الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويطلق القعود على ما فيه لبث بخلاف الجلوس؛ ولهذا يقال: قواعد البيت، ولا يقال: جوالسه، ويقال أيضًا: فلان جليس الملك، ولا يقال: قعيده، ويقال أيضًا لمن كان قائمًا: اقعد، ولمن كان نائمًا أو ساجدًا: اجلس؛ وذلك لكون القعود: انتقال من علو إلى سفل، ولهذا قيل لمن أصيبت رجله: قعد، والجلوس: انتقال من سفل إلى علو، ومنه سميت نجد جلسا لارتفاعها، ويقال: الرجال قُعَّاد جمع قاعد، كما يقال: ركاب في جمع راكب
(1)
.
وذو القِعْدَة: شهر كانت العرب تقعد فيه عن الأسفار، والقِعْدَة: الدابة تُقْتَعَد للركوب خاصة، والقعود من الإبل كذلك، وقواعد البيت أساسه، وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضات في أسفله
(2)
.
فالقاعدة هي الأصل والأساس لما فوقها، وتجمع على قواعد، ومنها الحسية كقواعد البيت، ومنها المعنوية كقواعد الدين وقواعد الفقه
(3)
، وعليه فمدار مادة قعد تدل على الثبوت، وتفيد الاستقرار
(4)
.
*
المطلب الثاني * القاعدة اصطلاحًا
قبل الكلام على معنى القواعد المتعلقة بالعقيدة وخاصة في التوحيد أتناول معنى القاعدة اصطلاحًا عند أهل الفقه والأصول، إذ هم أكثر من تكلم في ذلك، لكثرة التقعيد وشهرته عندهم، ولاتفاق معنى القواعد في الجملة بين سائر العلوم.
ولقد اختلفت تعبيرات أهل الفقه وأصوله في معنى القاعدة، وهي
(1)
انظر: الكليات، للكفوي (ص 728).
(2)
انظر: مقاييس اللغة (5/ 109).
(3)
انظر: شرح القواعد السعدية، للزامل (ص 8).
(4)
انظر: التبيان في تفسير غريب القرآن، لشهاب الدين المصري (ص 108)، وقاعدة العادة محكمة، دراسة نظرية تأصيلية تطبيقية، د. الباحسين (ص 13).
في جملتها على قولين؛ قول اعتبر القاعدة أمرًا كليًا، وآخر اعتبرها حكمًا أغلبيًا.
ومنشأ الخلاف أن من قال: إنها كلية نظر إلى أصل القاعدة بالنسبة إلى عموم لفظها، ومن قال: إنها أغلبية نظر إلى وجود مستثنيات في كل قاعدة.
(1)
.
ومما قالوا في تعريفها:
قول ابن السبكي
(2)
بأنها: "الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منه"
(3)
.
وعرَّفها الجرجاني
(4)
بقوله: "القاعدة: هي قضية كلية
(5)
منطبقة على جميع جزئياتها"
(6)
.
(1)
يقول محمد علي بن حسين المكي في كتابه: "تهذيب الفروق"(1/ 58)، بهامش "أنوار البروق في أنواء الفروق":"من المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية".
(2)
هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي، ولد بالقاهرة سنة 727 هـ، وسمع من علمائها، له مؤلفات أصولية عديدة منها: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، وجمع الجوامع، والإبهاج وهو تكملة شرح والده على المنهاج، توفي سنة 771 هـ. [انظر ترجمته في: طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة (3/ 104)، والبدر الطالع (1/ 410)].
(3)
الأشباه والنظائر، لابن السبكي (1/ 11).
(4)
هو: علي بن محمد بن علي الحنفي الشريف الجرجاني، متبحر في العلوم العقلية. له مصنفات كثيرة منها: التعريفات، وحاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، توفي سنة 816 هـ. انظر ترجمته في: بغية الوعاة (2/ 196)، والبدر الطالع (1/ 488).
(5)
القضية الكلية هي الاستقامة (1/ 11 - 12)، والكلمة الجامعة هي القضية الكلية والقاعدة العامة التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم فمن فهم كلمه الجوامع علم اشتمالها لعامة الفروع وانضباطها بها والله أعلم.
