الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
قاعدة اعتبار ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم عبادة موقوف على قصده التعبد
وفيه مسائل:
*
المسألة الأولى* معنى القاعدة
من المعلوم المستقر في العقول، ولا ينكره إلا من جهل أحوال النفوس البشرية، وما فطرت عليه من الطبائع الجبلية أن التأسي بافعال العظماء واتباعهم عليها من الأسرار العميقة المبثوثة في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، لا سيما عند الاعتياد والتكرار، وخاصة إذا صادف محبة وميلًا إلى المتأسي به، ومتى وَجَدْتَ التأسي بمن هذا شأنه مفقودًا في بعض الناس فاعلم أنه إنما تُرِكَ لتأسٍ آخر أعظم في النفس من الأول
(1)
.
ومن أعظم هؤلاء العظماء المتبوعين الذين حظيت بهم البشرية عبر تأريخها الطويل هو رسول الإسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، الذي عظم الله قدره، وأعلى شأنه، وأوجب على
(1)
انظر: الموافقات للشاطبي (4/ 248 - 249).
الأمة اتباعه، وجعله خير أسوة، وأعظم قدوة، وأحسن مثال، وخير متبوع، بل جعل اتباعه والسير على منهاجه من أعظم الطاعات، وأفضل القرب، وأرجى الأعمال عند الملك الديَّان يوم يبعث الأبدان.
ولذا كان من أعظم خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى فرض طاعته واتباعه على العالم فرضًا مطلقًا، وأوجب على الناس كافة التأسي به قولًا واعتقادًا، وفعلًا وتركًا، بلا قيد فيه، ولا شرط، ولا استثناء، كما قال سبحانه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقوله سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، وقوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]
(1)
.
ومع كل هذا الثناء والتمجيد، والتعظيم والإعزاز لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الطبيعة البشرية، ولا عن حيز الجبلة الإنسانية التي فطره الله عليها، فهو كسائر البشر فيما يتعلق بهذه الأمور إلا ما ثبت بالنص اختصاصه بأشياء لا يشركه فيه غيره.
فهو عليه السلام كغيره في الخصائص البشرية؛ لكونه يأكل ويشرب، ويجوع ويعطش، وينام ويتعب، ويمشي ويسافر، ويركب الدابة، ويتزوج النساء، ويمرض ويموت، وغير ذلك مما هو من خصائص البشر التي لا ينفكون عنها بحال، ولا يستغنون منها.
وهنا يأتي التساؤل الهام على ضوء ما سبق من وجوب الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وهل يشرع لنا التعبد بجميع أفعاله الصادرة
(1)
انظر: فيض القدير (1/ 548)، والخصائص الكبرى، للسيوطي (2/ 342)، نقلًا عن أبي نعيم.
منه؛ سواء كانت تعبدية أم جبلية وعادية، والتي فعلها صلى الله عليه وسلم بحكم الاتفاق بدون تقصد لقربة أو نية لتعبد؟.
وبمعنى آخر: متى يكون فعله صلى الله عليه وسلم عبادة شرعية، وتكون أمته من بعده متعبَّدة لله تعالى باتباعه والتأسي به فيها، ويترتب على ذلك الثواب والعقاب.
ولقد بذل العلماء -لا سيما علماء الأصول- جهدًا كبيرًا في بحث هذه المسألة واستقصاء أحوالها الشائكة مع كثرتها وتشابهها ضمن كلامهم على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عمومًا، فتكلموا على أنواعها، وأحوالها، وتقاسيمها، ولأجل توضيح المسألة أذكر لمحة سريعة مختصرة فيما يتعلق بأفعاله صلى الله عليه وسلم
(1)
، مع العلم أن بعضها ليس موضع اتفاق بين أهل العلم، بل وقع فيها الخلاف بينهم.
يقول الدكتور الأشقر ملخصًا أحوال أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: "فعل
النبي صلى الله عليه وسلم: إما متعلق بغيره وهو الفعل المتعديّ، أو قاصر عليه. وفعله
القاصر عليه إما أن يصدر عنه لداعي الجبلة، أو اتباعًا للعادة، أو لتقديره فيه منفعة أو دفع مضرة، أو هو تابع للشرع. وفعله التابع للشرع إما معجز أو غير معجز. وفعله غير المعجز إما أن يفعله لأنه مطلوب منه خاصة وهي الخصائص النبوية، أو هو مشترك بيننا وبينه. والمشترك إما أن يعلم أنه متعلق بوحي معين، يفعله بغرض تبيين مجمل في ذلك الوحي أو مشكل وارد فيه، أو لمجرد امتثال الأمر الإلهي في ذلك الوحي، وإما أنه لا يعلم تعلقه بوحي معين، والذي لا يعلم تعلقه به إما أن يفعله مؤقتًا لانتظار الوحي، وإما أن يفعله على غير ذلك الوجه، وهو
(1)
لقد بحث علماء الأصول في كتبهم أفعاله صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بها من المتابعة والتأسي والموافقة والمخالفة، وما يترتب عليها من أحكام من الوجوب والندب والإباحة؛ وذلك لكوننا متعبدين باتباعه صلى الله عليه وسلم والتأسي به في أفعاله.
الفعل المبتدأ المجرد"
(1)
.
وقال بعد ذلك في معنى هذه الأقسام: "إن الفعل الجبلي والعادي والدنيوي لا قدوة فيها، ولا تدل على أكثر من الإباحة، والفعل المعجز والخاص كذلك لا قدوة فيهما، لما فيهما من معنى الاختصاص به صلى الله عليه وسلم، والفعل البياني والامتثالي يقتدى بهما، والمؤقت لانتظار الوحي لا قدوة فيه إذا جاء الوحي بخلافه، والمجرد فيه تفصيل، يعلم في موضعه"
(2)
.
والقاعدة نصت على أن المرجع في اعتبار كون الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم عبادة هو تضمنه لقصد التعبد، فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه العبادة والتقرب إلى الله تعالى كان في حق الأمة كذلك، وما فعله بحكم الجبلة والعادة الدنيوية ولم يقصد به تعبدًا ولا تشريعًا للأمة فلا يدخل في حكم العبادة.
ويدخل في ذلك النية والقصد في صفة العبادة كذلك؛ فما فعله بقصد الوجوب كان فعله في حق أمته على أنه واجب، وما فعله بقصد الندب كان فعله على جهة الندب، وما تركه تعبدًا كان تركه في حق الأمة عبادة، وما تركه لحرمته تعين على الأمة تركه على اعتبار حرمته، وهكذا ما تركه كراهة وتنزهًا. وأما ما تركه جبلة وطبعًا فليس داخلًا في باب التأسي والمتابعة كما سبق بيانه.
والحاصل أن التعبد لله تعالى بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به في فعله وتركه موقوف على نيته وقصده عليه السلام من الفعل.
(1)
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية، لمحمد سليمان الأشقر (1/ 216).
(2)
المرجع نفسه (1/ 216).