الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في شرحه لكتاب "التوحيد": "وقد تقرر في القواعد الشرعية، وأجمع عليه المحققون: أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وإلى المحرمات، أمر واجب، لأن الشريعة جاءت بسد أصول المحرمات، وسد الذرائع إليها، فيجب أن يغلق كل باب من أبواب الشرك بالله"
(1)
.
*
المسألة الخامسة* فوائد القاعدة وتطبيقاتها
قاعدة سد الذرائع من القواعد العظيمة التي يجب اعتبارها ومراعاتها، لا سيما في جانب التوحيد، وفوائد هذه القاعدة لا تكاد تحصر، واستعمالها لا ينتهي؛ وذلك لصلاحيتها لكل زمان، ودخولها في جميع القضايا الطارئة التي تكون في نفسها مباحة وجائزة ولكنها تؤدي إلى شر وفساد، وفيما يأتي بعض الفوائد المستفادة من هذه القاعدة:
أولًا: بتأمل أفراد القاعدة وجزئياتها وفرعياتها، سواء العقدية أو الفقهية، تتبيّن عظمة هذا الدين، وموافقته للعقول الصحيحة، والأفهام السليمة، وبعده عن المتناقضات، إضافة إلى ما اشتملت عليه أحكامه من الحكم الجليلة، بمراعاة المقاصد، وما يتبعها من تقدير المصالح والمفاسد، ومن عرف مقاصد الشرع في سد الذرائع المفضية إلى الشر والفساد ازداد يقينه، وقوي إيمانه، بكمال هذه الشريعة السمحاء التي أنعم الله بها على أمة الإسلام على يد أحب الخلق إليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام
(2)
.
يقول الإمام ابن القيم: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 265).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 135).
بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرَّم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده، أو رعيته، أو أهل بيته، من شيء ثم أباح لهم الطرق، والأسباب، والذرائع الموصلة إليه، لَعُدَّ متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة، التي هي في أعلى درجات الحكمة، والمصلحة، والكمال، ومن تأمل مصادرها، ومواردها، علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرَّمها، ونهى عنها"
(1)
.
ثانيًا: أن الذرائع حكمها بحسب المتذرع إليه؛ فإن كان المتذرع إليه شرًا ومفسدة كانت الذريعة شرًّا وفسادًا وينهى عنها حينئذٍ، وإن كان المتذرع إليه جائزًا أو مشروعًا كانت الذريعة بحسب ذلك، فتسد الذرائع التي تؤدي إلى الشر والفساد بكل صوره وألوانه، وتفتح الذريعة التي توصل إلى الجائز أو المشروع، فقد يكون فعل الذريعة واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا بحسب مرتبة المتذرّع إليه
(2)
.
(1)
إعلام الموقعين (3/ 135).
(2)
السيل الجرار للشوكاني (2/ 119).
يقول الإمام الشاطبي: "الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه، ومنه ما ثبت في "الصحيح" من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"، قالوا يا رسول الله: وهل يسب الرجل والديه، قال: "نعم؛ يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه" فجعل سب الرجل لولدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه، حتى ترجمه عنها بقوله: (أن يسب الرجل والديه) ولم يقل: (أن يسب الرجل والدي من يسب والديه) أو نحو ذلك، وهو غاية معنى ما نحن فيه"
(1)
.
ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "والذرائع نوعان:
أ- ذرائع إلى أمور مطلوبة، فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ب- ذرائع إلى أمور مذمومة؛ فهذه تسد
…
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها؛ يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع"
(2)
.
ثالثًا: ما نهي عنه من الأمور التي هي مباحة في الأصل أو مشروعة سدًّا للذريعة فإنه يباح وتفعل الذريعة إذا انتفت المفسدة، أو كان في فعلها مصلحة راجحة فاقت تلك المفسدة، ولا شك أن مرجع النظر في هذه الأمور للراسخين من أهل العلم.
يقول الإمام ابن تيمية: "فالنهى عن الصلاة فيها -أي: في أوقات النهي- هو من باب سد الذرائع؛ لئلا يتشبه بالمشركين فيفضي إلى الشرك، وما كان منهيًا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تُفَوت المصلحة لغير مفسدة راجحة، والصلاة لله فيه ليس فيها مفسدة، بل هي ذريعة إلى المفسدة، فإذا
(1)
الاعتصام (2/ 34).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 209).
