الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطيبة: لا إله إلا الله"
(1)
.
ثانيًا: معنى الفطرة:
الفِطْرَةُ مشتقة من أصل لغوي ثلاثي هو (فَطَرَ)، على وزن (فِعْلَة)، وهي اسم من الفعل (فَطَرَ)، والمصدر منه (فَطْرًا)، يقال: فَطَرَ يَفْطُرُ ويَفْطِرُ فَطْرًا
(2)
.
يقال: فَطَرَ الشيءَ يفْطُرُه فَطْرًا وفطَّرَه فَانْفَطَرَ: شقَّه، وتفطَّر الشيء: تشقق. فالفَطْرُ: الشق، وجمعه: فطور، ومنه قوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1]؛ أي: انشقت، وفي الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه
…
"
(3)
.
وفَطَر الله الخلق، يفطرهم: خلقهم وابتدأهم واخترعهم، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]؛ أي: خالقهما ومبتدئهما
(4)
، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لم أكن أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: ابتدأتها"
(5)
.
وفَطَرَ الشَّيءَ أَنْشَأَه وبَدَأَه، وإذا كان الفَطْرُ، بمعنى الابتداء والاختراع، فَالْفِطْرَة منه الحالة كَالْجِلْسَةِ
(6)
.
(1)
درء التعارض (8/ 451)، وانظر: منهاج السُّنَّة النبوية (5/ 403).
(2)
انظر: مقاييس اللغة (4/ 510)، والصحاح (2/ 781)، تصريف الأسماء (ص 51)، معجم تصريف الأفعال العربية (ص 78، 503).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} (4/ 1830)، برقم (4557)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
انظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 350).
(5)
التمهيد لابن عبد البر (18/ 78 - 79).
(6)
انظر: الصحاح (2/ 781)، ولسان العرب (10/ 285 - 288)، والمحكم والمحيط =
فأصل الفَطْرِ هو بداية الخلق والابتداء، وهذا يشمل جميع ما في الكون، فالله هو الفاطر للسموات والأرضين، والجبال والبحار، والجن والإنس، بل ما من ذرة في الكون إلا هو خالقها وفاطرها.
والفِطْرَة التي فطر الله عليها الخلق أمر زائد على مجرد خلقهم وإيجادهم، إذ هي هيئة وطبيعة في النفس الموصوفة بالحياة، تقود إلى إدراك وفعل ما فيه الخير والنفع، وإلى ترك وتجنب ما فيه الشر والضر، دون حاجة لتوسط الآخرين في المعرفة والتعليم، أو الإدراك والتفهيم، وهي بهذا عامة مشتركة بين الإنسان والحيوان.
فهي في الأصل قوة علمية وعملية مرتبطة بحقيقة الخلقة، وأصل التكوين البشري، ولا تعلق لها بمؤثر خارجي البتة؛ لا في إيجادها، ولا في حقيقة صفاتها الأصلية
(1)
، وإن كانت قابلة للتأثر والتغير بعد ذلك. وهذا هو السبب في تسميتها (بِالفِطْرَة) إذ هي مرتبطة ببداية الخَلْقِ ووجوده؛ فمتى وجد الخَلْقُ وجدت معه الفِطْرَة ولا بد {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
يقول الإمام ابن القيم: "فإن الله سبحانه فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق ين النافع والضار، والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه، والفطرة الأولى هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية فمشتركة بين أصناف الحيوان، وحجة الله عليه إنما تقوم بواسطة الفطرة
= الأعظم لابن سيده (9/ 153)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 457).
(1)
قال السمعاني في معرض ذكره لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} : "فأخبر أن الناس قد خلقوا على الدين الحنيفي بلا صنع منهم". [قواطع الأدلة في الأصول (2/ 348 - 349)، لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني].
الأولى؛ ولهذا اختص من بين سائر الحيوانات بإرسال الرسل إليه، وبالأمر والنهي، والثواب والعقاب، فجعل سبحانه في عقله ما يفرق بين الحسن والقبح، وما ينبغي إيثاره وما ينبغي اجتنابه"
(1)
.
