الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجل السلامة من الشرك كبيره وصغيره، وتخليص القلوب لربها ومالكها.
والقاعدة دلت على أن من المقاصد الشرعية، والقواعد المرعية في شريعة الإسلام سدّ باب الذرائع المؤدية إلى الشرك، والموصلة إلى تعليق القلوب لغير باريها وخالقها.
*
المسألة الثالثة* أدلة القاعدة
لقد حازت هذه القاعدة العظيمة على مكانة كبيرة في الشرع، ولذا فلا تكاد تحصر أدلتها من حيث عمومها إلا بشيء من الجهد، وفيما يأتي أذكر بعض ما وقفت عليه من ذلك، وسيكون التركيز على الأدلة المتعلقة بالعقيدة، والتي فيها سد الطرق المؤدية والموصلة إلى الشرك بجميع أنواعه، وقد أذكر بعض الأدلة العامة التي فيها اعتماد القاعدة عمومًا:
أولًا: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108].
وجه الاستدلال من الآية: أن الله تعالى منع أهل الإيمان من سبِّ آلهة المشركين، ومن المعلوم أن سبَّ آلهتهم دائر بين الوجوب والندب والإباحة، ولكنه لما كان سبّ آلهتهم قد يفضي إلى سبّهم لله تعالى نهي عن ذلك؛ سدًا لهذه المفسدة وهذه الذريعة، وهي شتمهم لله تعالى، وظاهر الآية وإن كان نهيًا عن سبِّ الأصنام فحقيقته النهي عن سب الله تعالى؛ لأنَّه سبب لذلك
(1)
.
(1)
ولكن كيف يقع من مشركي قريش وغيرهم سبّ الله تعالى مع إيمانهم بوجود الله تعالى، وعدم إنكارهم له، واعتقادهم بربوبيته سبحانه وتعالى، وقد ذكر الرازي بعض الأوجه التي تزيل هذا الإشكال فقال: "واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود =
يقول الإمام ابن تيمية في معرض ذكره لدلالة الآية على سد الذرائع: "حرَّم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبهم سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبّنا لآلهتهم"
(1)
.
ويقول الإمام ابن كثير في معنى الآية: "يقول الله تعالى ناهيًا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سبِّ آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين وهو: الله لا إله إلا هو، ومن هذا القبيل ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها"
(2)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في معنى الآية: "ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزًا، بل مشروعًا في الأصل وهو سب آلهة المشركين التي اتخذت أوثانًا وآلهة مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها، ولكن لما كان هذا السب طريقًا إلى سب المشركين لرب العالمين الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب وآفة وسب وقدح
= الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله، بل هاهنا احتمالات؛ أحدها: أنه ربما كان بعضهم قائلًا بالدهر، ونفي الصانع، فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة.
وثانيها: أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى،
…
وثالثها: أنه ربما كان في جُهّالهم من كان يعتقد أن شيطانًا يحمله على ادعاء النبوة والرسالة، ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل".
وقال ابن الجوزي رحمه الله: " (فيسبوا الله)؛ أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسبّ الله تعالى؛ لأنَّهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به". [انظر: التفسير الكبير (13/ 115)، وتفسير السمعاني (2/ 135)، وزاد المسير (3/ 102)، وتفسير البغوي (2/ 122)، ومرقاة المفاتيح (7/ 354)].
(1)
الفتاوى الكبرى (3/ 258).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (2/ 165).
نهى الله عن سب آلهة المشركين؛ لأنَّهم يتحمسون لدينهم ويتعصبون له؛
…
وفي هذه الآية الكريمة دليل للقاعدة الشرعية وهي: أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرَّم ولو كانت جائزة تكون محرمة إذا كانت تفضي إلى الشر"
(1)
.
ولكن إذا كان شتم المؤمنين للأصنام من الطاعات العظيمة التي يحبها الله تبارك وتعالى، فما هي الحكمة من نهي الله تعالى عن سب آلهتهم، والجواب: أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم وجب الاحتراز منه، والأمر هاهنا كذلك؛ لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله، وشتم رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى فتح باب السفاهة، وعلى تنفيرهم عن قبول الدين، وإخال الغيظ والغضب في قلوبهم؛ فلكونه مستلزمًا لهذه المنكرات وقع النهي عنه
(2)
.
ثانيًا: قوله تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104].