(6)
التعريفات (ص 219)، [وانظر: تيسير التحرير (1/ 14)، وجمع الجوامع (1/ 31 - 32)، والتوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي (ص 569)، ومطالب أولي النهي للرحيباني (1/ 18)].
ويقول أبو البقاء الكفوي
(1)
في تعريفها: "والقاعدة اصطلاحًا: قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها، وتسمى فروعًا، واستخراجها منها تفريعًا"
(2)
.
وعرَّفها شهاب الدين الحموي
(3)
بتعريف مغاير لما سبق، فهو يعتبر القاعدة بأنها حكم أكثري أو أغلبي فليس من شرطها أن تكون كلية مطردة، فقال:"لأن القاعدة عند الفقهاء غيرها عند النحاة والأصوليين؛ إذ هي عند الفقهاء: حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه"
(4)
.
وجمع بعض أهل العلم بين الأمرين، فقد جاء في "درر الحكام":"وفي اصطلاح الفقهاء هو الحكم الكلي أو الأكثري الذي يراد به معرفة حكم الجزئيات"
(5)
.
والصحيح أن القاعدة كلية، وأما وجود المستثنيات للقواعد فهذا لا يخرجها عن كونها كلية؛ لأنَّها قليلة فلا تخدش في كلية القواعد الاستقرائية
(6)
.
(1)
هو: أيوب بن السيد شريف موسى الحسيني، أبو البقاء (1094 هـ)، من أهل (كفا) بالقرم، ومن قضاة الأحناف، توفي وهو قاضي بالقدس. من تصانيفه:"تحفة الشاهان" تركي، في فروع الحنفية، و"الكليات" في اللغة [انظر: هدية العارفين (1/ 229)، ومعجم المؤلفين (3/ 31)، والأعلام للزركلي (1/ 383)].
(2)
الكليات (ص 728).
(3)
هو: أبو العباس أحمد بن محمد مكي المعروف بشهاب الدين الحموي الحنفي، المصري الحموي الأصل، مفتي الحنفية في مصر، درس بالمدرسة السليمانية بالقاهرة، توفي سنة 1098 هـ، من مؤلفاته: حاشية الدرر والغرر في الفقه، وغمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم، وكشف الرمز عن خبايا الكنز. [انظر ترجمته: الأعلام (1/ 239)، ومعجم المؤلفين (2/ 93)].
(4)
غمز عيون البصائر (1/ 51).
(5)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 17).
(6)
انظر: قاعدة العادة محكمة، ليعقوب الباحسين (ص 14 - 15).
يقول الشاطبي
(1)
: "فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية؛ لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليًا، وأيضًا؛ فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم
(3)
: "إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقضها تخلف الحكم في أفراد الصور"
(4)
.
أما بالنسبة لطبيعة القواعد المتعلقة بباب الاعتقاد والتوحيد؛ فإن أهل العلم لم يلتزموا بالضوابط الخاصة المعتبرة في تعريف القاعدة الأصولية أو القاعدة الفقهية؛ بحيث تكون لها جزئيات وفروع تندرج تحتها ويعرف حكمها من القاعدة، وإنما الأمر عندهم أوسع من ذلك؛ إذ كل مسألة
(5)
، من المسائل العلمية تنبني عليها مسألة أو عدة مسائل فهي
(1)
هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، أبو إسحاق الشهير بالشاطبي فقيه، أصولي، مفسر، محدث، لغوي، (له استنباطات جليلة ودقائق منيفة وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة). له مصنفات نافعة منها: الاعتصام، والموافقات في أصول الفقه، توفي سنة 790 هـ. [انظر ترجمته في: نيل الابتهاج بتطريز الديباج (ص 46)، وشجرة النور الزكية (ص 231)، والأعلام للزركلي (1/ 75)].
(2)
الموافقات (2/ 53).
(3)
هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الزرعي ثم الدمشقي، الفقيه، الأصولي المفسر النحوي، شمس الدين، أبو عبد الله، ابن قيم الجوزية، أخذ العلم عن كثيرين من أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية ولازمه مدة طويلة، له تصانيف كثيرة منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد، وبدائع الفوائد، توفي سنة 751 هـ.
