الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالمين كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]، فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده؛ ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره، وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندًّا أو شفيعًا يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، ويدعوه، ويذبح له، وينذر، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلًا وضلالًا"
(1)
.
والسبب في عدم قدرهم لله تعالى هو سوء ظنهم بربهم، وحسن ظنهم بغيره، وأنهم يشفعون عنده، ويقربون من عَبَدهم إلى الله، وأنهم ينفعون ويضرون.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
بعض ما يستفاد من القاعدة:
أولًا: دلَّ مفهوم القاعدة على أن توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة دون ما سواه مبني على حسن الظن بالله تعالى، إذ التوحيد ضد الشرك الذي هو إساءة ظن بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته.
فهو يحسن الظن بربه معتقدًا اتصافه سبحانه وتقدس بنعوت الربوبية، واختصاصه بصفات الإلهية لا شريك له في ذاته ولا معين له في أفعاله، ولا ظهير ولا شفيع، وليس له نديد في استحقاق العبادة، ولا مثيل له في سائر أسمائه وصفاته.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 220).
وعليه فحسن الظن به سبحانه وتعالى من أعظم العبادات، وأجلّ القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه وخالقه عز وجل، والتي تقوم في الأصل على العلم الشرعي الصحيح، والفقه السليم لأسماء الله وصفاته، ومعرفته تعالى المعرفة الحقة في ربوبيته وألوهيته، وسائر صفاته.
كما أن سوء الظن بالله من نتاج وآثار الجهل بالله، وبأسمائه وصفاته، وما له من العظمة، والكبرياء، والقوة، والقدرة، ومنتهى الكمال في كل شيء.
ولذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل"
(1)
.
قال الجصاص: "فحسن الظن بالله فرض، وسوء الظن به محظور منهي عنه، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور مزجور عنه، وهو من الظن المحظور المنهي عنه"
(2)
.
وهذا يدل على أن حسن الظن من العبادة التي يحبها الله تبارك وتعالى، وقد روي في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حسن الظن بالله عز وجل من حسن عبادة الله"
(3)
.
(1)
صحيح مسلم (4/ 2206)، برقم (2877)، يقول الإمام النووي:"ومعنى يحسن الظن بالله تعالى أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته، وما وعد به أهل التوحيد، وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة كما قال سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح: "أنا عند ظن عبدي بي" هذا هو الصواب في معنى الحديث، وهو الذي قاله جمهور العلماء". [المجموع شرح المهذب (5/ 98)].
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 288).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 297)، برقم (7943)، وأبو داود في سننه (4/ 298)، برقم (4993)، وابن حبان في صحيحه (2/ 399)، برقم (631)، ومحمد بن نصر المروزي في:(تعظيم قدر الصلاة): (2/ 787)، والحاكم في المستدرك =
فحسن الظنّ بالله عز وجل من أوجب الواجبات، وأفرض الفروض، التي يحبها الرب تبارك وتعالى، وسوء الظن على العكس من ذلك؛ فهو من أقبح المنكرات، وأعظم الكبائر.
ومما لا يخفى ارتباط سائر العبادات بحسن الظن بالله تعالى وتقدس، وقد بين هذا الارتباط فأكثر العبادات أو كلها قائمة على حسن ظن العبد بربه سبحانه وتقدس، وقد بين هذا الارتباط العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله:"فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه؛ ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله، والتحقيق أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه والله أعلم"
(1)
.
ثانيًا: دلت القاعدة على أن صرف العبادة لغيره سبحانه، وتأليه المخلوق من أعظم الانتقاص والإهانة للجناب الرباني الكريم، مع ما فيه من رفعة المخلوق فوق منزلته التي أنزله الله إياها، كما أن ذلك من أبشع
= (4/ 285)، برقم (7657)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ومرة قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم). [انظر: المستدرك (4/ 269)]، والحديث ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (7/ 140)، برقم (3150)، بسبب سمير أو (شتير) بن نهار، وقال بعد أن ذكر كلام الحاكم في تصحيح الحديث وكونه على شرط مسلم، وموافقة الإمام الذهبي له، قال:"قلت: وهو من أوهامهما؛ فإن سميرًا هذا نكرة؛ كما قال الذهبي نفسه (الميزان)، ولم يرو عنه غير ابن واسع". وقال عنه الدارقطني في سؤالات البرقاني: "مجهول" وسأل عبد الله بن أحمد أباه عنه فقال: "لا أعرفه"، وذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال ابن حجر في التقريب:"صدوق"، وقد وثقه ابن حبان في الثقات (4/ 370)، (3398)، يقول الشيخ الألباني رحمه الله:"توثيق ابن حبان مما لا ينبغي الاعتماد عليه؛ لأن من قاعدته فيه توثيق المجهولين". [السلسلة الضعيفة (2/ 300)]، وعليه يكون سمير أو شتير مجهول الحال ويضعف الحديث بسببه كما قرر ذلك علماء هذا الفن.
