الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
قاعدة الشرك الأصغر كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة
وفيه مسائل:
*
المسألة الأولى * معنى القاعدة
هذه القاعدة بمثابة الضابط والحد للشرك الأصغر، إذ فيها بيان حقيقته الشرعية، وطبيعة وجوده، ومدى تعلقه وارتباطه بالشرك الأكبر، وبها يحصل التفريق بين ما هو داخل في الشرك الأكبر أو خارج عنه، ولا يخفى أهمية الحدود للأسماء والألفاظ الشرعية، إذ بها يعرف حقيقة ما أراده الله تبارك وتعالى من عباده فيما أنزله عليهم من الوحي، كما أن الجهل بها، وإهمالها وعدم حفظها له خطورته العظيمة في تحريف النصوص، وانقلاب المفاهيم، مما يتسبب في انحراف المسلمين وتخبطهم وضلالهم وبعدهم عن الدين الحق الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام ابن تيمية: "والحدود: هي حدود الأسماء المذكورة
فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة؛ مثل حدود الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والمؤمن، والكافر، والزاني، والسارق، والشارب، وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه، وما تستحقه مسميات تلك الأسماء من الأحكام"
(1)
.
والشرك الأصغر من الأسماء الشرعية التي جاء ذكرها في السُّنَّة النبوية، وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبًا في حديث محمود بن لبيد
(2)
.
والقاعدة عرَّفت الشرك الأصغر وحدته بعدة أمور هي كما يلي:
1 -
كونه وسيلة وذريعة وطريقًا إلى الشرك الأكبر.
2 -
أنه يتنوع فيشمل إرادات القلوب وأعماله، وأقوال اللسان وأفعال الجوارح.
3 -
أن لا تصل تلك الإرادات والأقوال والأفعال إلى رتبة عبادة غيره سبحانه وتعالى، والمقصود بذلك أن تصرف الإرادات والأقوال والأفعال المختصة بالله تعالى للمخلوق، فيكون هناك نوع من التنديد، ولكن ليست بنفس الطريقة التي تصرف بها للرب تبارك وتعالى، وعليه فإنها لا تنافي التوحيد منافاة مطلقة، وإن كان فيها نوع منافاة، لكنها لا تتضمن الاعتقاد الشركي الذي يخرج به الإنسان عن ملة الإسلام.
وقبل الخوض في تفاصيل معنى القاعدة أتناول بعض التعاريف والحدود التي وضعها أهل العلم لبيان حقيقة الشرك الأصغر وضابطه، ومن ثم مقارنتها بقاعدتنا هذه.
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (ص 146 - 147).
(2)
هو: محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع بن امرئ القيس بن الأوسي الأنصاري الأشهلي أبو نعيم المدني، وأمه أم منظور بنت محمد بن مسلمة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث ولم تصح له رؤية ولا سماع منه، وسمع من عمر وكان ثقة قليل الحديث، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين. [ترجمته في: تهذيب التهذيب (10/ 59)، وسير أعلام النبلاء (3/ 485)].
عرَّفه الراغب بقوله: "الشرك الصغير: وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق
…
ولفظ الشرك من الألفاظ المشتركة"
(1)
.
وبين الشيخ سليمان آل الشيخ معنى الشرك الأصغر، معرَّفًا بالحد والمثال، ومستخلصًا له من كلام ابن القيم وغيره من أهل العلم فقال:"الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة؛ بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة، فله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ؛ كالحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشئت، وما لي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ونحوه، وقد يكون ذلك شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده"
(2)
.
وعرَّفه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بقوله: "وأما الشرك الأصغر: فهو ما ثبت بالنصوص من الكتاب أو السُّنَّة تسميته شركًا، ولكنه ليس من جنس الشرك الأكبر؛ كالرياء في بعض الأعمال، والحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشاء فلان، ونحو ذلك"
(3)
.
وعرَّفه الشيخ العثيمين رحمه الله بقوله: "الشرك الأصغر وهو: كل عمل قولي، أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك، ولكنه لا يخرج من الملة"
(4)
.
وقيل: "هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركًا"
(5)
.
(1)
المفردات في غريب القرآن (ص 260).
(2)
تيسيير العزيز الحميد (ص 35).
(3)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (3/ 289).
(4)
الأصول الثلاثة، لابن عثيمين (ص 42)، وفتاوى مهمة (ص 28).
(5)
فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 748).
وقيل: "هو تسوية غير الله بالله في هيئة العمل، وأقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، وقوله: اللَّهُمَّ اغفر لي إن شئت، وقوله عبد الحارث ونحو ذلك"
(1)
.
وجاء في تعريف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية: "أما الشرك الأصغر: فكل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركًا، كالحلف بغير الله، فإنه مظنة للانحدار إلى الشرك الأكبر"
(2)
.
هذه بعض التعاريف والحدود لمعنى الشرك الأصغر، وبعد التأمل فيها، والنظر فيما ورد من أدلة ونصوص متعلقة بالشرك الأصغر، وجدت أن تعريفات أهل العلم اعتمدت على عدة مرتكزات وضوابط لمعنى الشرك الأصغر أذكرها فيما يلي:
أولًا: أن تأتي النصوص بوصفه وتسميته شركًا، مع ورود الأدلة القاطعة بعدم إرادة الشرك الأكبر.
ثانيًا: أن يشتمل على تسوية بين الله وغيره لا تبلغ درجة العبادة.
