المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة - القواعد في توحيد العبادة - جـ ١

[محمد بن عبد الله باجسير]

فهرس الكتاب

- ‌المُقَدِّمَة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌خطة البحث

- ‌المنهج المتبع في هذا البحث

- ‌مشاكل البحث وصعوباته:

- ‌شكر وتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول القاعدة لغة واصطلاحًا

- ‌المطلب الأول: القاعدة لغة

- ‌ المطلب الثاني * القاعدة اصطلاحًا

- ‌ المطلب الثالث * بيان العلاقة بين القاعدة والضابط والأصل

- ‌المبحث الثاني أهمية القواعد وأثرها في العلوم

- ‌المبحث الثالث التقعيد ومنهج العلماء فيه

- ‌المبحث الرابع توحيد العبادة ومنزلته الشرعية

- ‌المطلب الأول: معناه وحقيقته

- ‌ المطلب الثاني * أهميته ومنزلته من الدين

- ‌ المطلب الثالث* أدلته

- ‌ المطلب الرابع* أسماؤه وإطلاقاته

- ‌أ - توحيد الطلب والقصد:

- ‌ب - توحيد الارادة والطلب:

- ‌ج - توحيد الشرع والقدر:

- ‌د - التوحيد العملي الإرادي، أو العملي القصدي:

- ‌هـ - توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة:

- ‌الباب الأول القواعد المتعلقة بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الأول القواعد العامة في توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول قاعدة دين الأنبياء واحد هو الإسلام

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة الشرع مبناه على تكميل أديان الخلق وعلى تكميل عقولهم

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: الشرع:

- ‌ثانيًا: العقل:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدةالدين قد كَمُلَ بيانه في أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة العبادة هي الغاية التي خلق الله لها الخلق من جهة أمره ومحبته ورضاه

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة ليس في الشريعة بقعة تقصد للعبادة لذاتها إلا المساجد ومشاعر الحج

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السادسقاعدة النزاع بين الرسل وأقوامهم إنما كان في إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث السابعقاعدة البركة لله وصفًا وملكًا وفعلًا وكل بركة في الكون فمن آثار بركته سبحانه

- ‌ المسألة الأولى * شرح بعض ألفاظ القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في اعتماد القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة [*]: فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثامنقاعدة التوجه إلى شيء أو إلى جهة بقصد القربة وحصول الثواب عبادة

- ‌ توطئة

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى التوجه لغة وشرعًا:

- ‌تمهيد في أحوال التوجه والاستقبال:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثانيالقواعد المتعلقةبحقيقة العبادة وضابطها

- ‌المبحث الأولقاعدة العبادة لا تسمى عيادة في حكم الشرع إلا مع التوحيد

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة مناط العبادة غاية الحب مع غاية الذل ولا تنفع عبادة بواحد دون الآخر

- ‌ المسألة الأولى* شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى العبادة:

- ‌ المسألة الثانية * بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة صلاح الأعمال بصلاح النيات وكل عمل تابع لنية عامله وقصده

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى النية لغة وشرعًا:

- ‌ المسألة الثانية*بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الثالثالقواعد المتعلقة بأنواع التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدة أنواع التوحيد وأضدادها متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌بيان معنى التلازم في القاعدة:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة توحيد الربوبية لا يصير الإنسان به مسلمًا حتى يأتي بأنواع التوحيد الأخرى

- ‌ المسألة الأولى* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة توحيد الربوبية أقرت به الخلائق مؤمنها وكافرها ولم ينكره إلا الشذاذ من العالم

- ‌ المسألة الأولى* بيان بعض ألفاظ القاعدة

- ‌معنى توحيد الربوبية:

- ‌ المسألة الثانية* معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال العلماء في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة الربوبية والألوهية مفهومان متغايران فإذا اقترنا افترقا وإذا افترقا اقترنا

- ‌ المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة

- ‌بيان معنى الرب والاله في القاعدة:

- ‌أما الألوهية:

- ‌ المسألة الثانية* بيان معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة* أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة* أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الرابعالقواعد المتعلقة بأصل التوحيد

