكثرة القيل والقال، وإنما العقل الصحيح أن يعقل العبد في قلبه الحقائق النافعة، عقلًا يحيط بمعرفتها، ويميز بينها وبين ضدها، ويعرف الراجح من الأمور فيؤثره، والمرجوح أو الضار فيتركه"
(2)
.
يقول الشيخ محمود محمد شاكر: "فإن العقل هبة اللَّه لكل حي، وَلَكِن أساليب تَفْكِيرِهِ كسبٌ يكتسبه من معالجة النظر، ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة، ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة"
(3)
.
*
المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة
دلَّت القاعدة على أن الشرع مبناه على أمرين:
الأول: تكميل أديان الخلق وصيانتها عن الانحراف، والمحافظة
(1)
انظر: نعمة الذريعة في نصرة الشريعة، لإبراهيم الحلبي (ص 96).
(2)
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن (ص 451 - 452). الجزء الثامن ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي.
(3)
مقدمته لكتاب "الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبي (ص 19).
عليها لكيلا تفسد وتختل، ويشمل ذلك جميع جزئيات الدين في أصوله وفروعه، ومن أعظم ما كمَّل اللَّه به أديان الخلق أن أوجب عليهم توحيده سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، وصرف القلوب إلى التعلق بربها وفاطرها جل وعزَّ، وسد أمامها كل الطرق والسبل المؤدية إلى اختلال الأديان وفسادها.
يقول الإمام ابن القيم مبينًا مفهوم تكميل الدين: "وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية اللَّه في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات اللَّه، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبة ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه"
(1)
.
فليس المراد بالتكميل هنا تكميله بالفضائل فحسب، وإنما المقصود إصلاح ما فسد من تلك الأديان المنحرفة عن الصراط المستقيم، والتي أصابها الخلل العظيم في عقيدتها وأخلاقها وسلوكها، ابتداء بتقرير التوحيد وإفراد اللَّه تعالى بالعبادة والتوجه والتعظيم، وعدم التعلق بالمخلوقات المربوبة الضعيفة، والانقياد لرسل اللَّه بالطاعة والتوقير، ومن ثم الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة والشيم الكريمة، والصفات الحميدة.
يقول الرازي في شأن العرب قبل البعثة النبوية: "كان دين العرب أرذل الأديان، وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق؛ وهو الغارة، والنهب، والقتل، وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لما بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم نقلهم اللَّه ببركة مقدمه من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم؛ في العلم، والزهد، والعبادة، وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها، ولا شكَّ أن فيه أعظم المنة
(2)
.
(1)
طريق الهجرتين (ص 334).
(2)
التفسير الكبير (9/ 65).
وهكذا سار أفضل الخلق في دعوته الكبرى، وأثره الخالد في إصلاح أديان البشر، وشرائعهم، وأعمالهم، وأخلاقهم وفي إنقاذ الإنسانية العانية وتجديد دينها بدينه الجديد، الذي قلب به أوضاع الدنيا، ونقل بسببه العالم إلى طور سعيد، بل إلى الطور السعيد الذي لولاه لدام يتخبط في الظلمات، ولبات في عداد الأموات
(1)
.
الثاني: كمال العقول
(2)
، وقد كملها اللَّه بأمرين:
أحدهما: بما ركَّبه في طبيعة هذه العقول من هيئة تستحسن الشرع، وتميل إليه، وتستهجن كل ما يخالفه ويناقضه ويضاده، وتنفر عنه، لا سيما في أوجب الواجبات، فإنَّه لا أوجب في العقول من عبادة الرب وحده، ولا أقبح من صرف خالص حقه لغيره
(3)
.
الثاني: تكميله بالشرع الذي هو نور اللَّه في أرضه وعدله بين عباده، فجاءت نصوص الشرع حاضة على صرف العبادة لمستحقها وهو اللَّه جلَّ في علاه، وحرمت عليهم كل ما فيه تعلق أو صرف للقلوب بغير المولى، وصانهم عن كل ما فيه تدني وتذلل وتضرع لغير وجهه الكريم، وعن كل ما فيه إهانة وإهدار لقيمة هذا العقل الذي شرَّف اللَّه به البشرية، وميزهم به عن سائر الحيوان، فلا يستعملونه إلا في معرفة خالقهم والتقرب إليه بأنواع العبادات وصنوف الخضوع، وغاية المحبة والذلة، مع التعظيم والإجلال
(4)
.
(1)
مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني (2/ 310).
(2)
لا شكَّ أن العقل هو من أكبر النعم التي أنعم اللَّه بها على الإنسان، لأنَّهُ يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الخير والشر، وبين النافع والضار، وبين الصالح والفاسد، فيستطيع به أن يعرف الدين الحق ويدين به، وأن ينتج الحضارة الصالحة المفيدة في الدنيا والآخرة. [انظر: مقال بعنوان: الدين والحضارة، بمجلة الجامعة الإسلامية عدد (41)].
(3)
انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 8 - 9).
(4)
انظر: تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات (ص 56).
يقول الشيخ السعدي: "في هذا أكبر دليل على أن معرفة ما أنزل اللَّه إلينا من أعظم ما يربي عقولنا، ويجعلها عقولًا تفهم الحقائق النافعة والضارة، وترجح هذه أعظم ما يربي عقولنا، ويجعلها عقولًا تفهم الحقائق النافعة والضارة، وترجح هذه على هذه، ولا تميل بها الأهواء، والأغراض، والخيالات، والخرافات الضارة، المفسدة للعقول"
(1)
.
فالعقول قد أدركت بنفسها حسن الشريعة والتوحيد وقبح الشرك على وجه الإجمال، ثم جاء الشرع وكمل هذه العقول بأن نبهها وفصَّل لها قضايا التوحيد، وما يجب من حق اللَّه تعالى، وما لا يجوز في حقه من عبادة غيره أو التعلق بغيره جلَّ وعلا، فحرم تعاطي كل ما تنكره وتنفر منه العقول، وحررته من قيود الذلة والخضوع لغير الباري تبارك وتعالى، وجعلته عزيزًا مكرمًا، غير منساق خلف الخرافات والخزعبلات، فلا يخشى ولا يخاف إلا اللَّه، ولا يرجو غير مولاه، وبذلك يكون قد ترقى في أعلى درجات الكمال
(2)
.
يقول ابن القيم في بيان تكميل الشرع لهذه العقول: "وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك، وتكميله، وتفصيله، وزيادته حسنًا إلى حسنه، فاتفقت شريعته وفطرته، وتطابقا، وتوافقا، وظهر أنهما من مشكاة واحدة، فعبدوه وأحبوه ومجدوه وحمدوه بداعي الفطرة، وداعي الشرع، وداعي العقل، فاجتمعت لهم الدواعي، ونادتهم من كل جهة ودعتهم إلى وليهم وإلههم"
(3)
.
(1)
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن (8/ 451)، ملحق بآخر التفسير ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي.
(2)
انظر: منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل، (1/ 256)، وشرح الصدور ببيان بدع الجنائز والقبور (ص 26)، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/ 170).
(3)
مفتاح دار السعادة (2/ 88).