الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدخل في ذلك الخوف من الأصنام، والأوثان، والجن، والشياطين، والسحرة، والمشعوذين، والكهنة، والعرافين، والمنجمين، والاعتقاد بقدرتهم ومشيئتهم في جلب المصالح ودفع المضار.
ثم يلزم من هذا الاعتقاد أن تقترن بالخائف أمور هي من أعظم أحوال العبادات القلبية؛ من الرجاء، والمحبة، والتعظيم، والمهابة، والخضوع، والذل، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك. وبهذه الأحوال القلبية من الخائف يكون قد جمع بين شرك الربوبية وشرك الإلهية؛ فإن مما لا يخفى أن الشرك في الإلهية هو نتاج وثمرة الإشراك أو التقصير في حق الربوبية، وإلا فإن من وحَّد الله في الربوبية التوحيد الكامل لا يتصور، بل ولا يقع منه الإشراك في الإلهية
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
لقد اعتمد أهل العلم في تقرير معنى هذه القاعدة على أدلة عديدة، أذكر فيما يأتي بعضًا منها، فمن ذلك:
أولًا: ما تواترت به النصوص الشرعية مما حكاه الرب تبارك وتعالى من تخويف المشركين لأنبيائه ورسله وأتباعهم بمعبوداتهم من الأصنام والأوثان، وهذا يدل على أن هذا الخوف الشركي كان مستقرًا في نفوسهم، وقد أشربته قلوبهم، وهو إيصال هذه الأصنام للأذى بتمام قدرتها على ذلك، واستقلال مشيئتها، ومن أجل هذا الخوف كفرهم الله تعالى، ومن تلك النصوص ما يلي:
1 -
قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
(1)
انظر: قاعدة: أنواع التوحيد وأضدادها متلازمة (ص 417) لا ينفك أحدها عن الآخر (ص 382).
دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)} [الزمر: 36].
فقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الكفار عبدة الأوثان يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلاً منهم وضلالًا، ويقولون له: إنها ستضره وتخبله، وهذه عادة عبدة الأوثان يخوفون الرسل بالأوثان
(1)
، ويزعمون أنها ستضرهم، وتصل إليهم بالسوء، ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يخافون غير الله، ولا سيما الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع
(2)
.
يقول الشيخ الشنقيطي: "وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله يخوفون الرسل بالأوثان، ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء، ومعلوم أن أنبياء الله -عليهم صلوات الله وسلامه- لا يخافون غير الله، ولا سيما الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع"
(3)
.
2 -
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام لما خوَّفوه بها: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 80، 81].
والمعنى؛ أي: لا يقع بي مخوف من جهة آلهتكم أبدًا إلا أن يشاء ربي شيئًا، فينفذ ما شاءه، وما شاءه هو منه سبحانه وليس من معبوداتكم الباطلة التي لا تملك شيئًا
(4)
.
فبين لهم عليه السلام أن ما يصيبه من المكروه والأذى فليس ذلك من قبل
(1)
انظر: صحيح البخاري (4/ 1810).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (4/ 55)، وأضواء البيان (6/ 364).
(3)
أضواء البيان (6/ 364).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (4/ 77)، وإغاثة اللهفان (2/ 254).
هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، وهي أقل شأنًا وأحقر منزلة من ذلك؛ فإنها ليست مما يرجى ويخاف، بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعال الذي يفعل ما يشاء، الذي بيده الضر والنفع، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
(1)
.
يقول الإمام الشوكاني في قول إبراهيم عليه السلام لقومه: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} : "قال هذا لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه، وتصيبه بمكروه؛ أي: إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}؛ أي: إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئًا من الضرر بذنب عملته، فالأمر إليه، وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضر ولا تنفع، ثم قال لهم مكملًا للحجة عليهيم، دافعًا لما خوفوه به: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}؛ أي: كيف أخاف ما لا يضر، ولا ينفع، ولا يخلق، ولا يرزق، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله، وهو الضار النافع، الخالق الرازق"
(2)
.