- ‌المبحث الأولقاعدةأصل الإيمان وقاعدته التي عليها مدار أعمال العباد هو تحقيق معنى الشهادتين قولًا وعملًا وعقيدة

- ‌ المسألة الأولى * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * أدلة القاعدة

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌القسم الرابع:

- ‌ المسألة الثالثة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثانيقاعدة شهادة أن لا إله إلا الله مشتملة على النفي والإثبات

- ‌ المسألة الأولى * شرح مفردات القاعدة

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الثالثقاعدة الكفر بالطاغوت ركن التوحيد

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌معنى الطاغوت:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الرابعقاعدة محبة الله هي أصل الدين والمحبة فيه أو له تبع لمحبته والمحبة معه تضاده وتناقضه

- ‌ المسألة الأولى * شرح معاني مفردات القاعدة

- ‌معنى المحبة:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

- ‌المبحث الخامسقاعدة الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها

- ‌ المسألة الأولى * شرح ألفاظ القاعدة

- ‌أولًا: معنى الحنيفية:

- ‌ثانيًا: معنى الفطرة:

- ‌ثالثًا: معنى المُوْجَبِ والمُقْتَضى:

- ‌ المسألة الثانية * معنى القاعدة

- ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

- ‌ المسألة الرابعة * أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة

- ‌ المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها

الفصل: ‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

ويبيّن رحمه الله أنواع المحبة الطبيعية المشتركة فيقول: "والمحبة المشتركة ثلاثة أنواع؛ أحدها: محبة طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم، والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم، والنوع الثالث: محبة أنس وإلف؛ وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر بعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا، فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبة الله سبحانه؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكانت عائشة رضي الله عنها أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق"

(1)

.

*‌

‌ المسألة الثالثة * أدلة القاعدة

كما سبق معنا في معنى القاعدة أنها تضمنت المحبة الدينية سواء كانت شرعية أم غير شرعية، وفيما يلي أذكر من الأدلة ما يناسب هذه الأنواع، وهذه الأدلة على أنواع حسب ما دلت عليه القاعدة؛ فإن القاعدة دلت في الجملة على أربعة أنواع من المحبة:

الأول: محبة هي أصل الدين، وأساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وقوام الملة، وعليها تقوم جميع الأعمال الإيمانية، الظاهرة والباطنة.

الثاني: محبة شركية هي أساس الشرك، وأصل الكفر، بل ما من شرك في الأرض إلا وهذه المحبة أساسه وقوامه، وبها ينهدم الإيمان ولا يبقى منه حبة خردل.

(1)

طريق الهجرتين (ص 441 - 442)، وانظر: إغاثة اللهفان (2/ 140).

ص: 570

الثالث: محبة واجبة، تبعث على فعل الواجبات وترك المحرمات.

الرابع: محبة محرمة تبعث على فعل المحرمات وترك الواجبات.

وفيما يأتي أذكر بعض ما ظهر لي من أدلة حسب هذه الأنواع مع ملاحظة أن من الأدلة ما هو عام شامل لأكثر من نوع:

أولًا: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 165 - 167].

فالآية أشارت إلى المحبتين الأصليتين؛ الإيمانية والشركية، فالأولى هي محبة المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى المستلزمة لقصده بالتأله والخضوع وكمال الذل والطاعة، وهذه أصل الإيمان والتوحيد، وأساس الإسلام والملة، فإن صرف منها لغير الرب تبارك وتعالى شيئًا تحولت إلى المحبة الشركية، وهي أصل الشرك، وأساس الكفر بالله العظيم، وما من تنديد في الأرض، واتخاذ آلهة مع الله تعالى إلا وأساسه هذه المحبة الشركية، بل ما من عبادة لغير الله إلا وأساسها الحب لذلك المعبود، فكل عابد محب لمعبوده، والمشركون يحبون آلهتهم كما بيَّن الله ذلك بقوله:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].

وهذا التشبيه الذي في الآية فيه قولان للعلماء: الأول: إثبات محبة المشركين للأنداد كمحبتهم لله تعالى فساووا بين حبهم للآلهة وبين حبهم للرب تبارك وتعالى، هذا اختيار الزجاج ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله.