تعذرت المصلحة إلا بالذريعة شرعت، واكتفى منها إذا لم يكن هناك مصلحة، وهو التطوع المطلق، فإنه ليس في المنع منه مفسدة، ولا تفويت مصلحة؛ لإمكان فعله في سائر الأوقات"
(1)
.
وذلك كالنهي أول الإسلام عن زيارة القبور سدًّا لذريعة الشرك، فلما استقر التوحيد في نفوسهم، وقوي الإيمان في قلوبهم أذن في زيارتها، وهذا يدل على أن النهي كان بسبب الخوف من الفتنة بالقبور أول الأمر، ولما كان يحصل عندها من الأقوال المنكرة، والأفعال الشنيعة، فسدت ذريعة ذلك بمنع الزيارة
(2)
.
يقول الإمام ابن القيم: "بل كان في أول الإسلام قد نهى عن زيارة القبور؛ صيانة لجانب التوحيد، وقطعًا للتعلق بالأموات، وسدًّا لذريعة الشرك التي أصلها تعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن عباس، فلما تمكن التوحيد من قلوبهم، واضمحل الشرك، واستقر الدين أذن في زيارة يحصل بها مزيد الإيمان، وتذكير ما خلق العبد له من دار البقاء، فأذن حينئذٍ فيها، فكان نهيه عنها للمصلحة، وأذنه فيها للمصلحة.
وأما النساء؛ فإن هذه المصلحة وإن كانت مطلوبة منهن لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام، من فتنة الأحياء، وإيذاء الأموات، والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا بمنعهن منها أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة، والشريعة مبناهما على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به، فمنعهن من الزيارة من محاسن الشريعة"
(3)
.
وليس في ترك الزيارة المتذرع بها إلى الشرك أو الفساد أدنى
(1)
مجموع الفتاوى (23/ 214).
(2)
انظر: المصدر نفسه (27/ 376)، وزاد المعاد (3/ 608).
(3)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/ 44)، وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 200).
غضاضة، ولو كانت قربة وطاعة؛ لأن مفسدتها راجحة، وليس فيها مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة، أو الراجحة، وهذه ليس فيه مصلحة راجحة، بل إما أن يكون مفسدة محضة، أو مفسدة راجحة وكلاهما غير مشروع
(1)
.
يقول الإمام ابن عبد الهادي: "وكيف يقاس على الزيارة التي لا يتعلق بها مفسدة البتة، بل هي مصلحة محضة الزيارة التي يخشى بها أعظم الفتنة، وتتخذ وسيلة إلى ما يبغضه المزور، ويكرهه، ويمقت فاعله، حتى لو كانمت الزيارة من أفضل القربات، وكانمت ذريعة ووسيلة إلى ما يكرهه المزور ويبغضه لنهي عنها طاعة له، وتعظيمًا، ومحبة، وتوقيرًا، وسعيًا في محابه، كما نهي عن الصلاة التي هي قربة إلى الله في الأوقات المخصوصة؛ لما يستلزمه من حصول ما يكرهه الله، ويبغضه، ولم يكن في ذلك إخلال بتعظيم الله، بل هذا عين تعظيمه وإجلاله وطاعته، فتأمل هذا الموضع حق التأمل؛ فإنه سر الفرق بين عباد القبور وأهل التوحيد"
(2)
.
رابعًا: ومما استعمل فيه أهل العلم قاعدة (سد الذرائع) لسد الطرق المفضية إلى الشرك ووسائله ما فعله المسلمون حيال حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من تعلية الحيطان، وإحاطتها بالجدر الثلاثة، وسد جميع المنافذ المؤدية إليها، كل ذلك سدًّا لذريعة الغلو والمبالغة في ذلك المؤديان إلى الشرك بالله العظيم، واتخاذه ندًّا مع الله تبارك وتعالى، وسدًّا لذريعة اتخاذ قبره قبلة، وغير ذلك.
يقول الإمام القرطبي: "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (1/ 194).
(2)
الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص 457).
محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره"
(1)
.
خامسًا: إن حسن النية والقصد لا يسوغ إباحة الفعل الذي حُرّم سدًّا للذريعة؛ لأن التحريم لم يراع فيه قصد المتذرع بالذريعة، وهل نيته حسنة أم سيئة، بل حرمت الشريعة الذريعة المؤدية إلى الشر والفساد والمنكر، حتى ولو كانت نيته صالحة، وقصده حسنًا.
(1)
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (2/ 127)، وانظر: فتح المجيد (ص 263).