الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]، وأسباب السموات: أبوابها؛ لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، وقال زهير بن أبي سلمى:
ومَنْ هابَ أسبابَ الْمَنِيَّةِ يَلْقَهَا
…
ولو رامَ أسبابَ السَّماء بسُلَّمِ
(1)
والمودة بين القوم تسمى سببًا؛ لأنهم بها يتواصلون وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك أسبابًا؛ لأنَّها كانت يتوصل بها إلى مسبباتها
(2)
.
*
المسألة الثانية * معنى القاعدة
لقد بيَّنت القاعدة إحدى القضايا المتعلقة بالأسباب، وهي مسألة الاعتقاد في الأسباب، وكونها مؤثرة في المُسَبَّبات بذاتها بدون قدرة الله تعالى ومشيئته، أو مع المشاركة لله تعالى في القدرة والتأثير، والقاعدة نصت على أن هذا الاعتقاد شرك بالله تعالى يخرج صاحبه عن دائرة الإسلام، ويبطل الإيمان الذي في قلبه.
كما أشارت القاعدة إلى أن هذا الاعتقاد يعتبر شركًا في الربوبية لكونه اعتقد أن ثمة مشاركًا لله تعالى في الخلق والإيجاد والتأثير، وهذا شرك في أخص صفات الربوبية، كما أن اعتقاد تأثير الأسباب بذاتها شرك في الألوهية أيضًا؛ لما تقرر من أن الشرك في الربوبية مستلزم للشرك في الإلهية ولا بد، فمن اعتقد في تأثير الأسباب بذاتها، بقدرتها ومشيئتها الخاصة فلا بد أن يصرف لها شيئًا من العبادة القلبية من التوكل
(1)
انظر: الحماسة المغربية، لأبي العبادس الجرواي (21/ 1216)، وجمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي (ص 94)، وخزانة الأدب وغاية الأرب، للحموي (1/ 422).
(2)
انظر: المحكم والمحيط الأعظم (8/ 424)، ولسان العرب (1/ 458)، والتفسير الكبير (4/ 190 - 191)، ومشارق الأنوار (2/ 202)، وشفاء العليل (ص 190).
عليها التوكل الشركي، ومن تفويض الأمور إليها، وما يتبع ذلك من الخوف والمحبة والرجاء، وغير ذلك من العبادات القلبية.
ولزيادة التوضيح في معنى القاعدة لا بد من التقديم بمقدمة تبيّن أصل مسألة الأسباب، ومعرفة الموقف الشرعي منها، فيقال:
لا يخفى أن الله خلق هذا العالم، وجعل له سننًا كونية لا تتغير ولا تتبدل إلا أن يشاء الله تعالى ذلك، كما قال سبحانه:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، ومن تلك السُنن الكونية أن جعل لكل شيء سببًا، وربط بين المسببات والأسباب، وبين النتائج والمقدمات، إذ هو خالق الأسباب والمُسَبَّبَات، فهو خالق للسبب وجعله مؤثرًا ومنتجًا للمُسَبَّب، وإن كان السبب لوحده لا يوجب المُسَبَّب، بل لا بد أن يضم الله إليه أمورًا أخرى، وأن يدفع عنه آفات كثيرة، وأنه قد يخلق المسبب بدون السبب، إذ ليس في الكون ما يستقل بإحداث شيء إلا مشيئة الله تعالى وقدرته، فهو سبحانه وتعالى الوحيد الذي يستقل بإحداث الأشياء بخلق أسبابها، وقد يحدثها بغير أسباب سوى مشيئته سبحانه
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة، وسبب تام للحوادث؛ بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لا بد أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه
(1)
انظر: جامع الرسائل (1/ 152).
وحده شيء"
(1)
.
والأسباب التي جعلها الله تعالى منتجة لمسبَّباتها منها ما هي أسباب كونية، ومنها ما هي أسباب شرعية دلَّ الشرع الحكيم على كونها أسبابًا، وأمر بها؛ فمن أعظم الأسباب الشرعية الموصلة إلى رضوان الله وجنته الإيمان بالله تعالى وإفراده بالعبادة، وعدم الإشراك به، والتوكل عليه، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعته، والإيمان بالقرآن وكونه كلامه منه بدأ وإليه يعود، فهذه أعظم الأسباب التي ينال بها العبد رحمة الله ومغفرته ورضوانه.
أما في الأمور الكونية فقد جعل الله جل وعلا بعض الأمور أسبابًا منتجة لمسبَّباتها، فمن ذلك أنه جعل الماء منبتًا للزرع، قال عز وجل:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)} [ق: 9]، وجعل سبحانه الولد مسببًا عن النكاح بين الرجل والمرأة وحصول الوقاع بينهما فتحمل به بإذن الله. كما أنه سبحانه جعل الماء العذب سببًا كونيًا لإزالة العطش، بخلاف الماء المالح فلم يجعله سببًا كونيًا لإزالة العطش. وجعل النار سببًا للإحراق، وجعل في الماء خاصية إطفاء النار، وهكذا.