والقول الثاني: أنهم يحبون آلهتهم كحب الذين آمنوا لله، وهذا

ص: 571

قول ابن عباس وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل والفراء

(1)

، والأول أرجح

(2)

.

يقول الإمام البغوي: "قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ}؛ يعني: المشركين {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا}؛ أي: أصنامًا يعبدونها {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}؛ أي: يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}؛ أي: أثبت وأدوم على حبه من المشركين لأنهم لا يختارون على الله ما سواه"

(3)

.

ويقول الإمام ابن تيمية: "فالمشركون اتخذوا مع الله أندادًا يحبونهم كحب الله، واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله، ففيهم محبة لهم وإشراك بهم، وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به.

والمؤمنون أشد حبًا لله، فلا يعبدون إلا الله وحده، ولا يجعلون معه شيئًا يحبونه كحبه لا أنبياءه ولا غيرهم، بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله، وأخلصوا دينهم لله، وعلمو أن أحدًا لا يشفع لهم إلا بإذن الله، فأحبوا عبد الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم لحب الله،. . . فعلى المسلم أن يفرق بين محبة النصارى والمشركين ودينهم، ويتّبع أهل التوحيد والإيمان، ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان"

(4)

.

ويقول -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائله

(1)

زاد المسير لابن الجوزي (1/ 170).

(2)

انظر: تفسير البغوي (1/ 136).

(3)

المصدر نفسه (1/ 136).

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 529 - 530)، وانظر:(18/ 324 - 325)، (10/ 265)، والاستقامة (1/ 262)، وتفسير ابن كثير (1/ 203)، ويقول الإمام ابن تيمية:(فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محبًا له، ومحبته هي الأصل في ذلك". [نقلًا عن فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 82) ولم أجده فيما لدي من كتب شيخ الإسلام].

ص: 572

عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : "الحادية عشرة: أدن من اتخذ ندًا تُساوِي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر"

(1)

.

وسياق الآيات دل على أنهم -بصرف هذه المحبة لغير الله- مشركون شركًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام بدليل ما لهم من العذاب والخلود في نار جهنم

(2)

.

فمن لم يخلص في محبة الله التي هي أصل الإيمان وأشرك معه غيره كان من المشركين الذين حبطت أعمالهم وحرمت عليهم الجنة؛ ولذا حكم الله عليهم بالخلود في النار وعدم الخروج منها بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}

(3)

.

وهذه المحبة الشركية تظهر آثارها على المشركين وإن انتفوا منها وأنكروها، فهم يغضبودن لآلهتهم إذا انتهكت، ويفرحون بها ويستبشرون بذكرها، ويوالون عليها، ويعادون من أجلها

(4)

.

يقول الشيخ ابن عثيمين: "قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}؛ أي: في كيفيته ونوعه، فالنوع أدن يحب غير الله محبة عبادة، والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظِّم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظِّم الله ويغار له، فلو قيل: احلف بالله، لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند، لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر"

(5)

.

ثانيًا: قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ

(1)

كتاب التوحيد (ص 90).

(2)

وانظر: تيسير العزيز الحميد (ص 31)، وفتح المجيد (ص 76).

(3)

انظر: روضة المحبين (ص.28)، تفسير السعدي (ص 79 - 80).

(4)

انظر: مدارج السالكين (1/ 341 - 343).

(5)

القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/ 46).

ص: 573

يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 92 - 98].

بيَّن تعالى في هذه الآيات حقيقة عبادة المشركين لمعبوداتهم، وأنهم ساووا هذه المعبوات بالله تبارك وتعالى في المحبة والتعظيم والخضوع، فحكم الله عليهم بالشرك والخلود في النار بسبب هذه المحبة الشركية التي لا يبقى بعدها من الإيمان حبة خردل.

يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وقال تعالى حاكيًا عن أهل النار أنهم يقولون لأَلهتهم التي عبدت مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)}، ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما هو في المحبة والخضوع والتعظيم والخوف والرجاء، ونحو ذلك من العبادات، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، هذا حب عبادة وتأله وتعظيم؛ ولهذا ونحوه كفَّرهم الله تعالى، وأباح دماءهم وأموالهم ونساءهم لعباده المؤمنين حتى يسلموا ويكون الدين كله لله"

(1)

.

