الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
المسألة الثالثة* أدلة القاعدة
دلَّ على صحة القاعدة أدلة كثيرة أذكر بعضًا منها فيما يلي:
أولًا: ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من إقرار المشركين بكونه الخالق والرازق وأن المُلْكَ بيده، والكون تحت قهره وقدرته، وأنه المحيي المميت، وكونه يجير ولا يجار عليه، إلى غير ذلك من صفات الربوبية، وأفعال الرب تبارك وتعالى، ومن ذلك الآيات:
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت:61]، وقوله سبحانه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)} [لقمان: 25]، وقوله عز وجل:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: 84 - 89]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} [العنكبوت: 63]، وقال عزَّ من قائل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف:87]،و قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].
فجميع ما سبق من آيات فيها إقرار المشركين بربوبية الله تعالى وكونه الخالق والمالك والمدبر لكل ما في الكون، وفيما يلي بعض أقوال المفسرين في هذه الآيات:
روى الإمام الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]: "قال من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال، قالوا: الله، وهم مشركون"
(1)
.
ويقول الإمام ابن جرير: "يقول تعالى ذكره ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله: من خلق السماوات والأرض فسواهن وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح خلق الله، ليقولن الذي خلق ذلك وفعله الله، {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف: 87] يقول جلَّ ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك فيعدلون عن إخلاص العبادة له"
(2)
.
ويقول الرازي في تفسيره: "الأصل الأول: هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم، وهو المراد بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] "
(3)
.
ويقول يحيى العمراني: "وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السموات والأرض، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، ويعرفون أيضًا أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله، ويدعون إلى الله أن ينجيهم، وبذلك أخبر الله عنهم"
(4)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "وأما قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ
(1)
تفسير الطبري (13/ 77)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في الفتح. انظر:(13/ 495).
(2)
تفسير الطبري (12/ 11).
(3)
التفسير الكبير (26/ 245).
(4)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (3/ 795).
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد؛ فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة"
(1)
.
ويقول رحمه الله: "وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف: 87]، مع آيات كثيرة وذلك موجود منهم ضرورة، وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه ويقولون: إلهنا القديم والعتيق، وإله الآلهة، ورب الأرباب، وغير ذلك من كفرهم"
(2)
.
ويقول ابن كثير: "ثم قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)}؛ أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره من خلقهم ليقولن الله؛ أي: يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعًا وحده لا شريك له في ذلك"
(3)
.
ويقول الإمام ابن أبي العز: "فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} [المؤمنون: 84، 85]، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام: أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم؛ من الهند والترك والبربر وغيرهم"
(4)
.
(1)
مجموع الفتاوى (16/ 597).
(2)
درء التعارض (8/ 509).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 137)، وانظر:(3/ 370).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 79).
ويقول الشيخ المعلمي
(1)
: "وأما الفريق الثاني فمنهم مشركو العرب، فإنهم كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر إلى غير ذلك، وفي كتاب الله تعالى الشهادة عليهم بذلك في مواضع كثيرة، منها: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31، 32] ثم ذكر آيات كثيرة ثم قال: "ففي هذه الآيات أن المشركين كانوا معترفين بوجود الله عز وجل، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميّت من الحيّ، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وأنه يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم، وفي القراَن آيات كثيرة تشهد على المشركين باعترافهم بتفرد الله عز وجل بما تقدم من الصفات وغيرها، وإن لم يكن ذلك مثل ما تقدم في الصراحة"
(2)
.
(1)
هو: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي، ولد سنة 1313 هـ، من بلاد عتمة باليمن، وسافر إلى جيزان (سنة 1329 هـ) وتولى رئاسة القضاة ولقب بشيخ الإسلام، ثم سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، مصححًا كتب الحديث والتاريخ، وعاد إلى مكة، فعين أمينًا لمكتبة الحرم المكي، من مصنفاته: طليعة التنكيل؛ وهو مقدمة كتابه التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، والأنوار الكاشفة في الرد على كتاب (أضواء أهل السُّنَّة) لمحمود أبي رية، ومحاضرة في كتب الرجال، وكتاب العبادة (بعضه مخطوط)، وله رسائل في تحقيق بعض المسائل، ما زالت مخطوطة، وغيرها، توفي سنة 1386 هـ، ودفن بمكة. [ترجمته في: الأعلام للزركلي (3/ 342)].