وخلقه سبحانه وتعالى للأسباب وتأثيراتها ونتائجها من المُسَبَّبات من أعظم النعم التي أنعم بها على بني الإنسان
(2)
؛ لتستقيم حياتهم، وأمرهم بمعالجة هذه الأسباب والعمل بها، سواء الكونية أو الشرعية للوصول إلى نتائجها ومسبباتها، مع الاعتماد التام على خالق السبب والمسبب وهو الرب تبارك وتعالى، فإنَّه هو الذي جعل هذه الأسباب تنتج المسبَّبات.
مع ملاحظة أنه يشترط في الأخذ بالأسباب الكونية أن تكون مشروعة، أما إذا كانت محرمة فلا يجوز تعاطيها وإن ثبتت سببيتها
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 133).
(2)
انظر: شفاء العليل (ص 37).
وتأثيرها وإنتاجها للمسبب؛ وذلك كالتداوي بالمحرمات فإنه لا يجوز لمنع الشرع من ذلك وإن ثبت نفعه وتأثيره.
وخلاصة الأمر أن من الأسباب ما ينتج المسبَّب كونًا، ومنها ما لا ينتجه، فإذا كان ينتج المسبب كونًا وذلك حسب العادة والعرف، فينظر بعد ذلك في إباحته الشرعية، فإنْ أَباحته الشريعة فهو سبب شرعي وقدري، وإذا لم تبحه كان سببًا كونيًا، كالتداوي بالمحرمات، وليس بسبب شرعي فهذا النوع لا يجوز تعاطيه شرعًا.
وإذا كان السبب لا ينتج المسبب كونًا وقدرًا فمثله لا يأتي الإذن به شرعًا، فلا يجوز تعاطيه
(1)
.
ومما ينبغي معرفته أن يعلم أن الأسباب لا تؤثر أصلًا بنفسها، وإنما تأثيرها بتقدير الله أن يرتب عليها مسبباتها، وأنها لا تنفع ولا تضر بذاتها، ولا تؤثر بنفسها، بل الأسباب ومسبباتها تحت مشيئة الله سبحانه، والله تعالى هو الذي أودع في الكون الأسباب والمسببات التي قام بها الخلق والأمر، وهو الذي خلق من الأسباب ما خلق به المسببات
(2)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "وأما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون، وانتفاء معارض مانع، وجعلها مخلوقة لله، فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن، ودل عليه العيان والبرهان؛ فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات"
(3)
.
(1)
وذلك كمن يعلق خيطًا لدفع العين مثلًا؛ إذ ليس في الخيط سببية دفع العين لا حسًّا ولا كونًا ولا أُذن في ذلك شرعًا؛ كمن يعلق التمائم التي هي طلاسم أو خرزات أو جلد فكل ذلك لا أثر له قدرًا وكونًا، وهو غير مأذون به شرعًا، بل هو من الشرك الأصغر.
(2)
انظر: تفسير البيضاوي (1/ 373).
(3)
درء التعارض (9/ 348)، وانظر: الصفدية (1/ 222)، وتلخيص كتاب الاستغاثة =
ويقول أيضًا: "فمعلوم أن السبب لا يستقل بالحكم، فمجرد نزول المطر ليس موجبًا للنبات، بل لا بد من أن يخلق الله أمورًا أخرى، ويدفع عنه الآفات المانعة فيربيه بالتراب والشمس والريح ويدفع عنه ما يفسده، فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضل من الله أكبر منه"
(1)
.
فالأسباب الكونية أو الشرعية مؤثرات، ولكن تأثيرها ناقص، لا يحصل المسبب بها وحدها، وإنما المؤثر التام هو إرادة الله الكونية القدرية، ومشيئته النافذة فإن المراد لا يتأخر عنهما أبدًا.
يقول الإمام الشاطبي: "إذ كان واجبًا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها، وإنما الفاعل فيها مسببها سبحانه؛ لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة، وقد يخرقها إذا شاء لمن شاء، فمن حيث كانت عادة اقتضت الدخول في الأسباب، ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها"
(2)
.
والقاعدة نصت على أن من اعتقد في فاعلية الأسباب وتأثيرها بذاتها بدون مشيئة الله وقدرته النافذة، كان مشركًا الشرك الأكبر السالب للإيمان بالكلية، وذلك كحال عباد الأصنام وعباد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالًا، وهذا عام في جميع الأسباب سواء كانت كونية أو شرعية.
أما من تعاطى الأسباب بدون اعتقاد فيها، وأنها لا تؤثر بذاتها، ولكنه اعتمد عليها واطمأن لها بدون التفات إلى خالقها وخالق أثرها كان
= (1/ 426)، وشفاء العليل (ص 37)، ومنهاج التأسيس والتقديس، للشيخ عبد اللطيف (ص 205).
(1)
جامع الرسائل، لابن تيمية (1/ 146).
(2)
الموافقات (1/ 206 - 207).