الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين يحرفون الكلم على خلاف مراد واضعه، ويضعون على وفق أهويتهم لا على وفق مواضعه، بل يبتدعون الأقوال، ويخترعون شبه الضلال.
فإذا تقرر أنها من خالص حق رب العالمين، وأنها داخلة في جملة أنواع الدين، الذي قضاه وأمر به وأوجبه لنفسه دون البرية أجمعين: امتنع صرفها لغيره، فلا يجوز صرفها لرسول ولا نبيّ، ولا ملك مقرب ولا وليّ؛ لأن ذلك من الشرك الجلي، إلا أن الدليل القاطع خصَّ عموم النهي بالأموات لقيام المانع، ودلَّ على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه وكذلك الاستشفاع، كل منهما جائز من غير منازعة ولا دفاع، وأنهما خارجان من عموم الامتناع"
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
علمنا مما سبق دلالة القاعدة على أمرين:
الأول: استقلاله سبحانه وتفرده بملكيته للشفاعة دون غيره من الخلق.
الثاني: طلب الشفاعة من غير الله تعالى مباشرة، أو من غير من أَذن له تعالى يوقع في الشرك بالله العظيم.
وفيما يلي أذكر بعض ما وقفت عليه من أدلة تدل على كلا الأمرين الذين اشتملت عليهما القاعدة:
أولًا: أدلة عامة دلت على ملكية الله تعالى لجميع ما في الكون، بل هو مالك الدنيا والآخرة والشفاعة داخلة في هذا العموم، ومن تلك الآيات:
(1)
انظر: العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين، للشيخ حسين بن غنام (169 - 171)، بتصرف.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 107]، وقوله سبحانه:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [المائدة: 17]، وقال سبحانه:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]، وقوله عز وجل:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 2]، وقال عز من قائل:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر: 15، 16].
يقول الإمام السمعاني في قوله تعالى: {مالك الملك} : "ومعناه مالك العباد وما ملكوه"
(1)
.
ويقول الشيخ السعدي في قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : "بل الكلك كله لله الواحد القهار، فالعالم العلوي والسفلي كلهم مملوكون لله ليس لأحد من الملك شيء"
(2)
.
ثانيًا: تصريحه سبحانه وتعالى بملكه التام للشفاعة وأنه لا يشركه فيها أحد من الخلق مهما كانت مكانته ومنزلته، ومن تلك الآيات:
قوله سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} [الزمر: 43، 44].
بيَّن سبحانه وتعالى ضعف هؤلاء الشفعاء وأنهم لا يملكون مثقال ذرة، لا
(1)
تفسير السمعاني (1/ 306).
(2)
تفسير السعدي (ص 469)، وانظر (ص 577).
شفاعة ولا غيرها، وأن الشفاعة جميعها خالصة لله تعالى ملكًا وتصرفًا، وعليه فيجب ألا تطلب الشفاعة إلا من الله تعالى أو ممن أذن له تعالى أن يشفع.
يقول البيضاوي في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} : "والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه، ولا يستقل بها، ثم قرر ذلك فقال: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} يوم القيامة، فيكون الملك له أيضًا حينئذٍ"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم في بيان معنى الآية: "فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه.
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه
…
فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل شفيع بإذنه"
(2)
.
ويقول الشيخ السندي: "وثبوت الشفاعة لا يوجب أنه يملك شيئًا، سيما إذا كان محتاجًا فيها إلى الإذن من الله تعالى فقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} "
(3)
.
(1)
تفسير البيضاوي (5/ 70).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 220)، وانظر: تفسير القرطبي (15/ 264).
(3)
حاشية السندي على سنن النسائي (6/ 248).
ثالثًا: أدلة دلت على أن الله هو المالك الحق للشفاعة دون غيره من الآلهة، ومع ملكه التام لها فقد أذن لمن شاء من عباده أن يشفع فيمن شاء منهم، ومن تلك الأدلة:
قوله عز وجل: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86]، وقوله تعالى:{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} [مريم: 87].