(1)
مدارج السالكين (2/ 121)، وانظر:(1/ 471).
الظلم في حق الملك الديان إذ جرده سبحانه عن صفات الربوبية الحقة، وألبس المخلوق ما لا يستحقه من خصائص الإلهية.
ومما لا شك فيه أن جميع الخلق مفطورون على الضعف والضعة والافتقار إلى ربهم وخالقهم ومالكهم ورازقهم، فهذه هي صفتهم التي هي مقتضى خلقتهم وتكوينهم، وإنما جعل كمالهم ورفعتهم في عبادة الله وتوحيده عز وجل؛ ولذا أثنى الله على رسوله الكريم في غير موضع أنه عبد الله تبارك وتعالى.
فالواجب معرفة الفرق بين الخالق والمخلوق في كل ما يختص به، وينزل كل واحد منزلته، وليس في سلب خصائص الربوبية والإلهية عن المخلوق إهانة، أو سب، أو تنقيصًا له مكانته، وإنما ذلك هو مختص التكريم والتقدير الذي يحبه الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام ابن القيم: "فإذا هَضَم المخلوقَ خصائصَ الربوبيةِ، وأنزله منزلة العبد المحض الذي لا يملك لنفسه فضلًا عن غيره ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لم يكن هذا تنقصًا له، ولا حطًّا من مرتبته ولو رغم المشركون"
(1)
.
ثالثًا: أن سؤال المخلوق والطلب منه ما لا يستطيعه ويقدر عليه فيه نوع من صرف حق الرب تعالى، وهضم لربوبيته ومقتضاها من التأله والتعبد، وإعطاء نصيب منها لغيره سبحانه وتعالى؛ وذلك لملازمة المسألة في الغالب للذل والافتقار والمحبة لغير الرب جل وعلا، ولذا جاءت النصوص الشرعية بتحريم السؤال والمسألة إلا في حال الضرورة الملجئة فتقدر بقدرها، وترك مسألة الناس ولو فيما يستطيعونه من كمال تحقيق التوحيد.
يقول الإمام ابن القيم: "والمسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت
(1)
الروح، لابن القيم (ص 263).
للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل، أما الأول: فلأنه بَذَل سؤاله وفَقْرَه وَذُلَّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيدَه وإخلاصَه وفقرَه إلى الله، وتوكلَه عليه، ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد، ويطفئ نوره، ويضعف قوته"
(1)
.
رابعًا: دلت القاعدة على أن الشرك واتخاذ الشفعاء هضم وتنقص من جناب الربوبية، فالمشرك بالله تعالى واقع في هذا التنقص شاء أم أبى، ولا ينفعه أنه إنما كان قصده تعظيم الباري جل وعلا، وأنه بسبب إجلاله وإعظامه لا يستطيع أن يتوصل إليه إلا بالشفعاء، فإن تعظيمه هذا الذي اعتقده هو محض التنقص، وخالص الظلم.
يقول ابن القيم: "فإن قلت إذا كان من اتخذ شفيعًا عند الله إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل إليه إلا بالشفعاء؛ فلم كان هذا القدر شركًا؟ قيل: قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى، فكم مَنْ يقصد التعظيم لشخص ينقصه بتعظيمه؛ ولهذا قيل من في المثل المشهور: يضر الصديق الجاهل ما لا يضر العدو العاقل؛ فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية، وتنقص للعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]، فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده؛ ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره، وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندًّا، أو شفيعًا يحبه، ويخافه،
(1)
مدارج السالكين (2/ 232).
ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، ويدعوه، ويذبح له، وينذر
…
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى"
(1)
.
