الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به النفوس حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع، وهو الذي خلق الله له الخلق وأمرهم به"
(1)
.
*
المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة
معنى التوجه لغة وشرعًا:
التوجه فعل لازم من وَجَهَ، والواو والجيم والهاء: أصل واحد يدل على مقابلةٍ لشيء، فالوَجه مستقبَلُ كلِّ شيء والوِجْهَة: القِبلة وكل موضع استقبلته، والمُوَاجَهة المقابلة، ووجهت الشيء: جعلته على جهة، وَوَجَّه وَجْهَهُ إلى كذا: ولَّى وجهه إليه، ويقال للقَصْدِ: وجه، وللمقصد: جهةٌ ووِجهةٌ
(2)
.
وأما التوجه شرعًا الذي هو عبادة لله تعالى فينقسم إلى قسمين:
الأول: توجه قلبي باطني.
الثاني: توجه ظاهري.
وقد يجتمعان في العبادة الواحدة، بل قد لا يعتبر أحدهما بدون الآخر في بعض الأحوال، كما هو الحال في الصلاة.
فالتوجه الباطني هو الإقبال على الله تعالى بالكلية والانقياد إليه، والانقطاع عما سواه، وإخلاص العبادة له، وقصده عز وجل بجميع أنواع العبادة.
(1)
تفسير السعدي (ص 73).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (6/ 186)، معجم مقاييس اللغة (6/ 88 - 89)، المفردات (ص 513 - 514)، مختار الصحاح (ص 296)، معجم الأفعال المتعدية بحرف (ص 423 - 424).
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "ثم أخبرهم تعالى ذكره أن توجيهه وجهه لعبادته بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يجب من التوحيد، لا على الوجه الذي يوجه له وجهه من ليس بحنيف، ولكنه به مشرك، إذ كان توجيه الوجه لا على التحنيف غير نافع موجهه بل ضاره ومهلكه"
(1)
.
وقال السمعاني رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125]: "أي: أخلص عبادته لله، وقيل: توجه بعبادته إلى الله، والوجه يذكر بمعنى الدين والعبادة ومنه قول المصلى: وجهت وجهي؛ أي: ديني وهو الصلاة"
(2)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "وكذلك توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض توجيه قصده، وإراداته، وعبادته، وذلك يستتبع الوجه وغيره، وإلا فمجرد توجيه العضو من غير عمل القلب لا يفيد شيئًا"
(3)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وتوجيه وجهه إليه يتضمن؛ إقباله بالكلية على ربه، وإخلاص القصد والإرادة له، وإقراره بالخضوع، والذل، والانقياد، قال تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]، وذكر الوجه إذ هو أشرف ما في الإنسان، ومجمع الحواس، وأيضًا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله:
أستغفر الله ذنبًا لست محصيه
…
رب العباد إليه الوجه والعمل"
(4)
ويقول الإمام ابن كثير في قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
(1)
تفسير الطبري (7/ 252)، وفي نسخة أخرى:"إذا كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، بل ضارّه ومهلكه". [انظر: تفسير الطبري بتحقيق: الشيخ أحمد ومحمود محمد شاكر (11/ 487)].
(2)
تفسير السمعاني (1/ 484)، وانظر: تفسير القرطبي (7/ 28)، وشرح مسلم للنووي (6/ 57).
(3)
مجموع الفتاوى (2/ 431).
(4)
زاد المعاد (4/ 244).
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79]:
"أي: أخلصت ديني، وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض"
(1)
.
والمقصود من الآية: أن إبراهيم عليه السلام وجه وجهه لله وحده، مقبلًا عليه بالتوحيد، ومذعنًا له بالانقياد، معرضًا عن من سواه، متبرئً من الشرك وأهله؛ فدعا قومه إلى التوحيد، وأعلنه إعلانًا، فلم يترك للشرك مسلكًا إلى نفوس الغافلين، وأقام بناية هي الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفرض حَجّه على الناس، ارتباطًا بمغزاه، وأعلن تمام العبودية لله تعالى
(2)
.
يقول الشيخ المباركفوري: "أي: توجهت بالعبادة بمعنى: أخلصت عبادتي لله، وقيل: صرفت وجهي، وعملي، ونيتي، أو أخلصت وجهتي وقصدي للذي فطر السماوات والأرض"
(3)
.