تضمنت الآية الكريمة نهي المؤمنين عن قول (راعنا) للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لكون اليهود كانوا يقولونها على أساس أنها (راعن) من الرعونة، وهي الجهل، يقولونها بقصد إيذائه عليه السلام، فيظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويبطنون أنهم يريدون الرعونة، فنهى الله المسلمين عن قول هذه الكلمة سدًّا لذريعة الاتفاق الواقع في المعنى بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود، والمسلمون قصدوا من (راعنا)؛ أي: انظرنا واسمع لنا، فنهى الله المؤمنين عن هذا القول سدًّا للذريعة لئلا يتطرق
(1)
تفسير السعدي (ص 268 - 269).
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 115)، وما ذكره شيخ الإسلام في الصارم المسلول (3/ 924).
منه اليهود إلى المحظور
(1)
.
يقول الإمام الطبري في تفسير الآية: "والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه (راعنا) أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة"
(2)
، "ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي"
(3)
، وما أشبه ذلك من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما واختيار الأخرى عليها في المخاطبات"
(4)
.
ويقول الإمام ابن القيم في الآية: "نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود
(1)
انظر: تفسير البغوي (1/ 102)، التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 56)، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 189)، وقال الرازي في تفسيره:"كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم شيئًا من العلم: راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابُّون بها تشبه هذه الكلمة، وهي (راعينا)؛ ومعناها: اسمع لا سمعت، فلما سمعوا المؤمنين يقولون راعنا افترضوه، وخاطبوه به النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله: (انظُرْنَا)، ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] ".
وذكر الإمام السمعاني قولًا آخر في حكمة النهي عن كلمة (راعنا) فقال: "والقول الثاني: أن قولهم راعنا كان فيه جفوة وخشونة؛ لأن حقيقته: (فرغ سمعك لكلامنا حتى تفهم)، وفي هذا نوع جفاء، فنزل قوله: {تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، حتى يقولوا ما يقولون على طريق التبجيل والمسألة، ويختاروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أحكمها". [انظر: تفسير الرازي الكبير (3/ 203)، وتفسير السمعاني (1/ 120)].
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير (22/ 13) برقم (14)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 509)، برقم (10620)، مع بعض الاختلاف، وأوله ثابت عند البخاري (5/ 2286) برقم (5828)، ومسلم في صحيحه (4/ 1763)، برقم (2247)، من رواية أبي هريرة أيضًا.
(3)
سيأتي تخريجه انظر: (ص 978).
(4)
تفسير الطبري (1/ 471).
في أقوالهم، وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلًا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها سدًا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهًا بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون"
(1)
.
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والدَيْهِ"، قيل: يا رَسول الله وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ، قال:"يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباهُ ويَسُبُّ أمّهُ فَيَسُبُّ أُمّهُ"
(2)
.
قال ابن بطال: "هذا الحديث أصل في سد الذرائع ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإنْ لم يقصد إلى ما يحرم والأصل في هذا الحديث قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] "
(3)
.
ويقول الإمام ابن تيمية بعد ذكره للحديث: "فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه، فكيف إذا سب هو أباه مباشرة، فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين"
(4)
.
رابعًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة أمور تتعلق بالقبور؛ كبناء المساجد عليها، بل لعن من فعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن تجصيصها وتشريفها، ونهى عن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدًا، وعن شد الرحال إليها
(5)
.
(1)
إعلام الموقعين (3/ 137).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، (5/ 2228)، رقم (5628)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، (1/ 92)، رقم (90).
(3)
فتح الباري (10/ 404).
(4)
مجموع الفتاوى (34/ 226).
(5)
انظر الأدلة على ما سبق: صحيح البخاري (1/ 168)، برقم (425، 426)،=
كل ذلك لئلا تكون هذه الأمور ذريعة إلى الغلو فيها، واتخاذها أوثانًا والإشراك بها، وقد منع صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور سواء قصدها المسلم أم لم يقصدها، بل منع من قصد خلافها سدًّا للذريعة
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "واتخاذ المكان مسجدًا: هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها، كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدًا إنما يقصد فيه عبادة الله، ودعاؤه، لا دعاء المخلوقين، فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر، ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله، والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه"
(2)
.
ويقول الإمام ابن عبد الهادي
(3)
: "فإن النصوص التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله؛ من الصلاة عندها وإليها، واتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وشد الرحال إليها، وجعلها أعيادًا يجتمع لها كما يجتمع للعيد، ونحو ذلك
= وصحيح مسلم (2/ 668)، برقم (3164)، وسنن الترمذي (3/ 368)، برقم (1052)، وسنن النسائي الكبرى (1/ 653)، بقم (2155، 2156)، ومصنف ابن ابي شيبة (3/ 25)، برقم (11764).