ثالثًا: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 9]، وقوله عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)} [محمد: 26]، وقوله سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 28]، وحبوط الأعمال لا يكون إلا بسبب الكفر والخروج عن الدين.

ومما يدل على أن محبة الله ورسوله أصل أصيل، وركن في الدين

(1)

مصباح الظلام (ص 37).

ص: 574

أن الله تعالى قد حكم بالكفر وحبوط الأعمال على من وُجِدَ في قلبه كراهية وبغض لشيء من الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بذلك، وعلمه بأنه من عند الله تعالى أنزله على نبيه عليه السلام، فهذا إذا كان في شيء من الدين، فكيف بمن وُجِدَ في قلبه شيء من بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض القرآن بل وبغض الرب تبارك وتعالى.

يقول الإمام الطبري: "وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [محمد: 9] يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسخطوه فكذبوا به، وقالوا: هو سحر مبين.

وقوله: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} يقول: فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وذلك عبادتهم الآلهة لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الآخرة، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيرًا، وهذا حكم الله جل جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم"

(1)

.

ويقول الإمام السمعاني: "قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}؛ أي: كرهوا نبوة محمد وما أنزله الله من القرآن"

(2)

.

فكل من أبغض شيئًا من الكتاب والسُّنَّة، عالمًا بأنه كلام الله وشرعه ودينه، فكرهه من أجل ذلك فإنه بذلك يكون قد نقض أصل المحبة؛ إذ البغض يدل على عدم الرضى والتسليم والقبول للشرع، وجميع ذلك من النفاق الأكبر المخرج عن الملة.

يقول الإمام ابن تيمية: "فقد دل الكتاب والسُّنَّة على أن من في قلبه

(1)

تفسير الطبري (26/ 46).

(2)

تفسير السمعاني (5/ 171)، وانظر: تفسير القرطبي (16/ 233)، تفسير ابن كثير (4/ 175)، روح المعاني (26/ 45)، تفسير السعدي (ص 785).

ص: 575

الكفر، وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله"

(1)

.

ويقول الإمام ابن القيم: "كل من أبغض شيئًا من نصوص الوحي ففيه من عداوة الله ورسوله بحسب ذلك، ومن أحب نصوص الوحي ففيه من ولاية الله ورسوله بحسب ذلك، وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، قال عبد الله بن مسعود:(لا يسأل أحدكم عن نفسه غير القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله)

(2)

"

(3)

.

ولزيد الإمام ابن تيمية الأمر بيانًا وتفصيلًا فيقول: "فمن اعتقد قبح ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب، أو أبغض ذلك وكرهه بحيث يتألم على فعله، ويتأذى بوجوده، ففيه من النفاق بحسب ذلك، وهو إما نفاق أكبر يخرجه من أصل الإيمان، وإما نفاق أصغر يخرجه من كماله الواجب عليه، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}. . . بل إذا علم العبد أن هذا الفعل قد أمره الله به وأحبه فاعتقد هو أن ذلك ليس مما أمر الله به، وأبغضه وكرهه فهو كافر بلا ريب"

(4)

.

ولذا عدَّ -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب بغض شيء من الدين ناقضًا من نواقض الإسلام فقال: "الخامس: من أبغض

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 107).

(2)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 388)، برقم (1097)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 10)، برقم (2)، والطبراني في الكبير (9/ 132)، برقم (8657)، والبيهقي في شعب الإيمان، فصل: في إدمان تلاوة القرآن (2/ 353)، برقم (2017)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 165)، وقال:"رواه الطبراني ورجاله ثقات". وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يضر الرجل أن لا يسأل عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم".

(3)

الصواعق المرسلة (3/ 1041)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 219).

(4)

جامع الرسائل (1/ 248).

ص: 576

شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعًا، والدليل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 9] "

(1)

.

فانعدام المحبة من القلب دليل الكراهية والبغض في القلب.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه لكلام الشيخ -المجدد- محمد بن عبد الوهاب: "ثم قال رحمه الله: ومنهم من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه؛ فالجواب: أن من لم يحب التوحيد، لم يكن موحدًا؛ لأنه هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، كما قال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فلو رضي بما رضي به الله، وعمل به لأحبه.

