الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع
قاعدة كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة
وفيه مسائل:
*
المسألة الأولى* شرح ألفاظ القاعدة
بيان معنى الدعاء وأقسامه:
الدُّعاءُ مشتق من أصل لغوي ثلاثي هو (دَعَوَ)، تقول: دعوت الشيء أدعوه دعاء، وهو مصدر ممدود الآخر، على وزن (فُعَالٌ)، تقول: دَعا يَدْعُو دُعاءً ودَعْوَى وأَلِفُها للتَّأْنِيثِ، وبعضُ العَرَبِ يُؤَنِّثُ الدَّعْوَةَ بالأَلِفِ فيقولُ الدَّعْوَى.
والهمزة في (دعاء) منقلبة عن واو، والأصل (دعاو)، فهي واوية الأصل، تقول: دعوتُ أدعو دُعاءً فأنا داعٍ والمفعول مدعوِّ، فهذا يدل على أن أصل الهمزة في دعاء الواو، وإنما أبدلت همزة لتطرفها إثر ألف زائدة
(1)
.
(1)
انظر: الصحاح للجوهري (6/ 2337)، وجمهرة اللغة، لابن دريد (2/ 1059)، وتاج العروس (10/ 126).
وقد أرجع ابن فارس معاني مادة (دعو) وتصاريفها إلى أصل واحد فقال: " (دعو) الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك"
(1)
.
يقال: دعا بالشيء دعوًا ودعوة ودعاء ودعوى: طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء يدعو دعاء: رغب فيه وقرب إليه، ودعا فلانًا: سأله واستعان به ورغب إليه وابتهل، ويقال: دعا الله رجا منه الخير، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان طلب له الشر، ودعا إلى الشيء حثه على قصده، ويقال ما دعاه إلى أن يفعل كذا: ما اضطره ودفعه، واستدعاه: صاح به وطلبه واستلزمه، وطلب أن يدعو له، أو فعل ما يستحق أن يدعو عليه، وتداعت عليهم القبائل من كل جانب: اجتمعت عليهم، وتألبت بالعداوة
(2)
.
وألصق المعاني بالمعنى الشرعي معنيان:
الأول: السؤال والطلب.
الثاني: الرغبة والرجاء والابتهال.
قال ابن سيده في معنى الدعاء: "طلب الطالب للفعل من غيره"
(3)
.
وقال أيضًا: "الدعاء: الرغبة إلى الله عز وجل"
(4)
.
وقال ابن العربي: "وَالدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ الطَّلَبُ"
(5)
.
وقال الشوكاني: "لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعًا هو الطلب"
(6)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (2/ 279).
(2)
انظر: تاج العروس (38/ 46)، والقاموس المحيط (1655)، والمعجم الوسيط (1/ 286)، ومعجم الأفعال المتعدية بحرف (ص 100).
(3)
المخصص لابن سيده (13/ 88).
(4)
المحكم والمحيط الأعظم (2/ 325).
(5)
أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 350 - 351).
(6)
فتح القدير (4/ 498)، وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل (4/ 8)، وصيانة الإنسان (ص 428).
والدعاء في عرف الشرع ينقسم إلى قسمين:
1 -
دعاء العبادة.
2 -
ودعاء المسألة.
فدعاء العبادة هو العبادة نفسها، والتي يتقرب بها العبد إلى ربه تبارك وتعالى، طالبًا رضوانه والجنة، وأن يبعده من النار وما يقرب إليها، ويدخل في ذلك جميع ما يتعبد به الله تعالى، ومن أعظم العبادات هي سؤاله والطلب منه سبحانه وتعالى، وهو النوع الثاني من أنواع الدعاء وهو:
دعاء المسألة، وهو أن يسأل الله ويطلب منه تحقيق أمر من أمور الدنيا أو الآخرة.
يقول الإمام ابن أبي العز الحنفي: "وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي علموا قربه منهم، وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال؛ إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة"
(1)
.
ويقول الشيخ سليمان آل الشيخ في بيان المقصود بدعاء المسألة: "دعاء المسألة: وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، بقطع النظر عن الامتثال، ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء، وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معناه، وهو الدعاء الشامل للعبادة والمسألة"
(2)
.
ويقول الشيخ محمود شكري الألوسي معرفًا له: "وهو طلب العبد من ربه بالصيغة القولية"
(3)
.
وعرَّفه الشيخ السعدي بقوله: "وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب سؤله بلسان المقال"
(4)
.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 522).
(2)
التوضيح عن توحيد الخلاق (ص 292).
(3)
غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 332، 335، 337).
(4)
القواعد الحسان (ص 127).
ويقول الشيخ سليمان آل الشيخ في معنى دعاء العبادة: "أما دعاء العبادة فهو عبادة الله تعالى بأنواع العبادات؛ من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج، وغيرها، خوفًا وطمعًا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار وهو سائل راغب راهب، يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته، وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة، وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، بهذا وهذا، قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل سلوني أعطكم"
(1)
.
ويظهر مما سبق أن دعاء العبادة أعم من دعاء المسألة، فالأول يراد به التقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه بجميع أنواع العبادة، ويكون الطلب والسؤال من الله داخلًا تحت عموم العبادة، إذ يعد والحالة هذه فردًا من أفراد العبادة، وهو في نفس الوقت قسيمًا لدعاء العبادة تحت لفظ الدعاء الشرعي العام
(2)
.
