الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمحبة الله، وتعظيمه، وإجلاله، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة لله، ومحبته محبة لله، وتعظيمه تعظيم لله، ونصرته نصرة لله؛ فإنه رسوله، وعبده الداعي إليه، وإلى طاعته، ومحبته وإجلاله، وتعظيمه، وعبادته وحده لا شريك له"
(1)
.
ويقول رحمه الله أيضًا في شرحه لكلام الهروي: "الثاني: تعظيم الخدمة وإجلالها، وذلك تبع لتعظيم المعبود، وإجلاله، ووقاره، فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد، وإجلاله، ووقاره، يكون تعظيمه لخدمته، وإجلاله لها، ورعايته لها"
(2)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
لهذه القاعدة العظيمة العديد من الفوائد، أذكر فيما يأتي بعض ما ظهر لي من ذلك:
أولًا: إن تعظيم العبد لشعائر الله تعالى ليس هو في مرتبة تعظيمه لربه سبحانه؛ إذ تعظيم الرب هو الأصل والمؤثر الذي ينتج عنه تعظيم الشعائر، بل العلاقة بين التعظيمين علاقة طردية عكسية؛ فكلما زاد تعظيم الرب وتقواه في القلب زاد تعظيمه لشعائره، كما أن تعظيم الشعائر -بتكميلها والمحافظة عليها- مما يزيد في تقوى القلوب، ويكبر به تعظيم الرب في قلب العبد، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21].
وقد بيَّن الشيخ السعدي التعظيم الخاص بالرب تعالى بقوله: "من معاني عظمته تعالى: أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يُعَظَّم كما
(1)
جلاء الأفهام (ص 395 - 396) بتصرف.
(2)
مدارج السالكين (2/ 510).
يُعَظَّم الله، فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته؛ فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، و {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، ومن تعظيمه أن لا يُعْتَرض على شيء مما خلقه أو شرعه "
(1)
.
ثانيًا: تعظيم الشعائر يتضمن أمرين: تعظيم هو من عمل القلب، وهو الأصل، وتعظيم تابع لذلك، وهو الظاهر على الجوارح -من إحسان العمل وتكميله وإتقانه- وهذا فرع عن تعظيم القلب، وبذلك يظهر لنا أن أعمال القلوب هي الأصل لأعمال الجوارح، فإذا ثبت في القلب التعظيم، تبعته الجوارح في ذلك ولا بد، وهذا أمر مطرد، لكنه قد لا ينعكس؛ إذ يمكن أن يظهر على الجوارح من الأفعال الدالة على التعظيم والتوقير ما يكون القلب خاليًا منه
(2)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "فالمقصود تقوى القلوب لله، وهو عبادتها له وحده دون ما سواه، بغاية العبودية له، والعبودية فيها: غاية المحبة، وغاية الذل، والإخلاص، وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهذا كله مما يبين
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى، للشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع ودراسة وتحقيق: عبيد بن علي العبيد، ضمن مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية (عدد: 112)، (ص 217 - 218).
(2)
ولذا قرَّر أهل العلم رحمهم الله استحالة انتفاء انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب. ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت علم القلب". [معارج القبول (2/ 594)].
أن عبادة القلوب هي الأصل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجسد مُضغَة إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهْيَ القَلبُ"
(1)
"
(2)
.
ويقول ابن العربي في معنى كون تعظيم الشعائر من تقوى القلوب: "يريد: فإن حالة التعظيم إذا كست العبد باطنًا وظاهرًا، فأصله تقاة القلب بصلاح السر، وإخلاص النية؛ وذلك لأن التعظيم فعل من أفعال القلب، وهو الأصل لتعظيم الجوارح بالأفعال"
(3)
.
ويقول ابن عاشور في تعليل إضافة التقوى إلى القلوب من قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]: " وإضافة (تقوى) إلى (القلوب)؛ لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل"
(4)
.
ثالثًا: إن التحقير والاستهانة والاستهزاء بالله تعالى أو برسوله أو بدين الإسلام كفر مخرج عن ملة الإسلام كما سبق تقرير.
يقول الشيخ السعدي: "فإن الاستهزاء بالله ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظم الله، وتعظيم دينه، ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة"
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 485).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (1/ 28)، برقم (52)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219)، برقم (1599)، ولفظه:"ألا وإنّ في الجسد مضغة".
(3)
أحكام القرآن، لابن العربي (3/ 288)، ولذا يقول الرازي:"وإنما ذكرت القلوب؛ لأن المنافق قد يزهر التقوى من نفسه، ولكن لما كان قلبه خاليًا عنها لا جرم، لا يكون مجدًا في أداء الطاعات، أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص". [التفسير الكبير (23/ 29)].
(4)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (17/ 257).