ولا بد من المحبة لعدم حصول الإسلام بدونها، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد،. . . وبالمحبة يترتب عليها ما تقتضيه كلمة الإخلاص من شروط التوحيد"

(2)

.

رابعًا: قوله سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43]، وقول الله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} [الأنعام: 56].

ذكر الله في هذه الآيات الهوى، وبيَّن أن اتباع هوى النفس -وهو الحب وميل النفس- كان سببًا في ضلال من ضلَّ وانحرف عن منهج الله

(1)

الرسائل الشخصية (ص 213)، وانظر: مسائل لخصها الإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 140)، ومنهاج السُّنَّة النبوية (5/ 298)، ويقول أيضًا:"واذكر قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} فإذا كانت الكراهية تحبط الورع الذي تذكر، فكيف الصدّ مع الكراهة، واليهود والنصارى فيهم أهل زهد أعظم من الورع والله أعلم". [الفتاوى (ص 51)].

(2)

الدرر السنية (2/ 207 - 208).

ص: 577

تعالى، بل هو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم، فالهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه فيرى الحق باطلًا، والباطل حقًا، وإما أن يظهر له الحق ويستبينه فيتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم، فإن الحق لا يجتمع مع اتباع الهوى أبدًا، بل هو صارف عن الحق معرفة وقصدًا.

وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، وتعظيمه والخضوع والذل له، والوقوف مع أمره ونهيه، ومحابه ومساخطه، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحبه لغير الله، فيقول ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وإلا لو كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان، وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي فطر عباده عليه، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى

(1)

.

ولذا جاء ذمه في القرآن الكريم، فلم يأت ذكره إلا في معرض الذم والتقبيح

(2)

، ومما ذكره الله تعالى في شأن الهوى واتباعه.

يقول الإمام الطبري في معنى قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} [الجاثية: 23] بعد ذكره للخلاف: "معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له الألوهة من كل شيء"

(3)

.

فكل من عَبَدَ مع الله غيره فهو في الحقيقة عَبْدٌ لهواه، بل كل ما

(1)

انظر: إغاثة اللهفان (2/ 152 - 156).

(2)

انظر: تفسير السمعاني (3/ 98)، ذم الهوى لابن الجوزي (ص 12)، روضة المحبين (ص 469)، والموافقات (2/ 170)، والاعتصام (2/ 180).

(3)

تفسير الطبري (25/ 150).

ص: 578

عصي الله به من الذنوب فإنما هو بسبب تقديم العبد هواه على أوامر الله تعالى.

ويقول الشيخ يحيى العمران في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} : "وهذه الآية نزلت في قوم هووا الأوثان فعبدوها، فأخبر الله أنه أضلهم: أي: حرمهم التوفيق والتسديد على ما سبق في علمه أنه يخلقهم ضلالًا"

(1)

.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الآية: "فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه، وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك"

(2)

.

ويقول رحمه الله: "وأما من أحب شخصًا لهواه؛ مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر، والفسوق، والعصيان، وما أكثر من يدّعي حب مشايخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله؛ فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير، وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله، وسبيل الله، وما أكثر من يحب شيوخًا، أو ملوكًا، أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله"

(3)

.

ويقول الإمام ابن القيم: "التوحيد واتباع الهوى متضادان؛ فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله

(1)

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 285).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 359)، و (10/ 260).

(3)

المصدر نفسه (11/ 520 - 521)، و (18/ 316)، وانظر:(28/ 132).

ص: 579

بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلمب أولًا. . . وتأمل قول الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون كيف تجده مطابقًا للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله، قال الله تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 43، 44] "

(1)

.

خامسًا: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24].

بيَّن سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من كانت محبته لمحبوباته أكثر من محبته لله ورسوله والجهاد في سبيله فإنه من الذين توعدهم الله تعالى بالعذاب بسبب هذه المحبة، والواجب على أهل الإيمان الحق ألا يقدِّموا على محبة الله ورسوله محبة أحد سواهما.

