الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظيم عقلًا ونقلًا وفطرةً"
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
مما يدل على تقرير معنى القاعدة ما يلي:
أولًا: الأدلة التي بينت حقيقة شرك المشركين، وأنه تضمن التسوية والعدل بين الله وبين أحد من خلقه، ومن تلك النصوص ما يلي:
قوله تعالى في شأن الكافرين وحكاية حالهم في جهنم: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء: 92 - 101].
فذكروا أن ضلالهم، وهلاكهم، وعذابهم في النار كان بسبب تسويتهم الأصنام والأنداد بالله تعالى، وأنهم استحقوا الخلود في النيران من أجل هذه التسوية في العبادة والمحبة والذل والخضوع، كما نص على ذلك جمع من أهل العلم.
ثم ذكر سبحانه ما دار من الخصومة بينهم، وقد عادوا على أنفسهم باللوم، وهم في أشد الحسرة، وأعظم الندم، قائلين لمعبوداتهم: كيف استجبنا لكم أيها المعبودون وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وسويناكم برب العالمين، فجعلناكم وإيَّاه سواءً في استحقاق العبادة.
وهذا يدل على أن حقيقة شرك المشركين: هو تسوية الله بغيره في شيء من خصائصه وحقوقه.
يقول ابن القيم عن قول المشركين وهم في النار: "فاعترفوا أنهم
(1)
تفسير السعدي (ص 718).
كانوا في أعظم الضلال وأبينه إذ جعلوا لله شبهًا وعدلًا من خلقه سووهم به في العبادة والتعظيم"
(1)
.
والحاصل أنهم بقسمهم هذا قد حكموا على أنفسهم بالضلال المبين؛ بسبب تسوية أصنامهم بالله تعالى في العبادة، والمحبة، والخوف، والرجاء، ودعائهم لأندادهم كما يدعونه سبحانه وتعالى، فتبين لهم حينئذٍ ضلالهم، وأقروا بعدل الله في عقوبتهم، وأنها في محلها، وهم لم يسووهم برب العالمين إلا في استحقاق العبادة لا في الخلق، بدليل قولهم:{بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} : فهم مقرون أن الله رَبُ العالمين كلهم الذين من جملتهم أصنامهم وأوثانهم
(2)
.
وبذلك يظهر المقصود من اشتمال الشرك وَتَضمُّنِهِ لمعنى التسوية والعدل.
وقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1] وهذا العدل هو التسوية بين الله وبين الآلهة في المحبة والميل والخضوع والعبادة والتعظيم، مما يدل على أن شركهم راجع إلى تسوية الخالق بالمخلوق.
ثانيًا: الأمثال التي ضربها الله تعالى، والدالة على إبطال شرك المشركين بنفي التسوية بين الله تعالى وبين معبوداتهم في الذات والصفات والأفعال والخصائص والحقوق، وهذا يوضح أن شركهم أصله من هذه التسوية الواقعة منهم؛ ومن تلك النصوص ما يلي:
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
(1)
إغاثة اللهفان (2/ 230).
(2)
تفسير السعدي (ص 593) مع بعض التصرف، وانظر: تفسير الطبري (19/ 88)، وتفسير البغوي (3/ 391)، وتفسير السمعاني (4/ 56)، وتفسير البيضاوي (4/ 245)، وتفسير الثعلبي (7/ 171).
أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16].
دلت الآية على إبطال اتخاذ المشركين أولياء من دونه بعد إقرارهم بأن الله رب السموات والأرض، ولتوضيح هذا المعنى وتجليته ضرب الله مثلًا لذلك؛ فنفى التسوية بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، ولا شك أن التفريق بين هذه الأمور من المسلمات المقطوع بها عقلًا لا يشك فيها ذو عينين، والتسوية بينها من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها، وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها، والمقصود من ذلك إنكار التسوية الواقعة منهم بين الله تعالى وبين معبوداتهم وأوثانهم، فَفَرَّق بين المعبود الغافل -وهي الأوثان- والمعبود العالم بكل شيء -وهو الرب تعالى-، وهذا يدل على أن حقيقة ما وقعوا فيه من الشرك هو تسوية معبوداتهم بالله تبارك وتعالى
(1)
.
ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التباين والاختلاف بينه وبين الأصنام في أفراد الربوبية من الخلق والإيجاد، فنفى استحقاقهم للألوهية، ومساواتهم لله تعالى في العبادة بنفي اتصافهم ومساواتهم لله في شيء من أفراد الربوبية، والتي هي مُوْجِب العبادة ولازم استحقاقها.
يقول الإمام ابن تيمية: "وأعظم من ذلك أنه بين الفرق بين الخالق والمخلوق، وأن المخلوق لا يجوز أن يُسَوِّي بين الخالق والمخلوق في شيء، فيجعل المخلوق ندًّا للخالق، وضرب الأمثال في القرآن على من لم يفرق، بل عدل بربه، وسوى بينه وبين خلقه"
(2)
.
