الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعبودات واسطة بينهم وبين الله تعالى، والحاصل أن مجرد اعتقاد أن هناك واسطة بين الله تعالى وبين عباده في شأن عباداتهم وتوجهاتهم إليه سبحانه شرخ مخرج عن الدين.
والمقصود أن صرف العبادة لغير الله تعالى شرك أكبر سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهًا للعالم وخالقًا للكون، أو اعتقد أن عبادته تقرّبه إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام
(1)
.
يقول -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "واعلم أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة إشراكهم أنهم يدعون الله، ويدعون معه الأصنام والصالحين، مثل عيسى وأمه والملائكة، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وهم يقرون أن الله سبحانه هو النافع الضار المدبر كما ذكر الله عنهم"
(2)
.
*
المسألة الثانية * أدلة القاعدة
المتدبّر لكتاب الله تعالى يجد تقرير معنى القاعدة في كثير من آيات القرآن المجيد، وما ذاك إلا لعظمها وأهميتها، إذ هي من أعظم المسائل، بل هي أعظم مسألة خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، واستوجبوا بذلك سفك دماءهم، واستحلال أموالهم.
يقول الشيخ محمود شكري الألوسي في شرحه لمسائل الجاهلية للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "المسألة الأولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته، ويرون ذلك من
(1)
انظر: التفسير الكبير (14/ 182).
(2)
مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان (ص 398 - 399).
تعظيم الصالحين الذي يحبه الله، ويريدون بذلك شفاعتهم عند الله؛ لظنهم أنهم يحبون ذلك
…
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بالإخلاص، وأخبرهم أنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه، وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وهذه المسألة هي الدين كله، ولأجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد"
(1)
.
وفيما يلي أذكر بعض الأدلة الدالة على صحة القاعدة:
بيَّن الله تعالى ذكره في هذه الآية صفة عبادة المشركين، لأوثانهم، وأنهم تجاوزوا الله تعالى إلى عبادة غيره مع عبادتهم له سبحانه، فأشركوا معبوداتهم مع الله تعالى في العبادة، مع كونها لا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، معتقدين وقاصدين بتلك العبادة التقرّب إلى الله تعالى، وحصول الشفاعة عنده عز وجل، فأبطل سبحانه قولهم بأنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعًا يشفع بدون إذنه ورضاه.
يقول الإمام الطبري في تأويل الآية: "يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله
…
وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما، وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر"
(2)
.
(1)
مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، للألوسي (ص 4 - 5).
(2)
تفسير الطبري (11/ 98)، وانظر: فتح القدير (2/ 432).
ويقول الرازي في معنى الآية: "فاعلم أن من الناس من قال: إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى، فقالوا: ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى، بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى"
(1)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18] "
(2)
.
ويقول الشيخ السعدي في بيان معنى الآية: "أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى مبطلًا لهذا القول: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: الله تعالى هو العالم الذي أحاط علمًا بجميع ما في السموات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه"
(3)
.
ثانيًا: قوله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزمر: 3].
دلت الآية الكريمة على أن الله تعالى لا يقبل دينًا إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأن الذين أشركوا في عبادة الله تعالى قد اتخذوا من دونه أولياء يتولونهم بصرف العبادة لهم والتوجه إليهم، مع اعترافهم بأنهم
(1)
التفسير الكبير (17/ 49).
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 155).
(3)
تفسير السعدي (ص 360).
لم يعبدوهم إلا من أجل أن يقربوهم إلى الله زلفى، فكان عذرهم هذا هو عين الشرك بالله تعالى.
يقول الإمام الطبري في تأويل الآية: "لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السماوات وما في الأرض مع السماوات والأرض ملكًا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئًا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه، والشفاعة لمن يشفع له من رسلي، وأوليائي، وأهل طاعتي"
(1)
.
ويقول الإمام الشوكاني: "فالتوحيد هو دين العالم أوله وآخره وسابقه ولاحقه ومن خالف في ذلك فجعل لله عز وجل شريكًا، وَعَبَدَ الأصنام فإنه كما أرشد إليه القرآن حكاية عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مقر بأنه إيمان، وإنما جعل الشريك وصلة إلى الرب سبحانه، ووسيلة إلى التقريب إليه"
(2)
.
ويقول الشيخ الشنقيطي: "ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده بيّن شبهة الكفار التي احتجوا بها للإشراك به تعالى في قوله تعالى هنا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى، والزلفى القرابة"
(3)
.
ثالثًا: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)} [الأحقاف: 28].
(1)
تفسير الطبري (3/ 8).
(2)
إرشادات الثقات إلى اتفاق الشرائع (ص 5).
(3)
أضواء البيان (6/ 352).
يقول الإمام السمعاني: "وقوله: {قُرْبَانًا} إنما قال ذلك لأنهم كانوا يقولون إن عبادتنا لها تقربنا إلى الله"
(1)
.
ويقول الإمام الطبري: "فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم، وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها فيما زعموا إلى ربهم منا، إذ جاءهم بأسنا فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون، وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه، يقول لهم: لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئًا، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها لتقربكم إلى الله زلفى، لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها"
(2)
.
ويقول الرازي في بيان معنى الآية: "ثم قال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}، القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ أي: اتخذوهم شفعاء متقربًا بهم إلى الله حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} "
(3)
.
ويقول أبو السعود في تفسير الآية: "فهلا نصرهم وخلصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة حال كونها متقربًا بها إلى الله تعالى، حيث كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، هؤلاء شفعاؤنا عند الله"
(4)
.
(1)
تفسير السمعاني (5/ 161).
(2)
تفسير الطبري (26/ 29)، وانظر: تفسير القرطبي (15/ 233)، وفتح القدير، للشوكاني (4/ 449)، وتفسير أبي ابن زمنين (4/ 230).
(3)
التفسير الكبير (28/ 26).
(4)
تفسير أبو السعود (8/ 87).