يقول الإمام البيهقي في معنى الآية: "فأبان بهذا أن حب الله وحب رسوله والجهاد في سبيله فرض، وأنه لا ينبغي أن يكون شيء سواه أحب إليهم منه، وبمثل ذلك جاءت السُّنَّة"

(2)

.

ويقول الإمام ابن تيمية في توضيحه لمعنى الآية: "فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب إليه من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله، فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله، والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل، والمال، والمساكن،

(1)

روضة المحبين (481 - 482).

(2)

شعب الإيمان للبيهقي (1/ 363).

ص: 580

والمتاجر، والأصحاب، والأخوان، وإلا لم يكن مؤمنًا حقًا"

(1)

.

والمقصود بالحب هو الديني الشرعي المستلزم لتقديم طاعة الله ورسوله على طاعة كل أحد، أما الحب الطبيعي فإن الإنسان مجبول عليه ولا يمكنه تركه فلا تكليف فيه كما سبق بيانه.

ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله: "المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها فكيف بمن أَثر بعضها على الله ورسوله وجهاد في سبيله، فإن قلت قد قال شيخ الإسلام: إن كثيرًا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة. قيل مراده أن كثيرًا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب إليه من الله ورسوله؛ أي: في إيثار ذلك على فعل أمر الله وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة، لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله، فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب فهو مشرك، فكيف إذا كان غير الله أحب إليه كما هو الواقع من عبَّاد القبور، فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله"

(2)

.

ولذا استدل بهذه الآية بعض أهل العلم على وجوب محبة الله ورسوله؛ لأن الله توعدهم على تفضيل محبتهم لغيره على محبته، والوعيد لا يقع إلا على فرض لازم"

(3)

.

سادسًا: قوله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإيمَانِ مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 750 - 751)، وانظر: تفسير السعدي (332)، روح المعاني (10/ 71).

(2)

تيسير العزيز الحميد (ص 391).

(3)

انظر: تاريخ الإسلام (26/ 509 - 510)، وسير أعلام النبلاء (16345 - 16346)، وطبقات الشافعية الكبرى (3/ 158).

ص: 581

أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"

(1)

.

فأما كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن هذا من الإيمان الواجب الذي فرضه الله على عباده المؤمنين، وهو أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد -محبة دينية شرعية وهي المحبة المتضمنة لأصل الحب وكماله الواجب- فيميل إلى الله ورسوله بقلبه أكثر من ميله إلى ما سواهما.

وأما محبته للمرء لا يحبه إلا من أجل الله، وبغضه للكفر وكراهيته له فإن ذلك من لوازم كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

يقول الشيخ سليمان آل الشيخ: "بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما: حبًا قلبيًا. . . فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعًا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم رَبُّه سبحانه"

(2)

.

وعدم تحقق هذه المحبة الواردة في الحديث لا يدل على انعدام أصل المحبة من القلب، لكن انعدامها تمامًا يدل على خلو القلب من العلم والتصديق والمعرفة، فإن المحبة تبع لهذه الأمور، بل المنفي في الحديث هو كمال المحبة الواجبة.

ويقول الإمام ابن تيمية: "وقد يكون مسلمًا يعبد الله كما أمر ولا يعبد غيره، ويخافه ويرجوه، ولكن لم يَخْلُص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: حلاوة الإيمان (1/ 14)، برقم (16)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/ 66)، برقم (43).

(2)

تيسير العزيز الحميد (ص 395).

ص: 582

سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يخاف الله لا يخاف غيره، وأن لا يتوكل إلا على الله، وهذه كلها من الإيمان الواجب، وليست من لوازم الإسلام،. . . وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده، وأن يكون أحب إليه مما سواهما، وبالتوكل عليه وحده، وبأن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به، فمن لم يتصف بها لم يكن من المؤمنين حقًا، وإن كان مسلمًا، وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله، وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته"

(1)

.

ويقول الإمام ابن القيم في بيان كون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما: "وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعًا ولا قدرًا، وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه، فحمله محبة غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله، وليست محبته لذلك المحبوب لذاته، بل لغرضه منه، وهذا المحبوب له مثل ولمحبته مثل، وأما محبة الله ليس لها مثل، ولا للمحبوب مثل، ولهذا حَكَّمَ الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم"

(2)

.

