الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول أبو عبد اللَّه القرطبي في شأن حرص الشارع على الأديان: "وأما المحافظة على الأديان وصيانتها فهو المقصود الأعظم، والمستند الأعصم، فحرم الكفر والفسوق والعصيان، وأوجب الطاعات والإيمان، وأوجب قتل الكافر وتوعده بالعذاب الدائم والهوان، ولا يخفى على من معه أدنى مسكة، إذا تأمل بأدنى فكرة، أن الإيمان باللّه رأس المصالح والخيرات، والكفر رأس المقابح والهلكات، ولأجل وجوب الإيمان وتحريم الكفران أرسل اللَّه الرسل وأنزل الكتب"
(1)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "فإنهم ضادوا الرسول، إذ بعث بإصلاح العقول والأديان، وتكميل نوع الإنسان وحرم ما يغير العقل من جميع الألوان"
(2)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
لهذه القاعدة فوائد عدة يمكن الاستفادة منها، فمن هذه الفوائد ما يلي:
أولًا: استشعار نعمة اللَّه تعالى بإكماله لهذا الدين، والفرح بذلك، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]، فما من نعمة بعد الإسلام والإيمان، وبعثة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من نعمة إكمال اللَّه لدين الإسلام، وتتميمه وصيانته والمحافظة عليه، كيف لا وقد قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]؛ ولذا أدرك اليهود -عليهم لعائن اللَّه- قدر هذه النعمة، فحسدوا المسلمين عليها، كما جاء في البخاري عن عمر بن
(1)
الإعلام بما في دين النصارى، لأبي عبد اللَّه القرطبي (ص 297 - 298).
(2)
مجموع الفتاوى (32/ 255).
الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة)
(1)
.
وما من شكَّ أن توحيد اللَّه بالعبادة، وإفراده بالتعلق، وتصفية القلوب بتعبيدها لخالقها، وتخليص العقول من الذل والخضوع والتعلق بغير اللَّه تعالى هو من أعظم النعم التي كمل اللَّه بها شريعة الإسلام، بل في شريعة الإسلام من إظهار هذا التوحيد، وتحقيقه وتوطيده في قلوب العباد ما لا يعرف مثله في ديانة من الديانات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلما بعث اللَّه محمدًا أظهر به توحيد اللَّه، وعبادته وحده لا شريك له ظهورًا لم يعرف في أمة من الأمم، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل .... ما لم يكن ظاهرًا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم"
(2)
.
ثانيًا: أن علم المسلم بتكميل اللَّه تعالى للأديان والعقول يجعله عزيزًا قويًا بربه تبارك وتعالى، لا يخاف ولا يتذلل ولا يخضع إلا لفاطر السموات والأرض، ولا يضعف تحت تأثير الخرافات والخزعبلات؛ إذ كل ما سوى اللَّه لا يخرج عن أمره وسلطانه، بل هو ضعيف ذليل لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن يملكه لغيره، كما أنه عزيز مكرم بهذا العقل الذي وهبه اللَّه إياه، وميَّزه به عن سائر الحيوان، يدرك به ما ينفعه، ويتوصل به إلى أعلى درجات الرقي والتقدم فيما يصلح دينه ودنياه، ويحفظه عن كل ما فيه إهدار لقيمته، أو تحقير من شأنه ومنزلته،
(1)
صحيح البخاري (1/ 25)، رقم (45).
(2)
الجواب الصحيح (5/ 95 - 96).
فلا يعتقد في كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، فلا نافع له سوى ربه ومعبوده تبارك وتعالى.
يقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي
(1)
: "وحيث كان الشرك قبيحًا عقلًا وذوقًا وإنصافًا وعدلًا، إذ هو إهدار لكرامة الإنسان التي كرمه اللَّه بها، وإذلال له حيث يتدنى ويتذلل لمخلوق من ماء مهين مثله، يخضع بين يديه، ويتضرع لديه راجيًا منه وخائفًا كما فيه إهدار لقيمة العقل، العقل الذي شرَّف اللَّه به صاحبه، وجعله مكرمًا ومميزًا به على غيره، وبه يدرك العلوم ويخترع الصنائع ويسخر الطبيعة، ويستخرج منها ما يكون به سيدًا عليها، فهل يليق بالإنسان الذي وهبه اللَّه هذه الصفات أن يسقط نفسه ويذلها لقبر، أو لشجر، أو لكوكب، أو لنار، أو لصنمٍ، أو لبقر؟ - الجواب: لا يليق به، والمراد من الإنسان أن يكون شريفًا، مطاعًا، عزيزًا، أبيًا، لا مهانًا وذليلًا ومستعبدًا للأوهام، والظنون،
(1)
هو: أحمد بن حجر بن محمد بن حجر بن أحمد بن حجر بن طامي بن حجر بن سند بن سعدون آل بوطامي البنعلي، من قبيلة بني سلم، ولد عام 1335 هـ، الموافق 1915 م، درس القرآن الكريم طفلًا، وحفظ الكثير من المتون في مختلف العلوم، درس على الشيخ أحمد نور بن عبد اللَّه، والشيخ أحمد بن علي العرفج، وعبد العزيز بن صالح العلجي، وقرأ على شيخ من السودان من بلدة سنار (مصطلح الحديث)، كان شاعرًا أديبًا ألّف الشعر في المسائل العلمية وخاصة العقيدة، بدأ ممارسة القضاء في رأس الخيمة، ثم عين قاضيًا رسميًا للبلاد، ثم تلقى دعوة من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية ليكون مدرسًا في معهد إمام الدعوة بالرياض، وفي عام 1958 م عرض عليه أن يتولى القضاء في قطر فهاجر إلى قطر واستقر بها، ومارس التدريس إلى جانب ممارسته للقضاء، من مؤلفاته: جوهرة الفرائض (منظومة)، والدرر السنية في عقد أهل السُّنَّة المرضية (منظومة)، وتطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، والشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، وغيرها كثير، توفي يوم الثلاثاء الخامس من جمادى الأولى سنة 1423 هـ الموافق 14/ 6/ 2002 م عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عامًا. [ترجمته في: علماء فقدناهم، لإدارة الدعوة والإرشاد بوزارة الشؤون الإسلامية بدولة قطر].
والخيالات، بل المطلوب منه أن يعبد خالقه الذي وهبه تلك الصفات السنية، وأهّله لتلك المراتب العلية، وأن يتذلل بين يديه يرجو رحمته ويخاف عذابه"
(1)
.
ثالثًا: دلت القاعدة على صيانة الشرع وإصلاحه، وتكميله لأديان الخلق وعقولهم، وفي هذا أعظم الدلالة على اتفاق الشرع والعقل وتعاضدهما وعدم اختلافهما وتناقضهما، فالعقل لا يهتدي بدون الشرع، كما أن الشرع لا يفهم المقصود من نصوصه إلا بالعقل.
يقول العلامة ابن القيم: "فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حجته على عباده فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا، فالكتاب المنزل والعقل المدرك حجة اللَّه على خلقه، وكتابه هو الحجة العظمى فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا"
(2)
.
رابعًا: اعلم أن تكميل اللَّه لعقول الخلق ليس تكميلًا مطلقًا، بحيث تستقل عن الشرع فتدرك كل شيء، بل هي لا تزال تحت حجر الشرع، فهو الآمر والناهي والحاكم عليها، وإن كان الشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل كل ما جاء به فالعقل السليم يؤيده، ويصدقه، ويؤمن به، والمقصود أنه ليس في مقدور العقول إدراك كل شيء، فوجب رجوعها إلى الشرع، وانقيادها له.