انظر ترجمته في: ذي طبقات الحنابلة لابن رجب: (2/ 447)، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (5/ 137)، والرد الوافر (ص 68).
(4)
إعلام الموقعين (2/ 101).
(5)
المسألة: هي القضية التي يبرهن عنها في العلم، يعبر عنها بهذه العبارة، فيقال: مسألة كذا، مسألة كذا. انظر: المعجم الوسيط (1/ 411)، والدرر السنية (1/ 365).
عندهم قاعدة، وقد يعبرون بالأصل في كثير من الأحيان.
فكأنهم اعتمدوا في استعمال القواعد على المعنى اللغوي العام لمادة (قعد).
يقول الإمام ابن تيمية: "فهذه القواعد: هي الكلمات الجامعة، والأصول الكلية، التي تنبني عليها هذه المسائل ونحوها، وقد ذكرنا منها نكتًا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين"
(1)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "وكذلك القواعد؛ فإن كل مسألة ينجني عليها مسائل، يسميها العلماء قاعدة، وقد صنف العلماء كتبًا كبارًا، وسموها بالقواعد؛ فمنها ما هو في أصول الفقه؛ كالقواعد لابن عبد السلام الشافعي، وابن اللحام الحنبلي، ومنها ما هو في الفقه، كالقواعد لابن رجب، وهو كتاب ضخم كبير الحجم.
وهذه القواعد التي وضعها شيخنا الله، أحق بهذا الاسم من غيرها، لما ينبني عليها من أصول الدين؛ فإن معرفة توحيد الربوبية من توحيد الإلهية، لا يسع أحدًا جهله. فمن أنكر هذه القواعد التي وضعها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه، فقد كفر بما تضمنته من أدلة أصول الدين، التي تضمنتها آيات القرآن المحكمات، وصحيح الأحاديث؛ وذلك هو الدين القيم، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]،
…
وبهذا البيان، يعلم المنصف أنه لا ينكر تلك القواعد إلا من أقعده جهله، وعميت بصيرته، وضل فهمه، وتغيرت فطرته، وضاع عقله؛ نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله معرفة الحق
(1)
مجموع الفتاوى (31/ 40).
وقبوله، ومحبته والعمل به، والثبات عليه، والاستقامة في الدنيا والآخرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل"
(1)
.
بل من أهل العلم من جعل الأبواب التي تضمنها كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب قواعد في حد ذاتها وقد اشتملت على فوائد استخرجها الشيخ في مسائله عقب كل باب.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان في مقدمة شرحه لكتاب "التوحيد": "فإن "كتاب التوحيد" الذي ألَّفه الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ورضي عنه -، كتاب بديع الوضع، عظيم النفع، لم أرَ من سبقه إلى مثاله، أو نسج في تأليفه على منواله، فكل باب منه قاعدة من القواعد ينبني عليها كثير من الفوائد"
(2)
.
ثم إن قواعد التوحيد والعقيدة بالإضافة إلى ما ينبني عليها من المسائل فإنها تكون في الغالب مقصودة لذاتها علمًا ومعرفة واعتقادًا وعملًا، وليست كالقواعد الأصولية أو الفقهية التي لا تكون مقصودة لذاتها، وإنما وضعت للتوصل بها إلى غيرها
(3)
.
وعلى ضوء ما سبق يمكن القول بأن القواعد العقدية، أو قواعد أصول الدين: هي الأصول الكلية، والكلمات الجامعة التي ينبني عليها مسائل وأحكام؛ أصلية لا يصح الإيمان بدونها، أو فرعية يتحقق بها كماله الواجب، ولا يسع أحدًا الجهل بها
(4)
.
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 365 - 368).
(2)
الدر النضيد على أبواب التوحيد (ص 5).
(3)
انظر: التقرير والتحبير في شرح تحرير ابن الهمام، لابن أمير الحاج الحلبي الحنفي (1/ 34).
(4)
انظر: أربع قواعد تدور الأحكام عليها، للإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 3).