الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخوف المتعلق بالآخرة، معناه أن يخاف العبد غير الله ويتعلق خوفه بغير الله من أن لا ينفعه ذلك الإله في الآخرة، فلأجل رغبه في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له، وأن يقربه منه في الآخرة، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة، خاف منه فأنزل خوفه به"
(1)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
بعض الفوائد والتطبيقات للقاعدة:
أولًا: أن هذا الخوف الشركي الذي بيَّنت القاعدة حقيقته يقابله خوف العبادة، وهو الخوف الذي لا يصح الإيمان إلا بإخلاصه لله تعالى دون ما سواه، ويتضمن اعتقاد الخائف اتصاف الله تعالى بالقدرة التامة لكل ما في الكون، والمشيئة الشاملة المستقلة التي لا يغلبها ولا تتقدمها مشيئة أحد من الخلق، بل مشيئة جميع الخلق تابعة لمشيئته سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ سليمان آل الشيخ: "وهذا الخوف -يعني: خوف العبادة- لا يكون العبد مسلمًا إلا بإخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه"
(2)
.
ثانيًا: القاعدة بيَّنت الضابط لما يكون شركًا حال الخوف من غيره سبحانه وتعالى، وهو اعتقاد القدرة التامة الغيبية، والمشيئة النافذة المستقلة في المخوف منه، بحيث يتصرف في الكون إما استقلالًا أو مع الله تعالى، فاجتمع هنا شركان؛ شرك في الربوبية باعتقاد القدرة في غيره سبحانه، وشرك في الإلهية بصرف عبادة الخوف القلبي لغيره عز وجل.
وهذا الضابط ينسحب على كثير من العبادات كالرجاء والمحبة
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 369).
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص 407).
والتوكل وغيرها من أنواع العبادة
(1)
؛ فمن رجا مخلوقًا أو توكل عليه معتقدًا فيه القدرة على جلب النفع وتحقيق المرجو بقدرته ومشيئته كان واقعًا في الشركين معًا.
يقول الإمام ابن القيم: "فالخوف عبودية القلب فلا تصلح إلا لله؛ كالذل، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والرجاء، وغيرها من عبودية القلب"
(2)
.
وكمن دعا ميتًا في قبره لتحقيق رغبته معتقدًا قدرته على تحقيق ما يطلبه بمشيئته الخاصة كان واقعًا في شرك الربوبية وشرك الإلهية.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "فالواجب خشية الله وخوفه؛ لأنه مصرف القلوب ومقلبها، والقادر على كل شيء، وهو الذي ينفع ويضر، ويعطي ويمنع، فالواجب تخصيصه بالخوف، وألا يخاف إلا الله في كل الأمور
(3)
.
ولكن خوف السر يختص به سبحانه؛ وهو كون الإنسان يخاف من أجل قدرة خاصة سرية ليست حسب الحس، ولذلك يعتقد عباد القبور أن بعض الناس له القدرة على التصرف في الكون مع الله جل وعلا، ويعتقدون ذلك أيضًا في الأصنام والجن وغيرها، وهذا هو الشرك الأكبر، ويعتقد فيهم أيضًا أن لهم القدرة على العطاء والمنع، وزيغ القلوب، وموت النفوس دون أسباب حسية"
(4)
.
ثالثًا: ومما يدخل في حكم القاعدة الخوف من الجن أن يصيبوا الإنس بشيء من الأذى المحسوس المشاهد مع اعتقاد قدرتهم ومشيئتهم
(1)
انظر: منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس (ص 299 - 300).
(2)
طريق الهجرتين (ص 437).
(3)
انظر: شعب الإيمان للبيهقي (2/ 27).
(4)
شرح الأصول الثلاثة للعلامة ابن باز، شريط كاسيت.
المستقلة، فإنه من الشرك الأكبر الذي يكفر به صاحبه؛ فإن الله تعالى جعل للجن إذنًا كونيًا عامًا في الوسوسة القلبية لبني آدم فحسب، ولم يأذن لهم كونًا في إيصال الأذى إلى بني الإنسان، فذلك فوق قدرتهم، والله تعالى لم يمكنهم من ذلك، ولو مكنهم وأذن لهم كونًا في أذية بني آدم بما يريدون لما سلم منهم حتى الأنبياء والرسل، ولقتلوهم عن بكرة أبيهم، وخربوا ديارهم وأفسدوا أموالهم.
لكن قد يأذن الله لبعض الجن إذنًا كونيًا خاصًا في أذية بعض بني آدم عقوبة منه، أو ابتلاء، أو غير ذلك لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى
(1)
.
يقول ابن حزم: "فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه"
(2)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحدًا؛ فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف؛ فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله، وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك فإنه قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 13]، وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله، وتبت من ذنوبك، واستغفرته لم يسلط عليك"
(3)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ، والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل
(1)
انظر: التفسير الكبير للرازي (1/ 75)، و (7/ 78).
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 10).
(3)
مجموع الفتاوى (1/ 58).
أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا، ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها، تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها، ولا مخالفتها"
(1)
.
ويقول الشيخ الشنقيطي نقلًا عن ابن القيم في شأن الشيطان: "الله لم يجعل له عليهم سلطانًا ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلَّطوه على أنفسهم بطاعاته، ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76] "
(2)
.
فالخوف من الجنّ إذا كان خوف سر، وهذا هو غالب الخوف من الجن، فإنه يدخل في خوف العبادة؛ لأن الخائف يعتقد فيهم النفع والضر، والحق أنها لا تملك لأحد نفعًا ولا ضرًا إلا أن يشاء الله، بل لو اجتمع الإنس والجن ما نفعوا أحدًا، وما ضروه بشيء لم يكتبه الله عليه، ولذا جاء في الحديث المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما: (قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فقال: يَا غلام إنِّي أُعلِّمُك كلماتٍ: احْفَظ الله يَحْفَظْكَ، احفَظ الله تجدْهُ تُجاهَكَ، إِذا سألتَ فَاسألِ الله، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ بالله، واعلمْ أَنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أَنْ يَنْفعوكَ بشيءٍ لم يَنْفَعُوكَ إِلَّا بشيء قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، ولو اجتَمعُوا على أَنْ يَضرُّوكَ بشيء، لم يَضُرُّوكَ إِلَّا بشيءٍ قَدْ كَتبهُ الله عَليكَ، رُفِعَت الأَقلامُ، وَجَفّتِ الصُحف"
(3)
.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 69).
(2)
أضواء البيان (2/ 445).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 293)، برقم (2669)، والترمذي في جامعه (4/ 667)، برقم (2516)، وقال عقبه:"حديث حسن صحيح"، وأبو يعلى في مسنده (4/ 430)، برقم (2556)، وحسَّن الإمام الصنعاني إسناد الإمام أحمد، والحديث صححه الشيخ الألباني. [انظر: سبل السلام (4/ 175)، ومشكاة المصابيح حديث رقم (5302)].