(1)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 139).
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 163 - 164)، وانظر: اقتضاء الصراط (404، 405، 423).
(3)
هو: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، الإمام المحدث الحافظ، الحاذق الفقيه، النحوي اللغوي ذو الفنون، ولد سنة 705 هـ، من مؤلفاته: شرح على التسهيل والأحكام في الفقه، والصارم المنكي، وله المحرر في اختصار الإلمام، وغيرها، مات في جمادى الأولى سنة 744 هـ. [ترجمته في: شذرات الذهب (6/ 141)، وطبقات الحفاظ (ص 524 - 525)].
صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة، ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير، وهو أصل أسباب الشرك، والفتنة به في العالم"
(1)
.
ويقول الحافظ ابن حجر في مسألة اتخاذ المساجد على قبور الصالحين مرجحًا للمنع من ذلك سدًّا للذريعة: "وقد يقول بالمنع مطلقًا من يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي "
(2)
.
ونقل الإمام الصنعاني عن الشيخ شَرَفِ الدِّين الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَغْرِبِيِّ
(3)
فقال: "وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُعَبَّرُ فِيهَا بِاللَّعْنِ وَالتَّشْبيهِ بِقَوْلِهِ: "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله" تُفِيدُ التَّحْرِيمَ لِلْعِمَارَةِ، والتَّزْيِينِ، وَالتَّجْصِيصِ وَوَضْعِ الصُّنْدُوقِ الْمُزَخْرَفِ، وَوَضْعِ السَّتَائِر عَلَى الْقَبْرِ، وَعَلَى سَمَائِهِ، وَالتَّمَسُّحِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي مَعَ بُعْدِ الْعَهْدِ، وَفشو الْجَهْلِ إِلَى مَا كَانَ عَليْهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَكَانَ فِي الْمَنْعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ قَطَعًا لِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسادِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ؛ مِنْ جَلْبِ الْمَصالِحِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدَ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَنْفُسِهَا، أَوْ بِاعْتِبارِ مَا تُفْضي إِلَيْهِ"
(4)
.
(1)
الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص 459).
(2)
فتح الباري (3/ 208).
(3)
هو: الحسين بن محمد بن سعيد بن عيسى اللاعي المعروف بالمغربي، قاضي صنعاء وعالمها ومحدثها، ولد سنة 1048 هـ، وبرع في عدة علوم، وأخذ عنه جماعة من العلماء، وهو مصنف: البدر التمام شرح بلوغ المرام، وهو شرح حافل ومفيد، وقد اختصره السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، وسمى المختصر: سبل السلام، وله رسالة في حديث:"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، وكان أخوه الحسن من محاسن اليمن، ولهذين الأخوين ذرية صالحة هم ما بين عالم وعامل وإلى الآن وهم كذلك، وبيتهم معمور بالفضائل، توفى صاحب الترجمة سنة 1119 هـ، وقيل: سنة 1115 هـ. [ترجمته في: البدر الطالع (1/ 230 - 231)].
(4)
سبل السلام (2/ 111).
ويقول الإمام الشنقيطي في المسألة: "ومعلوم أن قبور الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ليست نجسة، فالعلة للنهي سد الذريعة؛ لأنَّهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور، فالظاهر من النصوص المذكورة منع الصلاة عند المقابر مطلقًا"
(1)
.
ويقول محمد ابن الحاج
(2)
: في حكم البناء على القبور: "وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيمًا وتعظيمًا فذلك يهدم ويزال؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبيهًا بمن كان يعظم القبور ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني، وظاهر النهي ينبغي أن يقال: هو حرام"
(3)
.
ويقول الإمام الصنعاني في علة تحريم البناء على القبور: "والظاهر أن العلة سدُّ الذريعة، والبعد عن التشبيه بعبدة الأوثان، الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر؛ ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنَّه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يُبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر"
(4)
.
خامسًا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في عباداتهم وفي هديهم الظاهر؛ لئلا تكون هذه المشابهة ذريعة للمشابهة في الباطن، وليحصل كمال التمييز، فإن المشابهة في الظاهر تدعو إلى المشابهة في
(1)
أضواء البيان (2/ 296)، وانظر:(8/ 351).
