الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
قاعدة الأصنام الجمادية لم تعبد لذاتها وإنما وضعت في الأصل لما كان غائبًا من معبودات المشركين
ويشتمل على عدة مسائل:
*
المسألة الأولى* بيان معنى القاعدة
دلت القاعدة على أن عبادة المشركين للأصنام ونحوها من الأوثان والأنصاب لم يكن لأجل ذاتها، أو لكونها أحجارًا وأخشابًا، أو لشيء من صفاتها التكوينية، وإنما كانت عبادتهم لها لأغراض أخرى، وأسباب عديدة اقتضت تصوير هذه الأصنام ونحتها على شكل وهيئة معبوداتهم، فإن معبودهم في الأصل إما أن يكون من الكواكب؛ كالشمس، أو القمر، أو زحل، أو غير ذلك، وإما أن يكون من الملائكة كجبريل وغيره، أو يكون من الأنبياء؛ كالمسيح عيسى ابن مريم، وإبراهيم، وموسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون من الصالحين، أو يكون من الجن.
يوضح ذلك أن منشأ الشرك في الأرض وأصله لا يخرج عن ثلاثة أمور:
الأول: عبادة البشر من الأنبياء والصالحين وأهل الزهد، سواء كانوا أحياء، أم أمواتًا في قبورهم.
الثاني: عبادة الكواكب.
الثالث: عبادة الملائكة أو الجن.
وبناء على ذلك وضعت الأصنام والأوثان لتكون قائمة مقام هذه المعبودات الغائبة، وتصرف لها العبادة والتوجه والخضوع والتعظيم، هذا هو أصل عبادة الأصنام من دون الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام ابن تيمية: "أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين، وعبادة تماثيلهم، وهم المقصودون، ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب؛ إما الشمس، وإما القمر، وإما غيرهما، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب، وشرك قوم إبراهيم -والله أعلم- كان من هذا، أو كان بعضه من هذا، ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة أو الجن وضعت الأصنام لأجلهم"
(1)
.
ويقول الرازي في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] مبينًا اختلاف المشركين في علة اتخاذ الأصنام: "فإن قيل هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام؛ لأنَّها جمادات فليس بينها منازعة ولا مشاكسة، قلنا: إن عبدة الأصنام مختلفون؛ منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون: زحل هو النحس الأعظم، والمشتري هو السعد الأعظم، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذٍ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة، وحينئذٍ يكون المثل مطابقًا، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 460 - 461).
مضوا، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم: أن المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه، وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضًا ينطبق المثال، فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود"
(1)
.
وذكر رحمه الله أيضًا بعض الأسباب التي دعت المشركين إلى اتخاذ الأصنام فقال: "ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة، ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنمًا على صورته، يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعًا لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] "
(2)
.
ويوضح الشهرستاني منشأ الشرك بالكواكب والملائكة -بعد أن قسَّمه إلى شرك أصحاب الهياكل وشرك أصحاب الأشخاص- بقوله: "اعلم أن أصحاب الروحانيات لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه، ويتقرب به، ويستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبِع؛ فتعرفوا أولًا: بيوتها ومنازلها: وثانيًا: مطالعها ومغاربها، وثالثًا: اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها، ورابعًا: تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامسًا: تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها.
وكانوا يسمونها أربابًا آلهة، ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقربًا إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقربًا إلى الباري تعالى، ثم استخرجوا من
(1)
التفسير الكبير (26/ 241 - 242).
(2)
التفسير الكبير (2/ 104).
عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب، وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب، والسحر، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، والصور كلها من علومهم.
وأما أصحاب الأشخاص؛ فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يُتَوَسَّل به، وشفيع يتشفع إليه، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن، لم يتحقق التقرب إليها إلَّا بهياكلها، ولكن الهياكل قد تُرَى في وقت، ولا تُرى في وقت؛ لأن لها طلوعًا وأفولًا، وظهورًا بالليل وخفاءً بالنهار، فلم يصف لنا التقرب بها، والتوجه إليها، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة، قائمة منصوبة نصب أعيننا، نعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل، فنتقرب بها إلى الروحانيات، ونتقرب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. فاتخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الكواكب والأوثان.
فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب إذ قالوا بإلهيتها كما شرحنا، وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان إذ سموها آلهة في مقابلة الآلهة السماوية، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله"
(1)
.
ويحصر الإمام ابن القيم أسباب الشرك في العالم في أمرين شرك النجوم وشرك الأموات، فيقول رحمه الله: "والأصنام التي كانوا يعبدونها
(1)
الملل والنحل (2/ 49 - 51)، ويجزم الشهرستاني بأن جميع مذاهب أهل الشرك؛ من عبدة الملائكة والكواكب والجن والأنبياء والصالحين وغيرهم يرجعون في نهاية أمرهم إلى عبادة الأصنام، وعلل ذلك بقوله:"اعلم أن الأصناف التي ذكرنا مذاهبهم يرجعون آخر الأمر إلى عبادة الأصنام، إذ كان لا يستمر لهم طريقة إلا بشخص حاضر ينظرون إليه، ويعكفون عليه، وعن هذا اتخذت أصحاب الروحانيات والكواكب أصنامًا، زعموا أنها على صورتها". [الملل والنحل للشهرستاني (2/ 259)، وانظر: التفسير الكبير للرازي (13/ 30 - 31)].
كانت صورًا وتماثيل للكواكب، وكانوا يتخذون لها هياكل، وهي بيوت العبادات، لكل كوكب منها هيكل في أصنام تناسبه، فكانت عبادتهم للأصنام وتعظيمهم لها تعظيمًا منهم للكواكب التي وضعوا الأصنام عليها، وعبادة لها، وهذا أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم، وهو الشرك بالنجوم، وتعظيمها، واعتقاد أنها أحياء ناطقة، ولها روحانيات تتنزل على عابديها، ومخاطبيها، فصوروا لها الصور الأرضية، ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب، واستنزال روحانياتها، وكانت الشياطين تتنزل عليهم، وتخاطبهم، وتكلمهم، وتريهم من العجائب ما يدعوهم إلى بذل نفوسهم، وأولادهم، وأموالهم لتلك الأصنام، والتقرب إليها، وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب، وظن السُّعُود والنُّحُوس، وحصول الخير والشر في العالم منها، وهذا شرك خواص المشركين، وأرباب النظر منهم، وهو شرك قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والسبب الثاني: عبادة القبور والإشراك بالأموات، وهو شرك قوم نوح عليه الصلاة والسلام وهو أول شرك طرق العالم، وفتنته أعم، وأهل الابتلاء به أكثر، وهم جمهور أهل الإشراك، قال تعالى عن قوم نوح:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 23].
وهؤلاء هم أعداء نوح، كما أن المشركين بالنجوم أعداء إبراهيم، فنوح عاداه المشركون بالقبور، وإبراهيم عاداه المشركون بالنجوم، والطائفتان صوروا الأصنام على صور معبوديهم ثم عبدوها"
(1)
.
(1)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 197)، وقال مبينًا تلاعب الشيطان بالمشركين: (تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم؛ فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام،
…
وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم=