الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل، فهو مركوز في فطر الخلق، والأصل في حد ذاته دليل على الفرع، فتوحيد الربوبية هو الدليل على توحيد العبادة.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
مما يدل على صحة القاعدة واعتبارها أمور عدة:
أولًا: إلزام الله تبارك وتعالى المشركين بتوحيد الله في عبادته، بناء على إقرارهم بتوحيد الربوبية، وهذا الاستدلال كثير في القرآن الكريم وهو يدل على أن إقرار العبد بتوحيد الربوبية هو أكبر دليل على تقريره إفراد الله تعالى بالعبادة دون ما سواه، ولو لم يكن هذا الإقرار دليلًا على هذا لم يحتج به سبحانه على المشركين ولم يلزمهم بهذا الإقرار أصلًا، وما دام أن الإقرار أصبح دليلًا، فإنَّه يكون سابقًا ومتقدمًا على المدلول فثبت كونه أصلًا للمدلول.
ومن تلك النصوص:
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61]، وقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} [العنكبوت: 63]، وقال سبحانه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)} [لقمان: 25]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9]، وقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف: 87]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)} [يونس: 34]، وقوله عز من قائل: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 6].
وغير ذلك من الآيات التي يذكر الله تعالى فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، ثم يوبخهم محتجًا عليهم به على عدم تحقيقهم لتوحيد الألوهية.
يقول الإمام الطبري في بيان احتجاج الله تبارك وتعالى على المشركين بهذا التوحيد: "وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} يقول تعالى ذكره: لا ينبغي أن يكون معبود سواه، ولا تصلح العبادة إلا له، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} يقول تعالى ذكره: فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم الذي هذه الصفة صفته إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع"
(1)
.
ويقول الإمام أبو عبد الله القرطبي في قوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} : "أي: كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى، ولا يخاف، ولا يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه، إما أن يكون مربيك، والقيم بأمورك، ومولي شأنك، وهو ربك فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًا، وكلهم عبيده ومماليكه"
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (23/ 197).
(2)
تفسير القرطبي (8/ 340).
(3)
بدائع الفوائد (2/ 472).
ويقول الإمام ابن كثير: "فكما أنه -سبحانه- الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"
(1)
.
ويقول الإمام الشاطبي: "ووجه خامس: وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية، والعمومات المتفق عليها؛ كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} [المؤمنون: 84، 85]، فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص محسورين لا عقلاء، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61]؛ يعني: كيف يُصرَفُونَ عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا فيدعون شريكًا"
(2)
.
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وأول أمر في القرآن، يقرع سمع السامع، والمستمع، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21] فأمرهم بتوحيد الإلهية واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد، التي يعبدها المشركون من دون الله"
(3)
.
ويصرح الإمام محمد الأمين الشنقيطي بهذه الطريقة القرآنية التي سبق وأن أشار إليها الإمام ابن القيم فيقول: "ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير، فإذا
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 422).
(2)
الموافقات (4/ 326).
(3)
الدرر السنية (1/ 443).
أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق؛ لأن يعبد وحده، ووبَّخهم منكرًا عليهم شركهم به غيره مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده"
(1)
.
ثانيًا: أن تحقيق توحيد الألوهية بدون تحقيق الربوبية لا يتصور؛ لأنك إن لم تثبت الله تعالى ربًا موجودًا، وخالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا وقادرًا وفعَّالًا لما يريد، يعلم السر وأخفى، يراك في كل حال وحين، ويعلم كل ما يحدث في الكون على وجه التفصيل، فكيف تعبده، هذا هو النظر الصحيح؛ وذلك أنه لا يعبد ولا تصرف العبادة إلا لمن اتصف بالربوبية التامة، والملك الشامل، والتدبير لكل ذرات الكون، فصار بذلك مستحقًا للعبادة، وهذا يدل على أن توحيد الربوبية هو الأصل الذي يقوم فصار بذلك مستحقًا للعبادة، عليه توحيد العبادة، وهو الدرجة الأولى في سلم التعبد والتأله للملك الحق المبين، وبدونه لا يتصور حصول توحيد الألوهية.
ولقد بيَّن الله تبارك وتعالى هذا الأمر في كتابه الكريم في آيات كثيرة، وهو أن الذي يستحق أن تصرف له العبادة هو الخالق القوي لا غيره من الآلهة والأنداد التي هي مملوكة، ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن تملكه لغيرها.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]، فدلت الآية على أن المعبود هو الخالق دون غيره.