بل إن جميع ما يجده الإنسان في نفسه، أو يفعله بجوارجه بدون سابق تعلم مكتسب -بأحد وسائل الحصول على المعرفة- يعتبر أمرًا فطريًا ضروريًا في النفس البشرية. وهذا هو المقصود من قوله تعالى:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50].
ثم جاء في النصوص الشرعية إضافة الفِطْرَة إلى الله سبحانه وتعالى، فعظمت بذلك مكانتها، وعلت مرتبتها، وازدادت شرفًا ورفعة بهذه النسبة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذه الفطرة جاءت متعلقة بخلق الإنسان دون الحيوان والجماد، وبذلك يظهر أن خلق الإنسان يختلف عن بقية الخلق، حيث إنه وجد على صفة كريمة، وحالة شريفة، وهيئة مخصوصة، ووضعية ممدوحة تميزه عن بقية الخلق
(2)
.
وقد تعددت أقوال أهل العلم في معنى الفِطْرَة التي خلق الله عليها الخلق، وكثرت أقوالهم فيها، وأشهر الأقوال في ذلك، وعليه جملة السلف وجمهورهم، وهو الراجح الصحيح بإذن الله تعالى: أن المراد بالفطرة دين الإسلام
(3)
المتضمن للمعرفة والإقرار، وما يتبع ذلك من
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 116).
(2)
جاءت نصوص الفِطْرَة مسندة إلى الإنسان، كقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، وكما في اَية الميثاق، وفي الحديث:"يولد المولود على الفِطْرَة"، فهل يدخل الجن في هذه الفِطْرَة أم لا؟ وقد ذكر بعض أهل العلم ما يدل على ذلك، يقول ابن حزم:"فصح يقينًا أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفًا، وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والأنس عباد له عز وجل مخلوقين". [الفصل في الملل والأهواء (4/ 65)].
(3)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (3/ 102)، وممن ذهب إلى تفسير الفِطْرَة الواردة في الحديث بالإسلام: أبو هريرة رضي الله عنه، وابن شهاب الزهري، وذكر ذلك عن عكرمة، =
الإخلاص والخضوع، والتسليم، والقبول والميل لأحكام الإسلام واستحسانها عمومًا، والسلامة من جميع الاعتقادات الباطلة المنافية لأصل الإسلام
(1)
.
يقول الإمام ابن القيم بعد حصره للأقوال التي قيلت في معنى الفطرة: "والصحيح من هذه الأقوال ما دل عليه القرآن والسُّنَّة: أنهم ولدوا حنفاء على فطرة الإسلام، بحيث لو تركوا وفطرهم لكانوا حنفاء مسلمين، كما ولدوا أصحاء كاملي الخلقة، فلو تركوا وخلقهم لم يكن فيهم مجدوع، ولا مشقوق الأذن؛ ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك شرطًا مقتضيًا غير الفطرة، وجعل خلاف مقتضاها من فعل الأبوين"
(2)
.
والمقصود بهذا أن فطرة المولود تكون موجبة ومقتضية لدين الإسلام والتوحيد، ومتهيئة ومتمكنة بالقوة من معرفته، كما سيأتي بيانه.
يقول البيضاوي
(3)
فى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]: "خلقهم عليها، وهي قبولهم للحق، وتمكنهم من إدراكه، أو ملة الإسلام؛ فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها"
(4)
.
= ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، وغيرهم. انظر: الاستذكا ر (3/ 104، 102)، وقال الإمام البخاري:"والفطرة الإسلام". [صحيح البخاري (4/ 1792)].
(1)
انظر: الاستذكار لابن عبد البر (3/ 102 - 103).
(2)
أحكام أهل الذمة (2/ 1069 - 1070).