خامسًا: دلت القاعدة على أن الشرك سوء ظن بالله تعالى، والحاصل أن سوء الظن تتفاوت مراتبه ودرجاته؛ فمنه ما هو شرك أكبر مخرج عن دين الإسلام بالكلية، ومنه ما يؤثر في تمام التوحيد الواجب، فهو دائر بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر.
وهذا التفاوت كما سبق هو بحسب أسبابه ودوافعه، فالظن أصله في القلب، وهو بحسب العلم والمعرفة، فالظن الحسن بالله تعالى ينبني على علم العبد بمعبوده الحق، وما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا؛ من الملك والخلق والغنى والرحمة؛ فإذا ساء ظن العبد بربه بسبب خلل فيما يتعلق بربوبية الله تعالى؛ كأن يظن عدم قدرة الله، أو عدم علمه ومعرفته لأمر من الأمور، أو عدم غناه وكرمه، أو اعتقد أن غيره سبحانه وتعالى قادر على ما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه بحسب الطبيعة والعرف، محسنًا ظنه بذلك الغير، أو اعتقد أن لغيره عز وجل حقًّا في العبادة والتعظيم كان فاقدًا لأصل من أصول التوحيد وقاده حينئذٍ حسن ظنه بغيره سبحانه، وسوء ظنه بالله تعالى إلى الكفر والخروج عن ملة الإسلام، فسوء الظن درجات منه ما ينافي أصل التوحيد وأساس الإيمان، ومنه ما ينافي كماله الواجب
(2)
.
يقول الشيخ سليمان آل الشيخ في شرحه لتبويب الإمام محمد بن
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (ص 220 - 221).
(2)
انظر: حاشية الأصول الثالثة، لابن قاسم (ص 70)، حيث قرر أن حالة حسن الظن بالله المقارن للشخص عند نحره للذبيحة من أفضل القرب، وأن صرفه لغير الله شرك أكبر.
عبد الوهاب في أحد أبواب كتاب التوحيد، والتي افتتحها بقوله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]: "أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله؛ لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم الله من أساء الظن به؛ لأن مبنى حسن الظن على العلم برحمة الله، وعزته، وإحسانه، وقدرته، وعلمه، وحسن اختياره، وقوة المتوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله، وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات، وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة؛ لأن كل صفة لها عبودية خاصة، وحسن ظن خاص"
(1)
.
وعليه فيختلف حسن الظن وتتفاوت درجاته بحسب ما يقوم بقلب العبد من العلم والمعرفة، ويقبح سوء الظن ويزداد شناعة وسوءًا بحسب ما يقوم بقلب العبد من قلة العلم والمعرفة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته؛ فمنه ما يصل إلى الحد المخرج عن ملة الإسلام، ومنه ما يعتبر نقصًا في إيمان العبد، وخدشًا في توحيده فيكون من الشرك الأصغر.
ويبين الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله صلة حسن الظن بالعلم بالله، ومعرفة أسمائه وصفاته، واعتقاد كماله وعظمته، فيقول:"وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر الله من أسمائه وصفاته وكماله، وتصديقه بكل ما أخبر به، وأنه يفعله، وما وعد به من نصر الدين، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان، وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية المنافية للتوحيد؛ لأنها سوء ظن بالله، ونفي لكماله، وتكذيب لخبره، وشك في وعده"
(2)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 578).
(2)
القول السديد في مقاصد التوحيد (ص 175).
ويقول الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- ضمن فوائد بعض الآيات التي استدل بها الإمام محمد بن عبد الوهاب في إحدى أبواب كتاب التوحيد: "أولًا: أنّ حسن الظنّ بالله عز وجل واجبٌ من واجبات التّوحيد: ثانيًا: أن سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى ينافي التّوحيد أو ينافي كمالَه، ينافي أصلَه إذا زاد وكثُر واستمرّ، أو ينافي كمالَه إذا كان شيئًا عارضًا، أو شيئًا خفيفًا، أو خاطرًا في النّفس فقط ولا يتكلّم به بلسانِه، أمّا إن تكلّم به بلسانِه فإنّه يكونُ منافيًا للتّوحيد"
(1)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله مبينًا حقيقة الظن المخرج عن ملة الإسلام: "ومن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم، ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه"
(2)
.