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وقال عز من قائل: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ
(1)
أضواء البيان (3/ 19).
الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16]، وقال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 2، 3]، وقال عز وجل:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]، وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)} [فاطر: 40]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]، وقال سبحانه:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف: 191]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} [الحج: 73]، وقال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35]، وقوله سبحانه:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها أن الذي لا يرزق عباده ويتكفل برزقهم فلا يستحق أن يكون معبودًا كقوله سبحانه:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} [العنكبوت: 17].
يقول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22]: {وَمَا لِيَ لَا} : تقرير لهم على جهة التوبييخ في هذا الأمر الذي يشهد العقل بصحته؛ أن من فطر واخترع
وأخرج من العدم إلى الوجود فهو الذي يستحق أن يعبد"
(1)
.
ويقول الواحدي
(2)
: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]: أندادًا: أمثالًا من الأصنام التي تعبدونها وأنتم تعلمون أنهم لا يخلقون، والله هو الخالق، وهذا احتجاج عليهم في إثبات التوحيد"
(3)
.
والمقصود إثبات توحيد الألوهية؛ لأنهم أقروا واعترفوا بتوحيد الربوبية.
ولذا عقد الإمام البيهقي بابًا في كتابه الكبير "شعب الإيمان" أشار فيه إلى أن الإقرار بتوحيد الربوبية حجة نبَّه الله تعالى بها إلى إفراده بالعبادة فقال رحمه الله: "الثالث والثلاثون من شعب الإيمان، وهو باب (في تعديد نعم الله عز وجل وما يجب من شكرها" قال الله عز وجل فيما عدد على عباده من نعمه، ونبههم بذلك على ما يلزمهم من عبادته، تعظيمًا له وشكرًا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22] "
(4)
.
ويقول الإمام ابن القيم في تفسير آية البقرة: "ثم قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} فتأمل هذه النتيجة وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها، وظفر العقل بها بأول وهلة، وخلوصها من كل
(1)
تفسير ابن عطية (4/ 451).
(2)
هو: علي بن أحمد به محمد بن علي أبو الحسن الواحدي النيسابوري، كان واحد عصره في التفسير، وكان حقيقًا بكل احترام وإعظام، لازم أبا إسحاق الثعلبي، وتصدر للإفادة وللتدريس مدة، وله شعر حسن، صنف التصانيف الثلاثة في التفسير البسيط والوسيط والوجيز، وأسباب النزول، وشرح ديوان المتنبي، وغيرها، توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة. [ترجمته في: طبقات المفسرين (ص 78 - 79)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 240 - 241)].
(3)
تفسير الواحدي (1/ 95).
(4)
شعب الإيمان (4/ 85).
شبهة وريبة وقادح، وإن كل متكلم ومستدل ومحاج إذا بالغ في تقرير ما يقرره وأطاله وأعرض القول فيه، فغايته إن صح ما يذكره أن ينتهي إلى بعض ما في القرآن.
فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من البرهان الشافي في التوحيد؛ أي: إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال، فكيف يجعلون له أندادًا وقد علمتم أنه لا ند له يشاركه في فعله"
(1)
.
ويقول رحمه الله في قصة صاحب ياسين: "ومن هذا قوله تعالى حاكيًا عن صاحب ياسين أنه قال لقومه محتجًا عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22]، فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه، ولا سيما إذا كان مرده إليه، فمبدأه منه ومصيره إليه، وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته"
(2)
.
ويقول الإمام ابن كثير في قوله تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} [نوح: 20]: "أي: خلقها لكم لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها، وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السماوات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرزاق، جعل السماء بناء والأرض مهادًا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد، ولا يشرك به أحد؛ لأنه لا نظير له، ولا عديل له، ولا ند، ولا كفء، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا وزير، ولا مشير، بل هو العلي الكبير"
(3)
.
(1)
بدائع الفوائد (4/ 945).
(2)
مفتاح دار السعادة (2/ 8)، وانظر: الصواعق المرسلة (2/ 495).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 427).
ويقول الألوسي مبينًا كون صفات الربوبية هي الدليل الأكبر على توحيد العبادة: "أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى؛ فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرًا حقيقيًا هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق؛ فهو النافع الضار على الإطلاق، سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء، فإن كل من لا يكون خالقًا لكل شيء لا يكون نافعًا ضارًا على الإطلاق، وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق؛ لأن العبادة هي الطاعة، والانقياد، والخضوع، ومن لا يملك نفعًا ولا ضرًّا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض، ويطيعه، وينقاد له؛ فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص، أو دفع ضر عنه، لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه، لا يخافه، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلًا لا يستحق أن يعبد، وهو ظاهر؛ لكن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرًا حقيقيًا هو أن الله تعالى: هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق، فهو النافع الضار"
(1)
.
