الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء الرسل، وبسببه وقع الخصام والقتال بينهم وبين أقوامهم هو الأصل الأول، وهو إفراد المعبود بالعبادة، والكفر بكل معبود سواه.
*
المسألة الثالثة* أدلة القاعدة
لهذه القاعدة أدلة كثيرة لا تكاد تحصى إلا بعد الجهد والنظر المتكرر في أدلة القرآن والسُّنَّة، وفيما يلي أذكر بعض هذه الأدلة التي تؤيد هذه القاعدة، فمما جاء من أدلة في كتاب اللَّه تعالى:
أولًا: الأدلة الدالة على أن الدين عند اللَّه دين واحد هو دين الإسلام، فهو الدين الذي أمر به جميع خلقه، ورضيه منهم، وشرعه لهم، وهو الفطرة التي فطر الناس عليها، وحذَّر من ابتغى غيره بأنه في الآخرة من الخاسرين.
قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران: 19] وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85] وقوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13] وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون: 52] وقال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
ثانيًا: ما أخبر اللَّه تعالى به في كتابه الكريم عن كل نبي من الأنبياء أن دينه كان هو الإسلام، فذكر ذلك عن نوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف
وموسى وعيسى وغيرهم، والمقصود هو اتفاقهم في أصل الدين وإن اختلفت شرائعهم كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وفيما يلي بعض النصوص القرآنية التي نصت على هذا:
أخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 72] فهذا نوح عليه السلام يبيِّن لقومه أن اللَّه تعالى أمره أن يكون من المسلمين، وقال عز وجل عن دعاء خليله إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128]، وقال تعالى في شأن وصيته ووصية يعقوب عليهما السلام ولأبنائهم:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 131، 132] وقال تعالى مبينًا براءته عليه السلام من جميع الأديان سوى الإسلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: 67].
وقال تعالى مخبرًا عن يوسف الصديق بن يعقوب عليهما السلام أَنَّهُ قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101].
وقال سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس: 84] وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف: 126].
وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)} [النمل: 38]، وقال عن بلقيس عند إيمانها بسليمان عليه السلام:
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44] وقال عز وجل عن أصحاب عيسى عليه السلام {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} [المائدة: 111].
يقول ابن تيمية: "فهؤلاء الأنبياء كلهم وأتباعهم كلهم يذكر اللَّه تعالى أنهم كانوا مسلمين، وهذا مما يبين أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85] وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] لا يختص بمن بعث إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو حكم عام في الأولين والآخرين، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125] وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 111، 112] "
(1)
.
ومما يدل على هذه القاعدة من السُّنَّة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات
(2)
؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد"
(3)
.
(1)
دقائق التفسير (1/ 339)، وانظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 81 - 83)(2/ 128 - 132)، الصفدية (2/ 301 - 303)، والفتاوى (3/ 90 - 92)(27/ 370)، ومنهاج السُّنَّة (1/ 319 - 320)، (5/ 265 - 267).
(2)
العلات: هم أولاد الرجل الواحد من نسوة شتى، سميت بذلك؛ لأن الذي تزوج أخرى على أولى قد كانت قبلها قد علَّ، والعلل الشرب الثاني، ويقابلهم بنو الأخياف: وهم بنو الأم الواحدة من آباء شتى. [انظر: المعجم الوسيط (2/ 623)، ومختار الصحاح (ص 189)].
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 1270)، رقم (3259)، ومسلم في صحيحه، باب: فضائل عيسى عليه السلام (4/ 1837)، رقم (2365).
والمقصود أنهم متفقون في أصول الدين، فدينهم جميعًا هو الإسلام لا اختلاف بينهم في ذلك، وإنما وقع الخلاف بينهم في فروع الشرائع، كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
قال الإمام النووي: "قال جمهور العلماء: معنى الحديث أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ودينهم واحد"؛ فالمراد به أصول التوحيد، وأصل طاعة اللَّه تعالى وإن اختلفت صفتها"
(1)
.
ويقول أبو العباس القرطبي
(2)
: "وقوله: "ودينهم واحد"؛ أي: في توحيدهم، وأصول أديانهم، وطاعتهم للّه تعالى، واتباعهم لشرائعه، والقيام بالحق، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13] ولم يُرِد فروع الشرائع؛ فإنَّهم مختلفون فيها كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] "
(3)
.
وقال الحافظ ابن حجر
(4)
: "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 120).
(2)
هو: الإمام أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي المالكي، أبو العباس الملقب بضياء الدين وكان يعرف في بلاده بابن المزين، ولد عام 578 هـ بقرطبة، له: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، وتلخيص صحيح مسلم، ومختصر البخاري وغيره، توفي عام 656 هـ، ودفن بالإسكندرية. [تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1438)، نفح الطيب للمقري (2/ 615)].
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 176 - 177).
(4)
هو: الإمام الحافظ الفقيه المحدث المنفرد بمعرفة الحديث وعلله، أبو الفضل شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي الكناني العسقلاني الشافعي ثم المصري، المشهور بابن حجر العسقلاني، ولد سنة 773 هـ، ومؤلفاته يصعب حصرها منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ولسان الميزان، وتهذيب "التهذيب"، وغيرها. توفي سنة 852 هـ. [انظر ترجمته في: الضوء اللامع (2/ 36)، والبدر الطالع (1/ 87)].