الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله: "قول الشوكاني: والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل، إن كان يريد المعنى اللغوي فهو صحيح، قال تعالى في سورة المؤمنين حكاية عن موسى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)} [المؤمنون: 47]؛ أي: خاضعون، متذللون، خادمون، وأما إن أراد المعنى الشرعي، فهو ناقص، إذ لا تتمّ العبادة بالخضوع والتذلل فقط، حتى يصحبها الحب، والتعظيم، والإجلال، وتوحيد الله بذلك"
(1)
.
*
المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة
دلَّت القاعدة على أن العبادة تنبني على ركنين أساسيين؛ هما: محبة المعبود، والذل والخضوع له، فلا تقوم عبادة إلا بهذين الركنين، بل لا تسمى العبادة عبادة إذا خلت من إحدى هاتين الركيزتين العظيمتين؛ محبة الرب تبارك وتعالى، والذل له، وكلاهما لا يحصل تمامه إلا بالآخر، فلا يكون حب بدون ذل للمعبود، ولا ينفع ذل بدون محبة المعبود، (فمتى استحكم الذل والحب صار عبودية، فيصير القلب المحب معبدًا لمحبوبه، وهذه الرتبة لا يليق أن تتعلق بمخلوق، ولا تصلح إلا لله وحده)
(2)
.
يقول ابن القيم: "والحب مبناه على الذل والخضوع للمحبوب"
(3)
.
ويقول أيضًا: "المرتبة الثالثة: ذُلُّ المحبة؛ فإن المحب ذليل بالذات، وعلى قدر محبته له يكون ذُلُّه، فالمحبة أسست على الذِّلة للمحبوب"
(4)
.
(1)
سبيل الرشاد في هدي خير العباد (1/ 138 - 139).
(2)
روضة المحبين (ص 282) بتصرف يسير.
(3)
المصدر السابق (ص 182).
(4)
مدارج السالكين (1/ 207).
فالذُّل والخضوع للرب تبارك وتعالى هو أساس المحبة، وهو في حقيقته عزة النفس وشرف العبودية، (ولا يأنف العزيز الذي لا يذل لشيء من ذُله لمحبوبه، ولا يعده نقصًا ولا عيبًا، بل كثير منهم يعد ذله عزًا)
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية في بيان ما يتضمنه لفظ العبادة: "ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل، بكمال الحب، فلا بد أن يكون العابد محبًا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلًا له كمال الذل، فمن أحب شيئًا ولم يذل له لم يعبده، ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده، وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو، وذلك يتضمن كمال الحب، والذل، والإجلال، والإكرام، والتوكل، والعبادة، فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها"
(2)
.
ومن المعلوم أن محبة المعبود ومعرفته هما أصل الإيمان في القلب، فمعرفته والعلم به أصل الإيمان القولي، ومحبته أصل الإيمان العملي، والإيمان القولي هو الذي ينبني عليه الإيمان العملي؛ فإن من عرف معبوده حق المعرفة، وعلم به تمام العلم، استلزم ذلك محبته، والذل له والخوف منه والرجاء فيه.
يقول الإمام ابن القيم: "والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء"
(3)
.
فالمحبة فرع المعرفة والعلم بالله تبارك وتعالى، فالحب يتبع العلم، بل هو شرط صحة المحبة، وكل من المحبة والمعرفة يستلزم الذل
(1)
روضة المحبين (ص 282).
(2)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية (6/ 31).
(3)
مدارج السالكين (2/ 28).
للمعبود والخضوع له والخوف منه والرجاء فيه، والانقياد له وطاعته، فلا تقوم محبة في القلب بدون الخوف والرجاء، وبدون الرغب والرهب.
يقول ابن القيم: "ومقام المحبة جامع لمقام المعرفة، والخوف، والرجاء، والإرادة، فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة وبها تحققها"
(1)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: "وهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم، وأصنامهم، وآلهتهم مع الله كما يحبون الله، فهذه: محبة تأله، وموالاة، يتبعها الخوف، والرجاء، والعبادة، والدعاء، وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله، ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد، وشدة بغضها، وبغض أهلها، ومعاداتهم، ومحاربتهم، وبذلك أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية، وخلق الجنة لمن حارب أهلها، وعاداهم فيه، وفي مرضاته"
(2)
.
وهذه المراتب من المحبة والخوف والرجاء هي مراتب الإيمان التي يقوم عليها، وهي المحرك لسير العبد إلى ربه تبارك وتعالى، إذ هي قوام العبودية وقطبها الذي لا تقوم بدونه.
يقول الإمام ابن تيمية: "ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها، أو تذهب عنها بالكلية، بحول الله وقوته.
فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنَّها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف، فإنَّه يزول في الآخرة، قال الله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62]، والخوف: المقصود منه الزجر، والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه؛ وعلى قدر ضعفها
(1)
مدارج السالكين (1/ 136).
(2)
الروح، لابن القيم (ص 254).
وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنَّه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره"
(1)
.
ويقول ابن القيم: "وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة، وهي الحب، والخوف، والرجاء، هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأولى لصاحبه، والأنفع له، وهي أساس السلوك والسير إلى الله، وقد جمع الله سبحانه الثلاثة في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]، وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال والله أعلم"
(2)
.
بل حصول هذه الثلاثة وتحققها هو أصل الخيرات، وانعدامها أصل كل شر وفساد، فحصول الخير في النفوس يستوجب وجود القلب المتأله لربه تبارك وتعالى، بالمحبة، والخوف، والرجاء.
يقول الشيخ السعدي: "وهذه الأمور الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة، التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده هي الأصل، والمادة في كل خير، فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها، ترحلت عنه الخيرات، وأحاطت به الشرور"
(3)
.
فالحاصل في معنى القاعدة: أن العبادة الشرعية لا بد أن تتضمن الحب والخوف والرجاء، وإلا كانت عبادة باطلة غير مقبوله عند الله تبارك وتعالى، بل تكون خارجة عن مسمى العبادة الشرعي الذي اعتبره الله تبارك وتعالى، فلا بد من اجتماع المحبة مع الرغب والرهب.
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 95).
(2)
مدارج السالكين (3/ 133).
(3)
تفسير السعدي (ص 461).