(2)
مخطوط: (العبادة) للمعلمي (لوحة/ 460 - 463).
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعامر الشعبي، وأكثر المفسرين
(1)
: إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته، إلا وهم مشركون به غيره في عبادته.
فالمراد بإيمانهم: اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم، ومدبر شؤونهم، والمراد بشركهم: عبادتهم غيره معه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدًا"
(2)
.
ثانيًا: أن الله تعالى حجَّ المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وألزمهم بتوحيد الألوهية، فلو لم يكونوا مقرين به لما كان للاحتجاج معنى؛ فإن توحيد الربوبية هو الأصل الذي ينبني عليه توحيد العبادة، ولكانت مجرد دعوى:
يقول الشيخ المعلمي: "فإن كل آية ذكر الله تعالى بها نفسه بأنه الخالق أو الرازق، أو غير ذلك من نعوت الكمال، وكان مساق الكلام على إقامة الحجة على المشركين، فهي من هذا القبيل، إذ لو لم يكن المشركون يقرون بأن الله عز وجل هو وحده فالق الإصباح وجاعل الليل سكنًا إلخ، لكان ذكر ذلك دعوى فقط لا تكون حجة عليهم في إبطال شركهم، والحكيم لا يحتج بما هو دعوى مجردة، ومن هذا القبيل (الفاتحة) فلولا أن المشركين يعترفون بأن الله عز وجل رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لما كان في ذلك حجة عليهم يثبت بها ما تضمنه قوله: {إيَّاكَ
(1)
انظر: قول الحسن ومجاهد وعامر الشعبي وغيرهم: تفسير الطبري (13/ 77 - 78)، وقول عكرمة في: صحيح البخاري (6/ 2734)، وقول عطاء في: سنن سعيد بن منصور (5/ 411)، برقم (1146)، وصحح الحافظ ابن حجر أثري مجاهد وعطاء. انظر: الفتح (13/ 494).
(2)
أضواء البيان (3/ 218).
نَعبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإن قلت: فإنهم لا يؤمنون بيوم الدين، قلت: لكنهم لو قيل لهم إذا فرض أن يوم الدين حق فمن يكون مالكه لقالوا الله فتدبر هذا المعنى حق تدبّره ثم اقرأ القرآن تجده مملوء بالحجج على أن المشركين كانوا يعترفون بالله عز وجل وصفاته، وإنما زاغوا في انفراده باستحقاق العبادة، والله أعلم"
(1)
.
ثالثًا: أن الله تعالى أقرَّ المشركين على هذا الاعتراف بربوبيته، ولو كان باطلًا لأكذبهم سبحانه وتعالى، فلما صدقهم دلَّ على صدق ما اعترفوا به:
يقول الإمام ابن حزم في شأن اعتراف المشركين بربوبية الله تعالى، وإقرار الله تبارك وتعالى لهم:"قال أبو محمد: ولم يكذبهم في ذلك أصلًا، بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضًا قولهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، ولو أنكر عز وجل قولهم ذلك لأكذبهم، فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين"
(2)
.
رابعًا: دلَّ على ثبوت إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دلالة الفطرة التي فطروا عليها، فإنهم فطروا على الإقرار بالله تبارك وتعالى، ولذلك كان من ضرورة كل نفس الإيمان بوجود الخالق؛ لأن تلك هي الفطرة التي لا يستطيع أحد من البشر إنكارها بقلبه وإن أنكرها بلسانه:
يقول الإمام ابن القيم في بيان كون إقرار المشركين بالربوبية من مقتضيات فطرتهم التي فطروا عليها: "ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، وهذا يقتضي إقرارهم بربوبيته إقرارًا تقوم عليهم به الحجة، وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى:{قَالَت رُسُلُهُم أَفِى اللهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]، وقوله: {وَلَئِن
(1)
مخطوط العبادة (لوحة/468 - 469).
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسي (3/ 87).