ويقول العلامة محمد بشير السهسواني الهندي
(2)
: "الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة، يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم، وفهم مستقيم، فيكون الإقرار المذكور حجة عليهم، كما احتج الله تعالى على المشركين بتوحيد الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحيي والمميت، ومدبر الأمر، ومن له الأرض ومن فيها، ورب السماوات السبع ورب العرش
(1)
روح المعاني (26/ 59).
(2)
هو: محمد بشير بن محمد بدر الدين السهسواني الهندي: عالم بالحديث والفقه، من أهل الهند، مولده في لكهنؤ، سنة 1250 هـ، ونسبته إلى سهسوان، من ولاية (بدايون)، تعلم في دهلي، وتولى رئاسة المدارس الدينية في بهوبال نحو 25 عامًا، ثم عاد إلى دهلي فتوفي بها، من أشهر كتبه: صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، والحق الصريح في إثبات حياة المسيح، وغيرها، توفي سنة 1326 هـ. [انظر: الأعلام للزركلي (6/ 53)].
العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، ومن خلق السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر، ومن أنزل من السماء ماء، ومن خلقهم -في الآيات التي تليت فيما تقدم- على وحدانية الألوهية"
(1)
.
ولكن المشركين لفساد عقولهم، وحقارة أفهامهم، وسقامة قلوبهم لم يتوصلوا إلى تحقيق توحيد العبادة، ولا وصلوا إلى تلك النتيجة التي هي ملزومة لإقرارهم بتوحيد الربوبية، وهو لازم لها.
يقول الشيخ الأمين الشنقيطي بعد ذكره جملة من الآيات السابقة: "فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق، ويبرزهم من العدم إلى الوجود، أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه ويدبر شؤونه"
(2)
.
وقال رحمه الله: "لأن من تأتى من قبله البركات والخيرات، ويدرّ الأرزاق على الناس، هو وحده المتفرّد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة، ولا خير، ولا رزق، كالأصنام وسائر المعبودات من دون الله لا يصحّ أن يعبد، وعبادته كفر مخلّد في نار جهنّم"
(3)
.
ويقول الشيخ السعدي: "أما الدليل العقلي: فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم، أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات من بني آدم، والملائكة، والجن، والبهائم، والسموات والأرض، المدبر لهن بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطورًا، مدبرًا، متصرفًا فيه، ودخل في ذلك جميع ما عبد من دون الله، أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل، وتمييز أن يعبد مخلوقًا مُتَصَرَفًا فيه، لا يملك نفعًا، ولا ضرًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، ويدع عبادة
(1)
صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص 443).
(2)
أضواء البيان (2/ 330).
(3)
أضواء البيان (6/ 4).
الخالق الرازق المدبر"
(1)
.
ويقول أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22]: "أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة؛ لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده الخلق، والرزق، والحكم بيد العباد في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه، ويمجد، دون من لا يملك نفعًا، ولا ضرًّا، ولا عطاء، ولا منعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا"
(2)
.
ثالثًا: دليل الفطرة التي فطر الله عليها الخلق؛ فإن الله فطر عباده على فطرة تضمنت الإقرار به ومعرفته كما تضمنت محبته والذل له وتوحيده؛ والإقرار والمعرفة سابقة للمحبة والتوحيد وهي فرع عن الإقرار والمعرفة في ذات الفطرة، فدل ذلك على أن الإقرار والمعرفة هما الاصل لما يأتي بعدهما من المحبة والذل والخضوع والتوحيد.
يقول الإمام ابن تيمية: "ومن المعلوم أن وجود حب الله، وخشيته، والرغبة إليه، وتألهه في القلب، فرع وجود الإقرار به، وهذا الثاني مستلزم للأول؛ فإذا كان هذا يكون ضروريًا في القلب، فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له أولى أن يكون ضروريًا، فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم"
(3)
.
والملزوم هو حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه، واللازم هو الإقرار والمعرفة به سبحانه وتعالى، فإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 526).
(2)
المصدر نفسه (ص 694).
(3)
درء التعارض (3/ 137).
(4)
انظر: قاعدة التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية (ص 417).