(2)
هو: محمد بن محمد، أبو عبد الله العبدري، المعروف بابن الحاج، نسبته إلى قبيلة عبد الدار، نزيل مصر، ومن أعيان المالكية، كان قاضيًا فقيهًا عارفًا بمذهب الإمام مالك، فاضلًا تفقه في بلاده، وقدم مصر، وحج، وكف بصره في آخر عمره وأقعد، وتوفي بالقاهرة، عن نحو 80 عامًا، من تصانيفه: مدخل الشرع الشريف، وشموس الأنوار، وكنوز الأسرار، مات سنة 737 هـ. [ترجمته في: الديباج المذهب (ص 327)، والأعلام للزركلي (7/ 35)].
(3)
المدخل، لابن الحاج (3/ 264).
(4)
سبل السلام (1/ 153).
الباطن بحسبها، وهذا أمر معلوم بالمشاهدة، قد دلَّ عليه الشرع والعقل والحس
(1)
.
وكما نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح؛ فإن الكفار يسجدون للشمس في هذين الوقتين، فمنع من الصلاة فيهما سدًّا للذريعة.
يقول الإمام ابن تيمية: "فإن المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة، والتدريج الخفي، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضًا مناسبة، وائتلافًا وإن بعد المكان والزمان، فهذا أيضًا أمر محسوس.
فمشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له، وكل ما كان سببًا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "ونهى عن التشبه بأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة؛ لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة؛ فإنه إذا أشبه الهدي الهدي، أشبه القلب القلب"
(3)
.
كما نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة؛ كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"
(4)
، وقوله: "خالفوا اليهود فإنهم
(1)
انظر: أحكام أهل الذمة (3/ 1282 - 1283)، والفروسية (ص 121).
(2)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 220).
(3)
إغاثة اللهفان (1/ 364)، وانظر: إعلام الموقعين (3/ 1139 - 1140).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3/ 1275)، برقم (3275)، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة (13/ 663)، برقم (2103).
لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم"
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم في صيام عاشوراء:"فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"
(2)
، مخالفة لليهود، وقوله:"ليس منا من تشبه بغيرنا"
(3)
، وقوله:"من تشبه بقوم فهو منهم"
(4)
، وسر ذلك أن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل
(5)
.
يقول الإمام ابن كثير: "والمقصود من هذه الأخبار عما يقع من الأقوال، والأفعال المنهي عنها شرعًا، مما يشابه أهل الكتاب قبلنا: أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم، وأفعالهم، حتى لو كان
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (1/ 176)، برقم (652)، والبزار في مسنده (8/ 405)، برقم (3480)، وابن حبان في صحيحه، في ذكر الأمر بالصلاة في الخفاف والنعال إذا أهل الكتاب لا يفعلونه (5/ 561)، برقم (2186)، والبيهقي في سننه، باب: سنة الصلاة في النعلين (2/ 432)، برقم (4056)، والحاكم في المستدرك (1/ 391)، برقم (956)، وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني. [انظر: صحيح الجامع (1/ 553)، برقم (3210)].
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (2/ 797)، برقم (1134)، وانظر: مسند أحمد (1/ 236)، برقم (2106)، ومصنف ابن أبي شيبة (2/ 313)، برقم (9381)، والمعجم الكبير (11/ 16)، برقم (10891).
(3)
أخرجه الترمذي في سننه، باب: ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام، (5/ 56)، برقم (2695)، وقال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ضعيف، وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه، والطبراني في المعجم الأوسط (7/ 238)، برقم (7380)، قال الشيخ الألباني:(قلت: والموقوف أصح إسنادًّا؛ لأن حديث ابن المبارك عن ابن لهيعة صحيح؛ لأنه قديم السماع منه). انظر: إرواء الغليل (5/ 111)، وصحيح الجامع رقم (5434).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب: في لبس الشهرة (4/ 44)، برقم (4031)، ومصنف ابن أبي شيبة (6/ 471)، برقم (33016)، قال الشيخ الألباني:"قلت: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات غير ابن ثوبان هذا ففيه خلاف". [إرواء الغليل (5/ 109)].
(5)
إعلام الموقعين (3/ 140).