(3)
هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، الملقب بـ (ناصر الدين) فقيه، أصولي، مفسر، له تصانيف كثيرة منها: الطوالع والمصباح في أصول الدين، والغاية القصوى في الفقه، والمنهاج في أصول الفقه، ومختصر الكشاف في التفسير، وغيرها، توفي سنة 685 هـ. [ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى (8/ 157)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 172)].
(4)
تفسير البيضاوي (4/ 335)، وانظر: تفسير النسفي (3/ 273).
وقال الثعالبي
(1)
: "والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة مهيئة؛ لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فُطِرَ البشر، لكن تعرضهم العوارض"
(2)
.
وهذه الفِطرَة الخاصة بالإنسان المكلف يعبَّر عنها بدليل الفِطْرَة، وهي تتضمن أمورًا إضافية لا توجد في فِطَرِ الحيوانات البهيمية، وهي على ضربين:
الأول: أصل الفِطْرَة: وهو معرفة النفس وإقرارها بالله تعالى، وشعورها وإدراكها له، وتقبّلها لدين الإسلام، واستحسانه، والميل إليه، ابتداء بتوحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، مع الخضوع والمحبة والذل له، هذه أمور موجودة في فطرة كل مخلوق، وإن لم يشعر بها في بداية نشأته؛ لعدم أهليته لإدراكها؛ إذ إن إدراك هذه الأمور متوقف على نضوج العقل ونموه، وعليه فيزداد شعور المولود بهذه الفِطْرَة، ويحسها من نفسه بحسب نمو عقله ونضوجه.
فلو ترك المولود وفطرته، بعيدًا عن المؤثرات الاجتماعية والبيئة، لما اختارت نفسه غير التوحيد وإخلاص الدين لله، ولكانت أشد حذرًا وبعدًا من الشرك، وأعظم نفرة وبغضًا له.
(1)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري، المغربي المالكي، ولد سنة 786 هـ، وحج وأخذ عن الولي العراقي، وكان إمامًا علامة مصنفًا اختصر تفسير ابن عطية في: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وشرح ابن الحاجب، وروضة الأنوار ونزهة الأخيار، والذهب الإبريز في غريب القرآن العزيز، وعمل في الوعظ والرقائق وغير ذلك، مات في سنة 875 هـ. [ترجمته في: الضوء اللامع (4/ 152)، والأعلام للزركلي (3/ 331)].
(2)
تفسير الثعالبي (3/ 202 - 203)، وانظر: تفسير أبي السعود (7/ 60).
يقول الرازي في معنى حديث الفطرة: "دلَّ الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية، وهي سعي الأبوين في ذلك، وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد"
(1)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل"
(2)
.
الثاني: كمال الفِطْرَة: وهو كل ما يتعلق بتفاصيل الإيمان وفروع التوحيد التي لم تأت في أصل الفطرة، وما يتبع ذلك من إدراك الحُسْنِ والقُبْحِ فيما يتعلق بأحكام لم تأت في أصل الفطرة، وما يتبع ذلك من إدراك الحُسْنِ والقُبْحِ فيما يتعلق بأحكام الإسلام وجزئياته جميعها، إذ يوجد في النفس القبول لهذه الأحكام الشرعية، واستحسانها، والميل إليها.
والفرق بين الضربين: أن أصل الفِطْرَة من المعرفة والإخلاص الذي هو جزء حقيقتها تدركه النفس بواسطة العقل المؤهل بدون حاجة إلى رسول أو معلم، ومجيء الرسل عليهم السلام إنما كان لتقويمه وإصلاحه إذا بدا منه الانحراف، ودبَّ إليه الفساد.
وذلك بخلاف كمالها؛ إذ النفس مفطورة على تقبّل ذلك الكمال واستحسانه، وعدم الممانعة والرد له، لكنها لا تدركه -بمجرد العقل وإن تأهّل- إلا ببعثة الرسل المبلغين عن رب العالمين.
يقول الإمام ابن كثير: "وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها، ولهذا قال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17]، وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه
(1)
التفسير الكبير (6/ 12).
(2)
مجموع الفتاوى (14/ 296).