وذلك لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر، والعطاء والمنع، بقدرته ومشيئته، وهذا هو الخوف الذي وقع فيه أهل الشرك مع معبوداتهم
(3)
.
3 -
وقوله تعالى عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)} [هود: 54].
يقول الإمام ابن تيمية: "وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم
(1)
انظر: الصواعق المرسلة (2/ 487)، والبداية والنهاية (1/ 143)، وإيثار الحق على الخلق، لابن الوزير (ص 62 - 63).
(2)
انظر: فتح القدير (2/ 134).
(3)
انظر: التفسير الكبير (13/ 48).
وتدفع البلاء عنهم قد اتخذوها أوثانًا من دون الله، وصاروا يظنون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم، فإنهم كانوا يرجونها، ويخافونها، ويظنون أنها تنفع وتضر؛ ولهذا قالوا لهود عليه السلام:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فقال هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا} إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 - 56] "
(1)
.
فظهر مما سبق من أدلة: حقيقة الخوف الذي أشرك به المشركون، وخوفوا به أنبياء الله ورسله، وهو الخوف الغيبي من الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها ويعتقدون فيها القدرة التامة، والمشيئة النافذة.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله"
(2)
.
ثانيًا: النصوص الدالة على أن الخوف عبادة خاصة بالله تعالى، ولا يجوز صرفه لغيره سبحانه وتعالى، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد الذي في قلبه يكون خوفه من ربه تبارك وتعالى، وإذا انعدم الخوف بالكلية من القلب، تبعه الإيمان فلا يكون في القلب إيمان، فهما متلازمان، ومن تلك النصوص ما يلي:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].
نهى الله تعالى في هذه الآية عن خوف غيره، وأمر بالخوف منه وحده، وهذا الأمر بالخوف منه وحده يدل على أن الخوف عبادة لله تعالى، ويجب أن لا يصرف إلا إليه سبحانه، بل جعله سبحانه من لوازم الإيمان ومقتضياته، وأما الخوف المحرم الممنوع فهو كما سبق على ضربين؛ أقله ما صرفك عن الطاعة وحملك على المعصية، وأكبره
(1)
الرد على الأخنائي (ص 56).
(2)
أضواء البيان (6/ 364).
وأعظمه يخرج من الدين بالكلية، ولا يبقى معه إيمان في القلب، وهو الذي يتضمن اعتقاد الخائف في المخوف بأن له القدرة التامة، والمشيئة النافذة؛ سواء عن طريق الاستقلال، أو عن طريق الكرامة لهم من الله لمكانتهم وقربهم منه سبحانه، والآية الكريمة نصت على أن هذا الخوف من لوازم الإيمان ومقتضياته.
قال البيضاوي: "فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وقد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} ، فجعل الخوف منه شرطًا في تحقيق الإيمان، وإن كان الشرط داخلًا في الصيغة على الإيمان فهو المشروط في المعنى، والخوف شرط في حصوله وتحققه؛ وذلك لأن الإيمان سبب الخوف الحاصل عليه، وحصول المُسَبَّب شرط في تحقيق السبب، كما أن حصول السبب مُوْجِب لحصول مُسَبَّبِهِ، فانتفاء الإيمان عند انتفاء الخوف انتفاء للمَشْرُوط عند انتفاء شرطه، وانتفاء الخوف عن انتفاء الإيمان انتفاء للمعلول عند انتفاء عِلَّتِهِ فتدبره، والمعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني
…
فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضي للخوف وهو الإيمان، وكل منهما مستلزم للآخر، لكن الاستلزام مختلف، وكل منهم منتف عند انتفاء الآخر، لكن جهة الانتفاء مختلفة كما تقدم، والمقصود أن الخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يختلف عنه"
(2)
.
وقال أيضًا: "فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم"
(3)
.
(1)
تفسير البيضاوي (2/ 118).
(2)
طريق الهجرتين (ص 422 - 423).
(3)
إغاثة اللهفان (1/ 110).