ويقول الإمام ابن رجب في بيان معنى الحديث: "فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطَعِمَ طعمه، فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه،

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 426 - 427).

(2)

روضة المحبين (ص 276).

ص: 583

فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِمَ من مرض الأهواء المضلة، والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي.

ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(1)

؛ لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي.

الخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته، وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها؛ لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، وكذلك من الأشخاص، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض، فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم.

الخصلة الثالثة: أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار؛ فإن علامة محبة الله ورسوله: محبة ما يحبه الله ورسوله، وكراهة ما يكرهه الله ورسوله -كما سبق-، فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به ووجد حلاوته وطعمه: أحبه وأحب ثباته ودوامه والزيادة منه، وكره مفارقته وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب: النهبى بغير إذن صاحبه وقال عبادة: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ننتهب (2/ 875)، برقم (2343)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله (1/ 76)، برقم (57)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 584

الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].

واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده، ويعزم على أن لا يلابس شيئًا منه جهده لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله، فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك -خصوصًا لمن اعتاده ثم تاب منه- فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته، ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى، وذلك يدل على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن من عصى هواه كان محمودًا عند الله عز وجل"

(1)

.

سابعًا: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"

(2)

.

فهذا الحديث نفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق الإيمان عمن أحب غيره أكثر من محبته عليه السلام، والمقصود كمال الإيمان لا أصل الإيمان؛ لأنه باق ما بقي أصل الحب في القلب، كما أن المقصود بالمحبة هي المحبة الشرعية الدينية لا المحبة الطبيعية، وهي محبة تابعة لمحبة الرب تعالى إذ هي الأصل لجميع المحاب، والحديث دلَّ على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان الواجب لا ينفى إلا لانتفاء واجب أو فعل محرم.

يقول الإمام ابن رجب: "محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين

(1)

انظر: فتح الباري لابن رجب، كتاب الإيمان (1/ 50 - 58).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، (1/ 14)، برقم (15)، ومسلم في صحيحه، باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، (1/ 67)، برقم (44) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 585

والأموال والمساكن، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة، وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق: أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدَّم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلًا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء، وإن قدَّم على طاعته وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا: دلَّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه.

وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل.

هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات، فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين، المتقربين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها"

(1)

.

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "قوله: (لا يؤمن أحدكم): أي: الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: الآن

(1)

انظر: فتح الباري لابن رجب، كتاب الإيمان (1/ 48 - 49).

ص: 586

يا عمر""

(1)

.

فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض للعقوبة فقد صدق، وإنه أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قاله شيخ الإسلام رحمه الله

(2)

.

وكما سبق فإن المقصود بالمحبة في الحديث هي المحبة الشرعية الدينية الاختيارية لا المحبة الطبيعية، ولذا نقل الإمام النووي في شرح الحديث عن بعض أهل العلم أنه قال:"لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار؛ لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه، قال فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تُفْنِي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك"

(3)

.

ويقول الإمام ابن الجوزي في إيضاح معنى الحديث: "اعلم أن المراد بهذه المحبة: المحبة الشرعية فإنه يجب على المسلمين أن يقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأولادهم، وليس المراد بهذا المحبة الطبيعية فإنهم قد فروا عنه في القتال وتركوه، وكل ذلك لإيثار حب النفس"

(4)

.

وقال رحمه الله أيضًا: "ففي الأول أن عمر قال يا رسول الله: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك": إن قال قائل: كيف كلفه بما لا يدخل تحت طوقه فإن المحبة في الجملة ليست إلى الإنسان، ثم إن حبه لنفسه أشد من حبه لغيرها ولا يمكنه تغيير ذلك، فالجواب: إنه إنما كلفه

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (6/ 2445)، برقم (6257).

(2)

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 274).

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 15)، وانظر: طرح التثريب في شرح التقريب (6/ 195).

(4)

كشف المشكل (3/ 231).

ص: 587