قصد المؤمن خيرًا؛ لكنه تشبه، ففعله في الظاهر فعلهم، وكما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا تشابه المشركين الذين يسجدون للشمس حينئذٍ، وإن كان المؤمن لا يخطر بباله شيء من ذلك بالكلية، وهكذا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104]، فكان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كلامهم معه (راعنا)؛ أي: انظر إلينا ببصرك، واسمع كلامنا، ويقصدون بقولهم:(راعنا) من الرعونة: فنهى المؤمنين أن يقولوا ذلك، وإن كان لا يخطر ببال أحد منهم هذا أبدًا
…
فليس للمسلم أن يتشبه بهم؛ لا في أعيادهم، ولا مواسمهم، ولا في عباداتهم؛ لأن الله تعالى شرف هذه الأمة بخاتم الأنبياء، الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل، الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة، وعيسى ابن مريم الذي أنزل عليه الإنجيل حين لم يكن لهما شرع متبع، بل لو كانا موجودين، بل وكل الأنبياء لما ساغ لواحد منهم أن يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة، فإذا كان الله تعالى قد من علينا بأن جعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يليق بنا أن نتشبه بقوم قد ضلُّوا من قبل، وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل، قد بدَّلوا دينهم، وحرّفوه، وأوَّلوه حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولًا، ثم هو بعد ذلك كله منسوخ، والتمسك بالمنسوخ حرام لا يقبل الله منه قليلًا ولا كثيرًا، ولا فرق بينه وبين الذي لم يشرع بالكلية"
(1)
.
سادسًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم عن التشريك في اللفظ بين الله وبين عباده؛ سواء في مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو في التخاطب فيما بينهم؛ وذلك سدًّا لذريعة التشريك في المعنى والاعتقاد.
(1)
البداية والنهاية (2/ 145).
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس وعيهنما: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني والله عدلًا بل ما شاء الله وحده"
(1)
.
يقول الإمام ابن القيم مبينًا حرصه عليه السلام على أصحابه: "وذم الخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى"
(2)
؛ سدًّا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له ما شاء الله وشئت:(أجعلتني لله ندًا)، فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدّها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه، وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمَّها"
(3)
.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول السيد عبدي وأَمَتي، وعن قول المملوك ربي؛ وذلك سدًّا لذريعة التشريك في المعنى.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: "لا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ، ولْيَقُلْ سَيِّدي ومَوْلاي، ولا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتي ولْيَقُلْ فَتايَ وفَتَاتي وغُلامِي"
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 214)، برقم (1839)، و (1/ 283)، برقم (2561)، و (1/ 347)، وسنن النسائي الكبرى، كتاب: عمل اليوم والليلة، باب: النهي أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان (6/ 245)، برقم (10825)، ومصنف ابن أبي شيبة (6/ 74)، برقم (29573)، والمعجم الكبير (12/ 244)، برقم (13006)، وحسّن إسناده العراقي. انظر: المغني عن حمل الأسفار (2/ 835)، حديث رقم (3066)، وكذا حسنه الشيخ الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 85)، حديث رقم (1093).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة (2/ 594)، برقم (870)، وأبو داود في سننه (4/ 295)، برقم (4981)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 74)، برقم (29574)، وابن حبان في صحيحه (7/ 37)، برقم (2798)، وانظر: خطبة الحاجة للشيخ الألباني (ص 15) وما بعدها.
(3)
إعلام الموقعين (3/ 146).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق وقوله =
قال الإمام النووي: "قال العلماء مقصود الأحاديث شيئان، أحدهما: نهى المملوك أن يقول لسيده ربي؛ لأن الربوبية إنما حقيقتها لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك أو القائم بالشيء، ولا يوجد حقيقة هذا إلا في الله تعالى
…
الثاني: يكره للسيد أن يقول لمملوكه عبدي وأَمَتي، بل يقول غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي؛ لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى؛ ولأن فيها تعظيمًا بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه"
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجر: "فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى العلة في ذلك؛ لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى؛ ولأن فيها تعظيمًا لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه"
(2)
.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ في بيان علة النهي: "لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية، فنهى عن ذلك أدبًا مع جناب الربوبية، وحماية لجناب التوحيد"
(3)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في توجيه النهي: "لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، منهي عن المضاهاة بهذا الاسم، لما فيه من التشريك في اللفظ، وإن كان يطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه تحقيقًا للتوحيد، وسدًّا لذرائع الشرك، والله تعالى رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فنهى عن ذلك لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، وإنما
= عبدي أو أمتي (2/ 901)، برقم (2414)، ومسلم صحيحه، كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (4/ 1764)، برقم (2249)، والنسائي في السُّنن الكبرى (6/ 69)، برقم (10070)، وأبو داود في سننه (4/ 294)، برقم (4975)، وأحمد في المسند (2/ 316)، برقم (8182).
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 6 - 7). وانظر: الأذكار للنووي (ص 289).
(2)
فتح الباري (5/ 180).
(3)
تيسير العزيز الحميد (ص 555).