نفى الله سبحانه في الآيتين الشفاعة عمن دعي وعبد من دونه ثم استثنى بعد ذلك، وهذا الاستثناء فيه قولان لأهل العلم: الأول: أنه استثناء متصل، فقيل: المستثنى هو الشافع، وقيل بل هو المشفوع له، والثاني: أن الاستثناء في الآية منقطع وهذا هو الراجح
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية بعد ذكره للقولين: "قلت: كِلا القولين معناه صحيح، لكن التحقيق في تفسير الآية أن الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقًا لا يستثنى من ذلك أحد عند الله، فإنه لم يقل: ولا يشفع أحد، ولا قال: لا يشفع لأحد، بل قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ}، وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة البتة، والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "والمقصود هنا أن قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} قد تم الكلام هنا، فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة البتة، ثم استثنى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} فهذا استثناء منقطع، والمنقطع يكون في المعنى المشترك بين
(1)
ورجح هذا القول جمع من أهل العلم منهم الإمام ابن تيمية كما في النقل الآتي، وابن القيم، وابن كثير في تفسيره (3/ 139)، و (4/ 137)، وغيرهم، وانظر: أضواء البيان (3/ 516).
(2)
مجموع الفتاوى (14/ 402)، وانظر: الرد على الإخنائي (ص 135).
المذكورين، فلما نفى ملكهم الشفاعة بقيت الشفاعة بلا مالك لها، كأنه قد قيل: فإذا لم يملكوها هل يشفعون في أحد فقال: نعم"
(1)
.
ويقول الشيخ السعدي في معنى الآية: "أي: ليست الشفاعة ملكهم ولا لهم منها شيء، وإنما هي لله تعالى قل لله الشفاعة جميعًا"
(2)
.
وقد يقال: إن من أَذن الله له في الشفاعة فقد مَلَّكَه ما أُذن له فيه، ولا يقال: إنه مالك للشفاعة بإطلاق، ولكن يقال: إن الله ملكه ذلك بإذن خاص، فهو مالك لما أذن له فيه فقط، أما ما لم يؤذن له فيه فلا يملك منه شيئًا.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وقد بين تعالى في مواضع أخر أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك"
(3)
.
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين في رده على ابن جرجيس على قوله: إن الله ملَّك المؤمنين الشفاعة. فقال: "فإطلاق القول بأن الله ملك المؤمنين الشفاعة خطأ، بل الشفاعة كلها لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}، وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحين يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة يصح أن يقال: إنه مَلَكَ ما أُذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلَّق على الإذن والرضا، لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال"
(4)
.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ
(1)
مجموع الفتاوى (14/ 409).
(2)
تفسير السعدي (ص 500).
(3)
أضواء البيان (3/ 516).
(4)
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص 115).
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 22، 23].
وهذه الآية قطعت أصول الشفاعة الشركية، إذ نفت ملك الآلهة المعبودة لشيء من ذرات الكون لا استقلالًا ولا مشاركة ولا معاونة، ولم تبق إلا الشفاعة فبيّن الله أنها لا تنفع إلا من بعد إذنه سبحانه ورضاه
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "فإن غير الله لا يستقل بفعل شيء البتة،
…
فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين، ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يُشْفَع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "وأما في الملك فلا يمكن أن يكون غيره مالكًا لها، فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكًا لها، بل هذا ممتنع كما يمتنع أن يكون خالقًا وربًّا، وهذا كما قال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} فنفى الملك مطلقًا، ثم قال:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقًا يملك الشفاعة، بل هو سبحانه له الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك
…
ولهذا لما نفى الشفعاء من دونه نفاهم نفيًا مطلقًا بغير استثناء، وإنما يقع الاستثناء إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه
…
فلما قال: {مِنْ دُونِهِ}
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (ص 226).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 205)، وانظر:(7/ 77)، و (8/ 519 - 520).