ويقول الإمام ابن كثير في معنى الآية: "أي: أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه
(1)
انظر: درء التعارض (10/ 154).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (13/ 14).
فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره، أي: ليس الأمر كذلك؛ فإنه لا يشابهه شيء، ولا يماثله، ولا ند له، ولا عدل له، ولا وزير له، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له، عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم:(لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ)
(1)
"
(2)
.
والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء في الخلق فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك، ولا قالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه فاستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم، بل إنما جعلوا له شركاء ما هو بمعزل من ذلك بالمرة، فلا مساواة بينهما لا في الخلق ولا في استحقاق العبادة
(3)
.
يقول الشيخ السعدي مبينًا أن اتخاذ الأنداد من دون الله تسوية بين الله وبينها: "وهؤلاء -أي: المعبودات- لا يملكون ولا يقدرون، فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع الله، وشبهوها بمالك الأرض والسموات، الذي له الملك كله، والحمد كله، والقوة كلها، ولهذا قال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]: المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه"
(4)
.
ويقول الشيخ الشنقيطي في تقرير هذا المعنى: "ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرًا بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب: التلبية وصفتها ووقتها (2/ 843)، برقم (1185).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 508).
(3)
انظر: تفسير البغوي (3/ 13)، وتفسير أبي السعود (5/ 13)، وتفسير البيضاوي (3/ 325).
(4)
تفسير السعدي (ص 445).
قدرة لها على فعل شيء، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى، وأنه يهدي من يشاء .... -ثم ذكر جملة من الآيات المؤيدة لذلك ثم قال:- والآيات في مثل ذلك كثيرة، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على شيء مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء لا تصدر إلا ممن لا عقل له"
(1)
.
فأقام سبحانه وتعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله، وتسويتهم غيره به في العبادة بضرب الأمثال وغير ذلك، وهذا في القرآن كثير
(2)
.
وهذا يدل على أن شركهم كان بسبب تسويتهم معبوداتهم التي لا تضر ولا تنفع مع الرب تبارك وتعالى الذي بيده الخير كله.
في هذه الآيات ضرب الله مثلين نفى بهما التسوية بين أمور مستقر التفريق بينها في الفطر والعقول، والقصد منها نفي وإبطال التسوية التي وقع فيها المشركون بين الله تعالى وبين أصنامهم وأوثانهم، فالنفي لحقيقة ذلك ووقوعه لا لنفي الواقع الذي تلبسوا به.
وضرب هذين المثلين يدل على أن أصل شرك المشركين التسوية بين الخالق والمخلوق في الخصائص والحقوق.
(1)
أضواء البيان (2/ 155)، فظهر بذلك انتفاء التسوية واستحالتها بين الخالق والمخلوق؛ وذلك لأن المخلوق محتاج إلى خالقه، فهو عبد مربوب مثلك، يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده، كما يجب عليك ذلك، فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له. [انظر: المصدر نفسه (2/ 239)، و (2/ 330)].
(2)
انظر: قرة عيون الموحدين للشيخ عبد الرحمن بن حسن (ص 52).
قال مجاهد: "ضرب الله هذا المثل والمثل الآخر بعده لنفسه والآلهة التي تعبد من دونه"
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية في معنى المثلين: "كلاهما مثل بين الله فيه أنه لا يستوي هو وما يشركون به، كما ذكر نظير ذلك في غير موضع، وإن كان هذا الفرق معلومًا بالضرورة لكل أحد، لكن المشركون مع اعترافهم بأن آلهتهم مخلوقة مملوكة له يسوون بينه وبينها في المحبة والدعاء والعبادة ونحو ذلك"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم في معنى المثل الثاني المتعلق بالأبكم: "فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع، ولا تنطق، ولا تعقل، وهي كَلٌّ
(3)
على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده، ويضعه، ويقيمه، ويخدمه، فكيف يسوونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد، وهو قادر متكلم غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة، هذا أصح الأقوال في الآية، وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره"
(4)
.
ويقول الشيخ السعدي: "فلهذا ضرب تعالى مثلين له ولمن يُعْبَدُ من دونه؛ أحدهما: عبد مملوك؛ أي: رقيق لا يملك نفسه، ولا يملك من المال والدنيا شيئًا، والثاني: حُرٌّ غنيٌ قد رزقه الله منه رزقًا حسنًا من جميع أصناف المال، وهو كريم محب للإحسان، فهو ينفق منه سرًا
(1)
انظر: تفسير الطبري (14/ 149).
(2)
مجموع الفتاوى (14/ 178 - 179).
(3)
(كلٌّ): ينطبق على الواحد والجميع، والذكر والأنثى. [انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 341).
(4)
مدارج السالكين (1/ 18)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 80)، ومفتاح دار السعادة (2/ 79)].