الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عابدًا وقاصدًا من جهة الالتزام"
(1)
.
ويقول الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: "فعلى هذا فنهيه سبحانه عن دعاء غيره نص في دعاء العبادة ودعاء المسألة حقيقة، فهو نهي عن كل واحد منهما حقيقة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} [فاطر: 13]، فهذا يتناول نوعي الدعاء"
(2)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
فيما يأتي أذكر بعض ما ظهر لي من فوائد لهذه القاعدة:
الأولى: شمول الاستدلال بالأدلة التي ورد فيها النهي عن دعاء غير الله تعالى وبطلانه لحرمة وبطلان التوجه بجميع العبادات لغير الله تعالى؛ لأن النهي عن دعاء غير الله -هو في حكم الشرع وبحسب ما نصت القاعدة- نهي عن السجود والذبح والنذر والرجاء والمحبة والخضوع لغير الله تعالى، وغيرها من كل ما هو داخل تحت مسمى العبادة الشرعية.
ولذلك يستدل أهل العلم بالآيات التي فيها النهي عن دعاء غير الله تعالى على بطلان وحرمة التوجه بجميع العبادات لغيره عز وجل، وكذلك الأمر بإفراد وإخلاص الدعاء لله تعالى وحده هو أمر بإخلاص جميع ما هو عبادة شرعًا، وذلك استنادًا على هذه القاعدة.
الثانية: تناول لفظ الدعاء الشرعي في نصوص القرآن الكريم لدعاء العبادة ودعاء المسألة ليس هو من باب استعمال اللفظ المشترك
(3)
في
(1)
شرح العمدة (4/ 29).
(2)
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص 102).
(3)
قال الرازي: "الفظ المشترك: هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا =
معنييه، وإنما هو من باب استعمال اللفظ في حقيقته المشتملة على المعنيين جميعًا، فهو من باب الألفاظ المتواطئة
(1)
، التي وضعت لمعنى واحد صادق على أفراد، وليست موضوعة لمعانٍ متعددة
(2)
، فالأسماء المتواطئة إنما تقتضى أن يكون بين المسميين قدر مشترك وإن كان المسميان مختلفين أو متضادين
(3)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "وعلى هذا فقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]: يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية؛ قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني، والقولان متلازمان، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعًا، فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع، وقل ما يُفْطَن له، وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدًا فهي من هذا القبيل"
(4)
.
= أولًا من حيث هما كذلك"، وقال الجرجاني: "المشترك: ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير؛ كالعين لاشتراكه بين المعاني". [انظر: المحصول للرازي (1/ 359)، والتعريفات (ص 274)].
(1)
قال الجرجاني: "المتواطئ: هو الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية؛ كالإنسان والشمس فإن الإنسان له أفراد في الخارج، وصدقه عليها بالسوية، والشمس لها أفراد في الذهن، وصدقها عليها أيضًا بالسوية". [التعريفات (ص 257)، وانظر: التمهيد للأسنوي (ص 80)، والتوقيف على مهمات التعاريف (ص 635)].
(2)
انظر: القواعد والفوائد الأصولية، لعلي بن عباس البعلي الحنبلي (ص 66).
وقال المرداوي: "والفرق بين الاشتراك والتواطؤ: أن الاشتراك يقال على كل واحد منهما بانفراده حقيقة بخلاف المتواطئ فإنه لا يقال حقيقة إلا عليهما مجتمعين لا غير والله أعلم". [الإنصاف (8/ 5 - 6)].
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (5/ 212).
(4)
مجموع الفتاوى (15/ 11)، ويقول أيضًا: "واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدًا فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر، أو حقيقة فيما يختص به كل =
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين بعد نقله لكلام الإمام ابن القيم -وهو بمعنى كلام شيخ الإسلام-: "فعلى هذا فنهيه سبحانه عن دعاء غيره نص في دعاء العبادة ودعاء المسألة حقيقة، فهو نهي عن كل واحد منهما حقيقة"
(1)
.
ثالثًا: قد يقترن بسياق النصوص الوارد فيها الدعاء ما يرجح أحد النوعين على الآخر مع اعتبار الآخر، وكونه داخلًا في معنى النص، فقد يقترن ببعض النصوص من القرائن ما يجعل دعاء العبادة أظهر من دعاء المسألة أو العكس، ولا يقتضي هذا الظهور عدم اعتبار المعنى الآخر.
وهذا يعتبر بمثابة الضابط للتفريق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة في النصوص الشرعية، وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى بعض ذلك فقال: "وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، فهو من دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم.
الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى: {يلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)} [الشعراء: 92، 93]، وقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: 98]، وقوله تعالى:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 2]، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم.
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم،
= منهما فيكون مشتركًا اشتراكًا لفظيًا، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهي الأسماء المتواطئة، وهي الأسماء العامة كلها، وعلى الأول يلزم المجاز، وعلى الثاني يلزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب أن يجعل من المتواطئة، وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها". [مجموع الفتاوى (7/ 108)].
(1)
تأسيس التقديس في كشف تلبس داود بن جرجيس (ص 102).
ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة"
(1)
.
رابعًا: فيها الرد على من أجاز الطلب والسؤال من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ بحجة أن الأدلة الناهية عن دعاء غيره سبحانه إنما أُريد بها دعاء العبادة؛ كالصلاة والسجود والركوع، ولا يدخل فيها طلب وسؤال الشفاعة، أو نداء
(2)
الأموات والغائبين.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله؛ والنهي عن دعاء غيره على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك"
(3)
.