ويقول رحمه الله أيضًا مبينًا أنواعًا مختلفة من سوء الظن بالله تعالى، وعموم البلوى بذلك: "فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تَعَتُّبًا على القدر، وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان
(1)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 247).
(2)
زاد المعاد، لابن القيم (3/ 233).
ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم في ذلك:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيًا
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء
(1)
من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزَّه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى"
(2)
.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب مختصرًا وملخصًا لما سبق من كلام الإمام ابن القيم، ومبينًا درجات سوء الظن بالله تبارك وتعالى:"فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسله، أو عطّل ما وصف به نفسه فقد ظن به ظن السوء؛ كمن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا، أو شفيعًا بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أن ما عنده ينال بالمعصية كما ينال بالطاعة، أو ظن أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يعوضه خيرًا منه، أو ظن أنه يعاقب بمحض المشيئة بغير سبب من العبد، أو ظن أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة أنه يخيبه، أو ظن أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا في حياته ومماته"
(3)
.
(1)
التعبير بأولى هنا ليست على أفعل التفضيل وإلا لكان المعنى سيئًا؛ إذ فيه إساءة الظن بالرب تعالى، والله أعلم.
(2)
زاد المعاد (3/ 235 - 236).
(3)
مختصر زاد المعاد (ص 241).
والمتأمل لما سبق يجد أن سوء الظن بالله تعالى منه ما يصل إلى درجة الشرك والكفر بالله العظيم، ويخرج المسلم عن دائرة الإسلام، ومنه ما يعتبر شركًا أصغر ومعصية عظيمة، وكل ذلك بحسب العلم والاعتقاد الدافع والمولد لسوء الظن بالله جل وعلا، وبحسب قوة سوء الظن وكثرته واستمراره، أو كونه ضعيفًا قليلًا مترددًا كالخطرات التي تختلج القلوب فيدفعها القلب، ويصدها بحسب قوة إيمانه ويقينه ومعرفته بالله تعالى وبأسمائه وصفاته.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- مبينًا بعض أنواع سوء الظن: "فالذي يخالف ما أمر الله -جل وعلا- به شرعًا فيما يتصل بنصرة الدين، فإنه يقع في سوء ظن بالله جل جلاله وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
ولهذا يجب على المؤمن أن يتحرز كثيرًا، وأن يحترس من سوء الظن بالله -جل وعلا-، فإن بعض الناس قد ينال الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء
(1)
، أو أن الذي ينبغي أن يصاب به هو غيره، فينظر إلى فعل الله -جل وعلا- وقضائه وقدره على وجه الاتهام، وقلَّ من يَسْلَم باطنًا وظاهرًا من ذلك، فكثيرون قد يَسْلَمون ظاهرًا، ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية،
…
والظن محله القلب، فلهذا يجب على المؤمن أن يخلّص قلبه من كل ظن بالله غير الحق، وأن يتعلم
(1)
لكن إذا ساق الله إليه خيرًا عظيمًا وفضلًا جزيلًا فاعتقد أنه لا يستحق ذلك من أجل نقص في عمله أو لتقصير في طاعته، وإنما هو محض فضل الله وكرمه فلا شيء في ذلك، بل هذا هو الواجب على المسلم؛ وهو إساءة الظن بالنفس وبالعمل بكونه ناقصًا وغير كامل، يؤيده قوله تعالى في الحديث القدسي:"فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". [صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم (4/ 1994) برقم (2577)].
أسماء الله -جل وعلا- وصفاته، وأن يتعلم آثار ذلك في ملكوت الله، حتى لا يقوم بقلبه إلا أن الله جل جلاله هو الحق، وأن فعله حق"
(1)
.
سادسًا: تضمنت القاعدة بعض الفروق بين الشرك بنوعيه وبين سائر المعاصي؛ من حيث آثارهما ما يستلزمه كل منهما، مع اتصافهما بكونهما من الذنوب التي يتنجس بها ابن آدم.
يقرر هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله فيقول: "وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل؛ ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك.
وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفي عن النجاسة المخففة؛ كالنجاسة في محل الاستجمار، وأسفل الخف والحذاء، أو بول الصبي الرضيع، وغير ذلك ما لا يعفى عن المغلظة، وكذلك يعفي عن الصغائر ما لا يعفي عن الكبائر، ويعفي لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك"
(2)
.
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 545 - 546).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 63).