(5)
تفسير السعدي (ص 342 - 343).
أما التحقير والاستهانة بشعيرة من شعائر الرب تبارك وتعالى ففيه تفصيل؛ فإن كان قاصدًا في احتقاره واستهانته لذات الشعيرة نفسها فلا شك أن هذا العمل من أعظم الذنوب، وأقبح المعاصي التي يستحق صاحبها شديد العذاب وأليم العقاب.
وأما إن كان قصده الاستهانة بها وبالله تعالى الذي شرعها وأشعر بها عباده فلا شك في كفر من تلبس بهذه النية وهذا العمل، وهذا من أكبر البراهين على خلو القلب من تعظيم الله وتوقيره، إذ المُعَظِّم لله والمُبَجِّل له لا يستهزئ بما عظمه ربه وبجله، بل الواجب أن يكون معظمًا له غاية التعظيم والتبجيل.
يقول الحافظ ابن حجر: "اِنْتَهَاك حُرْمَة الحَرَم بِالْمَعْصيَةِ تَسْتَلزِم اِنْتَهَاك حُرمَة الله لِأَنَّ تَعْظِيم الْحَرَم مِنْ تَعْظِيم الله، فَصارَتْ الْمَعْصيَة فِي الْحَرَم أَشَدَّ مِنْ الْمَعْصِيَة فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ اِشْتَرَكَ الْجَمِيع فِي تَرْكِ تَعْظِيم الله تَعَالى، نَعَمْ مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ قَاصِدًا الِاسْتِخْفاف بِالْحَرَمِ عَصى، وَمَنْ هَمَّ بِمَعصِيَة الله قَاصِدًا الِاستِخْفَاف بِاللّهِ كَفَرَ، وَإِنَّمَا الْمَعْفُوّ عَنْهُ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَاهِلًا عَنْ قَصْد الِاسْتِخْفافَ، وَهَذَا تَفْصِيل جَيِّد"
(1)
.
رابعًا: إن تعظيم شعائر الله لا بد أن يكون بالطريقة الشرعية، وبالكيفية التي جاء بها كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نهج أصحابه وسلف الأمة، فلا يكون تعظيم الشعائر بآراء الناس وأذواقهم، وما تستحسنه عقولهم، بل ذلك كله إلى الشرع، فلا يُعَظِّم إلا ما عظَّمه الشرع، وبالكيفية التي جاء بها.
يقول ابن عبد الهادي في معرض مناقشته لأهل التعظيم البدعي: "أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، أو نوعًا خاصًا من التعظيم، فإن
(1)
فتح الباري (11/ 328).
أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره، وتقبيله، واستلامه، والطواف به؛ لأنه من تعظيمه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عَظَّمَه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له،
…
فمن عَظَّمَه بما لايحب فإنما أتى بضد التعظيم"
(1)
.
ويقول ابن الحاج: "لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - وَقَدْ بَيَّنَ عليه الصلاة والسلام مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وأَوَانٍ، وَأَيْضًا فَيَسَعُنَا فِيهَا مَا وَسِعَ السَّلَفَ إنْ كُنَّا صَالِحينَ؛ لِأنَّ تَعْظِيمُ الشَّعَائِرِ وَاحْتِرَامَها عَنْهُم يُؤْخَذُ وَمِنْهُمْ يُتَلَقَّى، لَا بِمَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا، وَمَضتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، فَهُوَ الَّذِي يُتَّبَعُ لَا الْعَوَائِدُ، أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ"
(2)
.
ويقول رحمه الله أيضًا في معرض مناقشته لبعض أهل العلم في مسألة القام للقادم: "وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رحمه الله
(3)
مُسَلَّمٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ تَعْظِيمَ الْحُرَمَاتِ وَالشَّعَائِرِ قَدْ عُرِفَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْقِيَامِ فِيهَا مَجَالٌ"
(4)
.
ولا يكفي في ذلك كون نية الشخص صالحة، وأنه أراد بهذا العمل تعظيم الله تعالى؛ لأن التعظيم إذا لم يكن أصله شرعيًا، موافقًا للكتاب والسُّنَّة انقلب إلى تنقيص وتحقير، ولا مجال للنية الصالحة مع المخالفة
(5)
.
خامسًا: إن القطع بكون هذا المكان، أو الزمان من شعائر الله لا بد فيه من دليل شرعي يثبت ذلك، بحيث يكون علمًا ظاهرًا للحواس،
(1)
الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص 447).
(2)
المدخل، لابن الحاج (4/ 250 - 251).
(3)
المقصود هنا هو أبو الوليد الباجي.
(4)
المدخل، لابن الحاج (1/ 181).
(5)
تيسير العزيز الحميد (ص 220).