لكن التوجه الظاهري بالوجه لا يعتبر إذا خلا القلب من التوجه والانقياد والخضوع والتعظيم، فإن هذه الأمور إن حصلت في القلب استلزمت توجه الوجه فيما شرع فيه التوجه.
يقول الإمام ابن تيمية: "وذلك أنهما متلازمان؛ فحيث توجه الإنسان توجه وجهه، ووجهه مستلزم لتوجهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعًا، فهي أربعة أمور، والباطن هو الأصل، والظاهر هو الكمال والشعار، فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله، فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسنًا فقد اجتمع له أن يكون عمله صالحًا، وأن يكون لله تعالى"
(4)
.
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 152).
(2)
انظر: تفسير السعدي (ص 262)، وتفسير التحرير والتنوير (3/ 275).
(3)
تحفة الأحوذي (9/ 264).
(4)
الاستقامة (2/ 307).
فالوجه إنما يتوجه حيث توجه القلب، فإذا توجه الوجه نحو جهة، كان القلب متوجهًا إليها، ولا يمكن للوجه أن يتوجه بدون القلب، فإسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزم لإسلام القلب وإقامته وتوجيهه
(1)
.
وتوجيه الوجه وإسلامه وإقامته كلها ألفاظ متقاربة، والمقصود: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره، غير ملتفت يمينًا ولا شمالًا؛ وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء، والتمحض للشغل به، بحال قصر النظر إلى صوب قبالته، غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، وهذا كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقوله عن إبراهيم:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79]، وقوله تعالى:{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]؛ أي: أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله، وأن لا يلتفت إلى معبود غيره
(2)
.
وبهذا يظهر أن توجيه الوجه إلى الله تعالى يشمل صرف الوجه وتوجيه القلب، لكن ما يتعلق بالقلب هو الأصل، ويأتي توجه الوجه مستتبعًا لما في القلب.
كما أن توجه الوجه الذي أوجبه الله تعالى، وجعله عبادة له لا بد أن يلازمه توجه جملة البدن أيضًا؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته بما في ذلك الوجه والبدن والقلب، لا بوجهه فقط، والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء؛ ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض؛ فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه
(3)
.
(1)
النبوات (ص 75).
(2)
انظر: تفسير التحرير والتنوير (21/ 89).
(3)
انظر: تفسير البحر المحيط (1/ 603)، والتفسير الكبير للرازي (4/ 102).
يؤيد ذلك ما ثبت في السُّنَّة من أن المصلي يستقبل بأطراف أصابعه القبلة في حال سجوده
(1)
.
يقول الشيخ ابن عاشور في معنى قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : "وجملة (إنّي وجَّهْت وَجْهِي) بمنزلة بدل الاشتمال من جملة (إنّي بريء ممّا تشركون)؛ لأنّ البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله، وهو إفراده بالعبادة. والوجه في قوله: (وجهي)، و (وجّهت) مشتقّ من الجهة والوجهة؛ أي: صرفته إلى جهة؛ أي: جعلت كذا جهة له يقصدها. يقال: وجَّهه فتوجّه إلى كذا إذا ذهب إليه. ويقال للمكان المقصود: وِجْهَة بكسر الواو، وكأنَّهم صاغوه على زنة الهيئة من الوَجه؛ لأنّ القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه، وفعلوه على زنة الفعلة بكسر الفاء؛ لأنّ قاصد المكان بوجهه تَحْصُل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديقُ النظر؛ فمعنى: (وجَّهت وجهي): صرفتُه وأدرته. وهذا تمثيل: شبّهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، بمن استقبل بوجهه شيئًا وقصده وانصرف عن غيره"
(2)
.
والمعنى المقصود الأساس في القاعدة هو الثاني، ولكن كما سبق فإن توجه الوجه يفتقر إلى توجه القلب؛ وإلا صار توجهًا ظاهريًا لا فائدة منه ولا ثمرة له، ولا يعتبر مقبولًا عند الله تبارك وتعالى؛ إذ ليس في الشرع ظاهر بدون باطن.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب سُنة الجلوس في التشهد (1/ 284) برقم (793)، كما أن من السُّنَّة أيضًا توجيه أصابع اليدين إلى جهة القبلة أثناء السجود، فقد جاء في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في وصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:(واستقبل بأطراف أصابعه القبلة). [صحيح ابن خزيمة (1/ 324) برقم (643)].
(2)
تفسير التحرير والتنوير (7/ 323).