ويقول الشيخ سليمان آل الشيخ: "وإذا كان هذا الدعاء وأمثاله هو دعاء العبادة المشتمل على الاستعانة من رب العالمين بالنص عند كل علماء المسلمين، فلو صرف لغير الله من سائر الخلق لكان معبودًا به، والداعي عابد المدعو ومستعين به ومتوكل عليه، ولا يقال ليس هو عابدًا ولا مستعينًا؛ لأنَّه إنما يناديه فقط، فيصرف العبادة والاستعانة وجود النداء كما فهمه صاحب المقدمة معللًا لزوم العبادة كل منادي، وعدم تكفير كل من نادى غيره، لأنا نقول علة التكفير وجود دعاء العبادة الشاملة لدعاء المسألة التي هي حق الله، وصرفه إلى غيره سواء وجد النداء أو لم يوجد، وليس العلة وجود النداء نفسه خاليًا من العبادة، وبهذا يعلم ما ذكره المفسرون تحت قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 13)، ونقله عنه ابن القيم. انظر: بدائع الفوائد (3/ 515).
(2)
النداء هو رفع الصوت بما له معنى، والعربي يقول لصاحبه ناد معي ليكون ذلك أندى لصوتنا؛ أي: أبعد له، والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه، يقال: دعوته من بعيد، ودعوت الله في نفسي، ولا يقال: ناديته في نفسي، وأصل الدعاء طلب الفعل؛ دعا يدعو، وادعى ادعاء؛ لانه يدعو إلى مذهب من غير دليل، وتداعى البناء يدعو بعضه بعضًا. [الفروق اللغوية للعسكري (ص 41)].
(3)
تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس (ص 116).
دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف: 4]؛ أي: تعبدون، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الأعراف: 197]؛ أي: تعبدون وأمثاله؛ وذلك لأن العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في كل الأفعال المأمورات، وفي ترك المحرمات، وفي الصبر على المقدورات
…
فالعبد محتاج في مصالح دينه ودنياه، وكل ما لا يقدر عليه إلَّا الله منهما لا يجوز أن يسأل من غيره فلا يعبد إلَّا الله، ولا يتوكل إلَّا عليه، ولا يستعان إلَّا به، لأن ما سواه مفتقر إليه، مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون معبودًا"
(1)
.
وكون الدعاء في الأصل بمعنى النداء والطلب مما لا مرية فيه، كما قال الراغب:"الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم، والدعاء لا يكاد يتجرد"، فلا يدخل في دعاء العبادة المستلزم لدعاء المسألة، كما أنه لا يدخل في دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فليس كل مطلق دعاء يكون عبادة، فإدخال مطلق النداء في معنى العبادة من الترويج والتلبيس، بل نداء العبادة هو الطلب من غير الله جلب منفعة، أو دفع مضرة فيما لا يقدر عليه إلا الله، والمنادي في هذه الحال يكودن داعيًا وطالبًا وسائلًا
(2)
.
ويدحض الشيخ عبد الله أبا بطين شبهة التفريق بين الدعاء والنداء، وأن الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل هو نداء، فيقول: "فيقال لهذا: تفريقك بين الدعاء والنداء تفريق باطل مخالف للكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة مع مخالفته اللغة، فقد سمى الله سبحانه سؤال عباده له دعاء ونداء، قال تعالى عن نوح:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 10]، وقال:{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} [الأنبياء: 76]، فسماه في موضع دعاء
(1)
التوضيح عن توحيد الخلاق (ص 297 - 298).
(2)
انظر: الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق (ص 451).
وفي موضع نداء، وقال عن زكريا:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3]، وقال في موضع:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38]، وقال عن أيوب:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]، وقال:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]، وقال صلى الله عليه وسلم:"دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْع بِهَا رَجُل مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ"
(1)
.
وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يَا رَسُولَ اللهِ: أَقَرِيبٌ رَبُّنا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186]
(2)
…
"
(3)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 170)، برقم (1462)، والترمذي في سننه (5/ 529)، برقم (3505)، والحاكم في المستدرك (1/ 684)، برقم (1862)، وقال عقبه:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأبو يعلى في مسنده (2/ 110)، برقم (772)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 159)، و (7/ 68)، وقال عقب ذكره:"ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير إبراهيم ابن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية:(4/ 11)، وصححه الألباني. [انظر: صحيح الجامع (3/ 145)، رقم (3378)، وتخريجه للكلم الطيب (ص 118)، برقم (123)].
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (2/ 158)، وأبو سعيد النقاش في فوائد العراقيين (ص 31)، برقم (17)، والأصبهاني في العظمة (2/ 535)، برقم (22)، من طريق الصلت بن حكيم عن أبيه، عن جده، والصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري قال عنه الحافظ: مجهول. لسان الميزان (3/ 195)، (871)، وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السُّنَّة (1/ 277)، برقم (522)، قال حدَّثني إسماعيل أبو معمر، نا سفيان، عن أبي قال: قال المسلمون: (يا رسول الله أقريب
…
) ثم ذكر الحديث.
(3)
تأسيس التقديس في كشف تليس داود بن جرجيس (ص 77).