الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطلانه، نسأل الله لنا ولكم الهدي والسّداد والله أعلم"
(1)
.
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي
(2)
: "وقد علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صحة الإيمان به الكفر بالطاغوت؛ لقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]، فصار الكفر بالطاغوت شرطًا في صحة الإيمان بالله واجبًا لا يمكن وجود الإيمان إلا بوجوده
(3)
".
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-: "فالإيمان بالله لا يصح إلا بعد الكفر بالطاغوت، فالكفر بالطاغوت ركن الإيمان، فلا يصح أن يجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت؛ لأن هذا جمع بين نقيضين، والله قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله"
(4)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
يمكن الاستفادة من هذه القاعدة وتطبيقها في نواح شتى، ومجالات عديدة، وفيما يأتي أنقل بعض ما ظهر من تلك الفوائد:
أولًا: عدم صحة الإيمان والتوحيد بدون تحقيق الكفر بالطاغوت، إذ هو ركنه الأصيل، وإذا فقد ركن الشيء زالت ماهيته، وبطل وجوده، وتحول عن مسماه الشرعي، فلا يبقى بدون تحقيقه إيمان شرعي في القلب.
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 417).
(2)
هو: الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، ولد عام 1253 هـ، من مصنفاته: شرح نونية ابن القيم، وتهديم المباني في الرد على النبهاني، توفي عام 1329 هـ.
[انظر: علماء نجد خلال ستة قرون للبسام (1/ 155 - 162)].
(3)
توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم (ص 157).
(4)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 122).
ثانيًا: ركنية الكفر بالطاغوت وشرطيته في صحة الإيمان، وقيام الإسلام منشؤه من التلازم الكلي التام -الذي لا ينفك أبدًا- بينه وبين الإيمان الشرعي الصحيح بالله تعالى، وبين بغض الطاغوت وعداوته، وبين محبة الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يوجد إيمان صحيح في القلب بالله تعالى بدون الكفر بالطاغوت، ولا محبة شرعية مقبولة عند الله تعالى بدون بغض وعداوة للطاغوت.
يقول أبو حيان: "لأن الكفر بها هو رفضها ورفض عبادتها ولم يكتف بالجملة الأولى؛ لأنها لا تستلزم الجملة الثانية إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت"
(1)
.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: في جواب سؤال عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟ فأجاب رحمه الله بقوله: "هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به؛ لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين؛ ومن لم يعادهم لا يقال له: عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض -وحسن السؤال مفتاح العلم-.
وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة، ولم يفارق؛ ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة، فالأول: يعذر به مع الخوف والعجز، لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني: لا بد منه؛ لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حبِّ الله ورسوله تلازم كُليِّ لا ينفك عن المؤمن"
(2)
.
ثالثًا: سبقت الإشارة إلى أن تحقيق الكفر بالطاغوت يكون بالقلب
(1)
تفسير البحر المحيط (2/ 292).
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/ 358 - 359).
واللسان والجوارح، ولكن لا يلزم من تحقيق الكفر به إزالته عن الوجود، وإن كانت إزالته من أعظم القربات، وأجل الطاعات، وهو أمر مطلوب شرعًا؛ لما في وجوده من الشر المستطير، والفتنة العظيمة، ولكن ذلك حسب الاستطاعة والقدرة، ومراعاة المصالح والمفاسد التي يقدرها أهل العلم والأمانة، الراسخين في الفهم والديانة.
ولا أدل على هذا من وجود ثلاثِ مائة وستون صنمًا حول الكعبة، في أيام الجاهلية تعبدها قريش والعرب من دون الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة، ونبذ هذه الطواغيت، وترك عبادتها، والكفر بها، والبراءة منها، بل سفهها لهم، وبين لهم فقرها وضعفها، ومع ذلك فإنه عليه السلام لم يتعرض لهدمها أو تكسيرها وإزالتها في أول الدعوة؛ لعدم قدرته على ذلك مع تحقيقه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه للكفر بهذه الطواغيت بالقلب واللسان أعظم تحقيق، وبعدما مكنه الله تعالى من قريش فظفر بهم، وفتحت مكة على يديه، كانت إزالة هذه الطواغيت هي أولى مهامه التي قام بها في مكة، فلم يترك فيها صنمًا واحدًا إلا كسره وأباده، بل أرسل بعض أصحابه إلى هدم ما بَعُدَ منها عن مكة؛ كاللات والعزى وغيرها من الأوثان.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "إن الله تعالى لما أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا تعبدها قريش، وكانوا يعبدون اللات، والعزى، ومناة، وهي أكبر الطواغيت التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم، فاستجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان، وكفرًا بها، وبراءة منها، ومسبة لها، فصح إسلامهم وإيمانهم بذلك مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها ممن لم يرغب عنها وعن عبادتها.
فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها في كلمة الإخلاص زوال ماهية الأصنام ونفي وجودها، وإنما المراد إنكار عبادتها، والكفر بها، وعداوتها كما تقدم بيانه، وكل من تبرأ منها ورغب عنها فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى دون كل ما يعبد من دونه، فلما تمكن صلى الله عليه وسلم من إزالة هذه الأصنام كسرها وبعث من يزيل ما بعد عنه منها فخلت الجزيرة من أعيانها، وهذا معنى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] "
(1)
.
رابعًا: أن من لوازم الكفر بالطاغوت الكفر بأهله وأنصاره، وبغضهم وعدم موادتهم، والبراءة منهم ومن أعمالهم، وجهادهم باللسان والسنان في ذات الله تعالى، نصرة للتوحيد، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
والحاصل أنه يلزم الكفر بالفعل والفاعل، والعمل والعامل، والشرك والمشرك؛ وهذا أمر بين. قال سبحانه وتعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)} [الزخرف: 26]،، وقال عز وجل:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)} [التوبة: 3].
وهكذا أعلنها إبراهيم عليه السلام لقومه مصرحًا لهم بكفره بهم وبما
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 270)، ومجموعة الرسائل والمسائل (4/ 343 - 344).
عبدوه من دون الله من الطواغيت فقال لهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ} وقبلها: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
يقول الإمام الطبري: " {كَفَرْنَا بِكُمْ}: أيها المعبودون من دون الله، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} أيها العابدون {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} "
(1)
.
قال البيضاوي: " {كَفَرْنَا بِكُمْ}: أي: بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم"
(2)
.
يقول الإمام ابن كثير: " {قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}: أي: تبرأنا منكم {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ}: أي: بدينكم وطريقكم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}؛ يعني: وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}: أي: إلى أن توحدوا الله فتعبدونه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد"
(3)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: " {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا}؛ أي: ظهر وبان {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ}؛ أي: البغض بالقلوب وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك {أَبَدًا} ما دمتم مستمرين على كفركم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}؛ أي: فإذا آمنتم بالله وحده زالت العداوة والبغضاء وانقلبت مودة وولاية"
(4)
.
(1)
تاريخ الطبري (1/ 148).
(2)
تفسير البيضاوي (5/ 327).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 349).
(4)
تفسير السعدي (ص 856).