مشتهرًا بين الناس، تَعَبَّدَ الله به عباده، وأمرهم بتعظيمه، وعليه فلا مجال للآراء والأذواق في اختيار الأمكنة والأزمنة، وتخصيصها بالعبادة، وإشهار ذلك، وجعلها من شعائر الله، بل مرجع ذلك إلى الشرع الحكيم، فما جعله الله من الشعائر، وأشهره وأظهره، وأذن بتعظيمه كان تعظيمه من تعظيم شعائر الله.
يقول الشيخ حافظ الحكمي: " (كمن يَلُذ ببقعة): أي: يعوذ بها، ويختلف إليها، ويتبرك بها، ولو بعبادة الله تعالى عندها، وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله، فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه؛ كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه، وتعظيم شعائر الله من المشاعر، والمواقف، وغيرها، فإن ذلك تعظيم لله عز وجل الذي أمر بذلك لا لتلك البقعة ذاتها
(1)
…
وكذلك التعظيم أيضًا نفسه إنما أردنا منع تعظيم لم يأذن الله به، لا المأذون فيه"
(2)
.
سادسًا: إن تعظيم شعائر الله من الأماكن، والأزمان، والأشخاص، والأعلام هو تعظيم لله، وتعظيم لذات هذه الشعائر؛ وذلك لما تميّزت به عن غيرها، نعم الباعث على هذا التعظيم هو اصطفاء الله تعالى لها دون غيرها، فهو المخصص لها، والآمر عباده بتعظيمها، فحقيقة التعظيم راجعة إليه أصلًا ومآلًا، ولذات الشعائر نصيب من التعظيم تبعًا.
لكن يبقى أن يقال -كما سبق تقريره-: إن الكيفية التي تُعَظَّم بها شعائر الله تعالى، وأعلام دينه، يجب أن تكون مطابقة وموافقة للطريقة التي كان عليها -أعظم البشرية تعظيمًا لشعائر ربه- رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام الذين ساروا على دربه، ورضي الله عنهم بذلك.
(1)
معارج القبول (2/ 513).
(2)
الظاهر أن التعظيم يتعلق بذات الشعيرة أيضًا، كما سيأتي توضيح ذلك.
يقول الإمام ابن القيم: "فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته، والتخصيص بكرامته. فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص، وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصفطاها الله، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات، وخصها بالاختيار، فهذا خلقه، وهذا اختياره {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وما أَبْيَنَ بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساوٍ لسائر الأمكنة، وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض، وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها، وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة، ونسبوها إليها"
(1)
.
ويقول أيضًا: "والتفاوت البَيِّن بين الأَمكنة الشريفة وأضدادها، والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير؛ فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع، وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضًا بكثير، فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة، والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات.
ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول، وإنما قصدنا تصويره، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم، ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئًا، والله سبحانه لا يخصص شيئًا، ولا يفضله ويرجحه، إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه، فهو الذي خلقه ثم اختاره بعد خلقه، وربك يخلق ما يشاء ويختار"
(2)
.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 53).
(2)
زاد المعاد (1/ 53 - 54).
سابعًا: إن من تعظيم شَعَائِر الله وإجلالها أن لا تجتمع مع شعائر الشرك والكفر، بل الواجب إزالة ومحو جميع شَعَائِر الكفر والشرك؛ إذ في بقائها وإقرارها تعظيم لها، ورفع من شأنها، وتحقير لشعائر الله وإهانة لها، وذلك يستلزم الاستهانة بالله تعالى وبأمره
(1)
.
يقول الإمام ابن القيم في معرض ذكره للفوائد المستفادة من غزوة الطائف: "ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركًا عندها وبها، والله المستعان"
(2)
.
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "فعلم بذلك أن بناءها -أي: المساجد على القبور- لا يجوز مطلقًا، وما ذلك إلا لكونها من أعظم وسائل الشرك، ومن أظهر أعلامه وشعائره، وهي سنة اليهود والنصارى التي نُهِينَا عن اتِّبَاعِهَا، وَحُذِّرْنَا من سُلُوكِهَا"
(3)
.
وقال الإمام ابن تيمية في شأن شَعَائِر أهل الكتاب: "فهذا من شَعائِر الكفر التي نحن مأمورون بإزالتها، والمنع منها في ديار الإسلام،
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (25/ 330)، و (28/ 655)، والبحر الرائق (8/ 330)، وبدائع الصنائع للكاساني (7/ 113)، وأسنى المتاجر للونشرسي (ص 59).
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 506)، وانظر: الدرر السنية (11/ 99 - 100)، والانتصار لحزب الله الموحدين، تأليف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين (ص 68).
(3)
فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 396).
فلا يجوز إعانتهم عليها"
(1)
.