ثالثًا: ما كان فيه تعلُّق بغير الله؛ سواء عن طريق المحبة، أو الخوف، أو الرجاء، أو التوكل والاعتماد على غيره تعالى، بحيث لا يصل إلى حد التعلق الشركي المخرج عن الملة.
رابعًا: ما كان فيه تشريك واقتران وتنديد بين الله وغيره، بحيث لا يبلغ درجة التنديد الأعظم.
خامسًا: كونه وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر.
وجميع هذه الضوابط عدا الأخير منها موضع اتفاق بين جمهور
(1)
المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية (ص 126 - 127).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/ 748).
أهل العلم؛ إذ لا يكاد يخلو نوع من أنواع الشرك الأصغر منها، أو من بعضها، ولا يشترط اجتماعها في كل نوع.
أما الضابط الخامس باعتبار كونه وسيلة وذريعة إلى الشرك الأكبر، وهو ما جاء التنصيص عليه في القاعدة، وذكره بعض أهل العلم فهو من أوسع الضوابط لمعرفة الشرك الأصغر؛ إذ يدخل في ذلك أشياء كثيرة من البدع والمعاصي، وبناء عليه فإنك تجد تعبيرات أهل العلم قد اختلفت في وصف بعض البدع؛ كالغلو في مدح الأنبياء والصالحين، وبناء الأضرحة والقباب على قبورهم، وتحري الدعاء والعبادة عندها؛ فالبعض جعلها من الشرك الأصغر، وبعضهم عبَّر عنها بأنها من وسائل الشرك وأسبابه وشوائبه.
يقول -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وأما المسائل التي ذكر في الجنائز؛ من لمس القبر، والصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء، أو كذا وكذا فهذا أنواع؛ أما بناء القباب عليها فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء فكذاك لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك"
(1)
.
فسماها رحمه الله أسبابًا للشرك، ولم يتعرض لكونها من الشرك الأصغر أم لا.
والأصل أن يقتصر في معنى الشرك الأصغر على ما سبق من ضوابط من كونه قد وردت تسميته شركًا في النصوص الشرعية، أو أن حقيقته قد تضمنت تسوية بين الله وخلقه، أو استلزم تعلقًا قلبيًا بغيره سبحانه، أو اقترن بالفعل أو القول تشريكًا أو تنديدًا شريطة أن لا يصل في جميع ذلك إلى حد العبادة أو الاعتقاد المؤدي إلى الشرك الأكبر،
(1)
الفتاوى، للإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 70).
وكل ما ذكر من ضوابط للشرك الأصغر إذا وجدت كانت من أكبر الوسائل، وأقوى الذرائع المؤدية إلى الشرك الأكبر.
يقول الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-: "فالرسول نهى عن الصلاة عند القبور، ونهى عن الدعاء عند القبور، ونهى عن البناء على القبور، ونهى عن العكوف عند القبور، واتخاذ القبور عيدًا، إلى غير ذلك، كل هذا من الوسائل التي تُفضي إلى الشرك، وهي ليست شركًا في نفسها، بل قد تكون مشروعة في الأصل، ولكنها تؤدي إلى الشرك بالله عز وجل، ولذلك منعها صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
أما كون الشرك الأصغر من وسائل الشرك الأكبر فمما لا شك فيه، ولكن ليست كل وسيلة وسبب للشرك الأكبر نسميه شركًا أصغر؛ كالبدع والمعاصي، وغالب أهل العلم كما سبق يطلق عليها: أسباب الشرك، ووسائله وشوائبه
(2)
.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد يدخلها أحيانًا في عموم الإشراك بسبب طاعة الإنسان لهواه، أو بطاعته الشيطان، فيكون عابدًا لهواه وللشيطان، أو لأن تجويز واستحباب مثل هذه البدع؛ كالعبادة عند القبور يدخل فيمن شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
يقول الإمام ابن تيمية في مسألة دعاء الله عند القبور: "وهذا قد دل عليه كتاب الله في مواضع مثل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر، ولا وجوبه، فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ
(1)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 310).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 343)، و (27/ 120)، و (27/ 137)، و (27/ 145).
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا؛ لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله"
(1)
.
بل اعتبر جميع المعاصي والذنوب داخلة في عموم الإشراك بطاعة الشيطان، وأنها من شعب الكفر والشرك.
يقول الإمام ابن تيمية في شأن عبادة الشيطان: "ولهذا لم يخلص من الشيطان إلا المخلصون لله كما قال تعالى عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39 - 20]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100]، فإذا كان الشيطان ليس له سلطان إلا على من أشرك به، فكل من أطاع الشيطان في معصية الله فقد تسلط الشيطان عليه، وصار فيه من الشرك بالشيطان بقدر ذلك"
(2)
.
ويقول أيضًا: "فجميع ما نهى الله عنه هو من شعب الكفر وفروعه، كما أن كل ما أمر الله به هو من الإيمان والإخلاص لدين الله؛
…
لكن قد يكون ذلك شركًا أكبر، وقد يكون شركًا أصغر بحسب ما يقترن به من الإيمان، فمتى اقترن بما نهي الله عنه الإيمان لتحريمه، وبغضه، وخوف العقاب، ورجاء الرحمة لم يكن شركًا أكبر، وأما إن اتخذ الإنسان ما يهواه إلهًا من دون الله، وأحبه كحب الله، فهذا شرك أكبر،
(1)
اقتضاء الصراط لمخالفة أصحاب الجحيم (ص 340).
(2)
قاعدة في المحبة، لابن تيمية (ص 291)، ضمن جامع الرسائل/ المجموعة الثانية.