فالتكميل المقصود هو معرفتها وإدراكها لكل ما ينفعها في أمر دينها ودنياها، وصيانتها والمحافظة عليها، لكي تعرف الخير والهدى فتتبعه، وتعلم الشر والضلال فتجتنبه، وإلا فلا تزال هذه العقول قاصرة عن محرفة الكثير من عجائب اللَّه، وحِكَمِه في مخلوقاته وأمره وشرعه، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
(1)
تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات (ص 56).
(2)
الصواعق المرسلة (2/ 458).
يقول الإمام ابن تيمية: "وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية، والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسُّنَّة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه اللَّه بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام، وأن يعلم أن عقول العالمين، ومعارفهم، وعلومهم، وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته"
(2)
.
بل إن عقول جميع الخلائق لو ركبت، وجعلت عقلًا واحدًا، ثم تأمل الإنسان بهذا العقل الواحد في عجائب حكمة اللَّه تعالى، في أقل الأشياء، لما أدرك منها إلا القليل
(3)
.
خامسًا: كما أن العقول ليس لها الكمال المطلق بحيث تحكم في كل شيء، كذلك يجب اعتبارها وعدم إهدارها وإلغائها عن الفهم عن اللَّه تعالى؛ إذ هي مناط التكليف وعليها يكون الثواب والعقاب، والذي يلغي عقله فلا يستعمله في الوصول إلى الحق يكون من جملة البهائم وفي عداد الأنعام؛ ولذا نعى اللَّه في كتابه حال الكافرين، حيث عطلوا عقولهم عن التفكر في آيات اللَّه القرآنية، وآياته الكونية، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحق. قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
والعقل إذا لم يجعل مطية إلى الوصول إلى فهم كلام اللَّه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والتدبر في خلق اللَّه وبديع صنعته، فإن وجوده كعدمه.
فيجب تسخير العقل في الوصول إلى الحق، والمحافظة عليه من
(1)
منهاج السُّنَّة النبوية (2/ 110).
(2)
شفاء العليل (ص 187).
(3)
انظر: التفسير الكبير (19/ 102).
كل فكر دخيل، أو مذهب هدام، أو نحلة باطلة، تُغَيِّرُ مفهوماتِه الشرعية.
سادسًا: أن تكميل أديان الخلق وعقولهم يكون بمحاربة جميع العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة، وما يتبع ذلك من رد شبه أهل الباطل التي تؤدي إلى فتنة الناس في أديانهم وتفسد عليهم عقولهم؛ ولذا غضب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة من التوراة
(1)
في يد عمر رضي الله عنه؛ لما يؤدي إليه ذلك من إفساد العقل السليم، واختلاط الحق بالباطل، وعليه فمن أعظم الواجبات، وأجل الفروض محاربة العقائد الفاسدة، والأفكار المنحرفة حماية للأديان وصيانة للعقول"
(2)
.
يقول الدكتور خالد الحازمي: "ومما يفسد العقل فكرًا وتصورًا، إثارة الشبه بيَّن الناس، وإشغالهم، وافتتانهم بها، وكذا الترويج للشعوذة والكهانة، والنظريات الباطلة في التربية، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، ونشر اللهو عن طريق وسائل متعددة: كالكتاب، والمجلة، والصحيفة، والمسرح، والقصص، والسينما، والرائي، والمذياع، وغير ذلك من الوسائل ذات التأثير الفاعل، وهذه المفسدات العقلية تنحو بفكر الإنسان منحًى يبعده عن مساره الصحيح"
(3)
.
(1)
يشير إلى ما خرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 387)، برقم (15195)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فغضب فقال:"أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني"، والحديث سنده ضعيف من أجل مجالد بن سعيد الهمداني، ولكن له شواهد يتقوى بها إلى درجة الحسن. [انظر: إرواء الغليل حديث رقم (1589)].
(2)
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، للدكتور اليوبي (ص 243 - 244).
(3)
بحث بعنوان: (التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية) للدكتور خالد الحازمي، عدد (116)، (ص 483) ضمن مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.