ويقول ابن القيم فيما يحرم على أهل الذمة إظهاره: "لما كان الصليب من شَعَائِرِ الكفر الظاهرة كانوا ممنوعين من إظهاره"
(2)
.
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا بأس من إقامة شَعَائِر الإسلام في نفس المكان الذي كانت فيه شعائر الكفر والشرك، وذلك بعد محوها وإزالتها، فيصبح المكان شعيرةً من شعائر الله، وبيتًا من بيوته، بعد أن كان معلمًا من معالم الكفر والشرك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مسجده بعد أن أزال مقابر المشركين، وكما أمر ببناء مسجد الطائف في مكان اللات والعزى
(3)
.
يقول الإمام ابن القيم: "قصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شَعَائِرِ الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته - صلوات الله وسلامه عليه - أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى "
(4)
.
ولا تعارض بين فعله هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: (إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد "، قالوا: لا، قال:"هل كان فيها عيد من أعيادهم"،
(1)
اقتضاء الصراط (ص 250).
(2)
أحكام أهل الذمة (3/ 1240).
(3)
يقول الحافظ ابن حجر: " إن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاةً، كما صنع أهل الجاهلية، وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش، وترمى عظامهم، فهذا يختص بالأنبياء، ويلتحق بهم أتباعهم، وأما الكفرة فإنه لا حرج في نبش قبورهم؛ إذ لا حرج في إهانتهم، ولا يلزم من اتخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك أن لا تعارض بين فعله صلى الله عليه وسلم في نبش قبور المشركين، واتخاذ مسجده مكانها وبين لعنه صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء مساجد لما تبين من الفرق". [فتح الباري (1/ 524)].
(4)
زاد المعاد (2/ 294 - 295).
قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم")
(1)
.
فإن هذا الحديث قد دلَّ على أن الذبح بموضع كان فيه وثن يعبد، أو فيه عيد من أعياد الجاهلية معصية لله تعالى لا يجوز بحال
(2)
؛ لكن المقصود المنع من ذلك مع بقاء معالم ذاك المكان، وكونه معلمًا من معالم الكفر، وشعيرة من شَعائِر الشرك، أما إذا تحوَّلت معالمه، وصار من شَعَائِر الله تعالى، وأُزيلت عنه معالم الشرك، وشعائر الكفر زال عنه المنع، وتغير الحكم، وأبيحت فيه سائر العبادات المشروعة في مثله، فإذا كان الموضع فيه صنم يعبد، أو فيه عيد من أعياد أهل الشرك، ثم أزيلت وبني في مكانه مسجد للمسلمين، جازت فيه الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، والوفاء بالنذور الجائزة في مثله.
ثامنًا: كل ما كان من شَعَائِر الله المكانية أو الزمانية فلا بد فيه من عبادة الله تعالى ترتبط به، ولا تنفك عنه، ولا يكمل تعظيمها بدون القيام بهذه العبادة، إضافة إلى التعظيم القلبي الذي هو أصل تعظيم جميع الشعائر، وذلك يختلف باختلاف درجة تلك العبادة من حيث الوجوب، أو الاستحباب.
يقول الإمام ابن تيمية: "وكل ما كان من شَعَائِر الله فلا بد من نسك واجب بهما، كسائر الشعائر؛ من عرفة، ومزدلفة، ومنى، والبيت؛
(1)
أخرجه أبو داود في سننه (3/ 238)، برقم (3313)، وغيره، وصَحَّحَ الحافظ ابن حجر إسناده، وكذا ابن الملقن، والإمام النووي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" أصل هذا الحديث في "الصحيحين"، وهذا الإسناد على شرط الصحيحين، وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة". انظر: [تلخيص الحبير (4/ 180)، والمجموع (8/ 358)، وخلاصة البدر المنير، لابن الملقن (2/ 422)، واقتضاء الصراط المستقيم (ص 186)، وتيسير العزيز الحميد (ص 156)].
(2)
وذلك لأن فعل العبادة في أماكن شَعَائِر الشرك يعتبر تعظيمًا لغير ما عظم الله، يشبه تعظيم الكفار للأصنام، فحرم كتعظيم الأصنام. [انظر: المغني، لابن قدامة (10/ 79)].
فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه، ويتعبد فيها له، وينسك، حتى صارت أعلامًا، وفرض على الخلق قصدها، وإتيانها، فلا يجوز أن يجعل المكان شَعِيرَة لله، وعلمًا له، ويكون الخلق مخيرين بين قصده، والإعراض عنه؛ لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم الشعائر واجب، لقول الله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها، ووصى بها في غير موضع، وذم من لا يتقي الله، ومن استغنى عن تقواه توعده، ولذا كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن، التي شَرَّفَهَا الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية"
(1)
.
(1)
شرح العمدة (3/ 627).