ومما يدل على كون الدعاء أعم من السؤال تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الداعي والسائل كما جاء في حديث (النزول) عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فأستَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْألُنِي فأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فأغْفِرَ لَهُ"
(3)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 182).
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 84).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل (1/ 384)، برقم (1094)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (1/ 521)، برقم (758)، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
يقول ابن أبي العز الحنفي: "والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
فذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق ثم قال عقبه: ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بين العموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر، وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص"
(1)
.
والتوجه بالدعاء لا بد فيه من إرادة وقصد، فإذا أردت بدعائك المعبود نفسه كان ذلك دعاء عبادة، وإذا كان قصدك بدعائك تحصيل أمر، ونيل مطلوب من المعبود كان الدعاء دعاء مسألة.
يقول الإمام ابن تيمية: "ولفظ دعاء الله في القرآن يراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة، فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد، ودعاء المسألة يكون الله هو المراد منه، كما في قول المصلي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فالعبادة إرادته والاستعانة وسيلة إلى العبادة، فالعبادة إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة إرادة الوسيلة إلى المقصود"
(2)
.
ويقول أيضًا: "والدعاء: قصد المدعو والتوجه إليه إما على وجه المسألة، وإما على وجه العبادة المحضة؛ لأن دعاء الشيء هو طلبه وإرادته، سواء طلب لذاته أو للأمر منه"
(3)
.
والعلاقة بين دعاء العبادة ودعاء المسألة
(4)
: أن دعاء العبادة مُسْتَلْزِم لدعاء المسألة ومتضمن له من جهة، فإن من رضي بالله ربًّا
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 522).
(2)
النبوات (ص 82).
(3)
شرح العمدة (4/ 27 - 28).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (15/ 10، 243)، وجلاء الأفهام (ص 81).
ومعبودًا، وكان خاضعًا ذليلًا، راجيًا محبًا، قائمًا وساجدًا لزمه أن يسأل ربه في كل ما يحتاجه من أمور دينه ودنياه، كأن يسأله القبول والثواب لما يقوم به من العبادة، وهو متضمن لدعاء المسألة بلسان الحال؛ إذ العابد المعظم لمعبوده هو في الحقيقة سائل وطالب منه الرضا والمثوبة.
كما أن دعاء المسألة متضمِّن لدعاء العبادة؛ بمعنى: أن بعض أفراد دعاء العبادة داخلة في دعاء المسألة؛ وذلك لكون الداعي دعاء المسألة عابد لله تعالى بسؤاله، ورغبته، والتضرع إليه، والابتهال إليه، والانطراح بين يديه، وهو يرجو قبول دعوته، وقضاء حاجته، وهو مع ذلك خائف من طرده، وعدم قبول دعوته، فهذا هو لب العبادة، ومخها، وروحها، وحقيقتها
(1)
.
أو يقال: العلاقة بينهما السببية والمسببية، فإن العبادة سبب للدعاء؛ فإن من عبد شيئًا، فإنَّه يدعوه عند احتياجه إليه، وهذا هو الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجئ إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة، أو دفع مضرة
(2)
.
ويمكن القول بأن دعاء العبادة ودعاء المسألة يشبه الألفاظ التي إذا اجتمعت في الذكر افترقت في المعنى، وإذا افترقت في الذكر اجتمعت في المعنى؛ ولذا لا يتصور الانفكاك بينهما.
يقول الإمام ابن تيمية: "اعلم أن لفظ الدعاء والدعوة يتناول معنيين: دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، وإذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة، ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب،
(1)
انظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية، للعروسي (1/ 116).
(2)
انظر: صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان نقلًا عن الرازي (ص 434).
ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ولا طلب، ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب، والخوف والطمع"
(1)
.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن تقسيم الدعاء الشرعي إلى نوعين لا يعني أنهما متضادان أو متباينان بحيث لا يقصد به إلا معنى واحدًا من أنواع الدعاء في كل موطن ورد فيه مع عدم أخذ المعنى الآخر في الاعتبار، هذا لا يحصل؛ لعدم انفكاك أحد النوعين عن الآخر، وإنما غاية الأمر أن تكون دلالة السياق أو ما يقترن به على أحد النوعين أظهر من النوع الآخر، وهو في نفس الوقت دال على النوع الآخر إما بدلالة الالتزام، أو بدلالة التضمن، وعلى النوع الذي هو فيه أظهر بدلالة المطابقة؛ فإذا أريد بالدعاء دعاء المسألة والطلب، فإنَّه يدل على دعاء العبادة بطريق التضمن؛ لأن الداعي دعاء المسألة عابد لله تعالى بسؤاله والتضرع إليه، وأما إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة، فإنَّه يدل على دعاء المسألة بطريق دلالة الالتزام والتضمن من جهة كما سبق تفصيله.
ومن أهل العلم من قسَّم دعاء المسألة إلى قسمين: دعاء عبادة ودعاء عادة.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "إن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء العادة، فالثاني ما يطلبه الناس بعضهم من بعض، مما يقدرون عليه بالأسباب التي سخرها الله لهم، ودعاء العبادة: هو طلب ما وراء الأسباب مما لا يقدر عليه إلا رب العباد"
(2)
.
(1)
مختصر الفتاوى المصرية (ص 128).
(2)
انظر: تعليق الشيخ محمد رشيد على كتاب "صيانة الإنسان"(ص 374)، وحياة القلوب بدعاء علام الغيوب، لعبد الظاهر أبي السمح (ص 31).