الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
قاعدة تعظيم شعائر الله هو تعظيم لله وعبادة له، فهو تابع لتعظيم الله وإجلاله
وفيه مسائل:
*
المسألة الأولى * شرح مفردات القاعدة
أولًا: معنى التعظيم:
التعظيم مشتق من أصل لغوي ثلاثي هو (عظم)، والعين والظاء والميم أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على كِبَر وقُوّة، فالعِظَم: مصدر الشَّيء العظيم، تقول: عَظُمَ يَعْظُم عِظَمًا، وعَظَّمَه تَعْظِيمًا وأعْظَمَهُ: فَخَّمَهُ، وكَبَّرَهُ، فإذا عَظُم في عينيك قلت: أعْظَمْتُهُ واسْتَعْظَمْتُه، ومن الباب العَظْم، سمِّي بذلك لقوّته وشِدّته
(1)
.
ثانيًا: معنى شعائر الله:
الشعائر على وزن فَعَائِل، وأصلها من الفعل الثلاثي (شعر)، ومفردها:(شَعِيرَة) على وزن (فَعِيلة)؛ فقيل هي بمعنى (مُشْعِرَة) بصيغة
(1)
انظر: معجم مقاييس اللغة (4/ 355)، والقاموس المحيط (ص 1470).
اسم فاعل، وقيل: بمعنى مفعولة؛ أي: (مُشْعرٌ بها)، ثم إن مادة (شعر) تتضمن أصلين: أحدهما الثَبَات، والآخر عِلْم وعَلَم
(1)
.
فمن الأول: (الشَّعْر) وجمعه أَشْعار والواحدة (شعرة)، ورجل أشعر: طويل شعر الجسد، ومن الثاني: قولهم شعرت بالشيء إذا علمته وفطنت له، وليت شعري؛ أي: ليتني علمت، ومنه سمي الشاعر؛ لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره
(2)
، ومنه الشِّعار: الذي يتنادَى به القومُ في الحرب ليَعرِف بعضُهم بعضًا، ومشاعر الحج: مواضع المناسك، سميت بذلك، لأنَّها ظاهرة للحواس
(3)
.
فالشعائر إذًا كل ما جعل علمًا على شيء، أو كان علامة على أمر بحيث يكون ظاهرًا للحواس
(4)
.
وأما معنى الشعائر في الشرع فقد اختصت بعدة أمور بيَّنها أهل العلم في ثنايا كلامهم في بيان معنى الشعائر التي أمر الله بتعظيمها:
فجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بأن الشعائر هي الهدي والبدن، قال وتعظيمها يكون باستحسانها، واستسمانها، وقيل: هي الجمار، وقيل: هي الصفا والمروة، وقيل: هي الركن والبيت، وقيل: الوقوف بعرفة
(1)
معجم مقاييس اللغة (3/ 193).
(2)
سمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته، فالشِّعْرُ في الأصل: اسم للعلم الدقيق، وصار في التعارف اسمًا للكلام الموزون والمقفى، وحده: ما تركب تركبًا متعاضدًا، وكان مقفى، موزونًا، مقصودًا به ذلك، فما خلا من هذه القيود أو من بعضها فلا يسمى شعرًا، ولا يسمى قائله شاعرًا؛ ولهذا ما ورد في الكتاب أو السُّنَّة موزونًا فليس بشعر؛ لعدم القصد، أو التقفية، وكذلك ما يجري على ألسنة بعض الناس من غير قصد؛ لأنه مأخوذ من شعرت إذا فطنت وعلمت، وسمي شاعرًا لفطنته وعلمه به، فإذا لم يقصده فكأنه لم يشعر به،
…
[انظر: المصباح المنير (1/ 315)، والمفردات في غريب القرآن (ص 262)].
(3)
انظر: المصباح المنير (1/ 315)، والمفردات في غريب القرآن (ص 262)، ومعاني القرآن للنحاس (2/ 250)، ومشارق الأنوار (2/ 225).
(4)
انظر: غريب الحديث، لابن قتيبة (1/ 220).
ومزدلفة
(1)
.
وبعد أن ذكر الإمام الطبري هذه الأقوال وغيرها تعقبها بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره وهي ما جعله أعلامًا لخلقه فيما تعبدهم به من مناسك حجهم؛ من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها، والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم من تقوى قلوبهم، لم يخصص من ذلك شيئًا فتعظيم كل ذلك من تقوى القلوب"
(2)
.
والناظر في كلام أهل العلم في معنى (الشعائر) يجد بعضهم قد فسرها بحسب معناها في الآية، كما جاء عن ابن عباس وغيره، ومنهم من فسرها بما هو أعم من ذلك، وقد يمثلون بشيء مما مرَّ ذكره.
والصحيح أن الشعائر هي كل ما أشعر الله به عباده وأعلمهم بتعظيمه وتعبدهم بذلك، فهي أعلام الدين، وشعائر الملة، أعم من كونها أعلامًا للحج، وإن كانت شعائر الحج تدخل في ذلك دخولًا أوليًا
(3)
، وفيما يأتي بعض ما وقفت عليه من أقوال أهل العلم في بيان معنى الشعائر:
فعن عطاء: "أنه سئل عن شعائر الله، فقال: حرمات الله، اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله"
(4)
.
وجاء عنه بأنها: "جميع ما أمر به أو نهى عنه"
(5)
.
وقال الإمام الطبري: "وأما قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} : فإنه يعني من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلمًا ومشعرًا يعبدونه عندها؛
(1)
انظر: تفسير الطبري (17/ 156)، وتفسير السمعاني (3/ 437).
(2)
تفسير الطبري (17/ 157)، وهذا ما رجحه في مواضع أخرى. انظر:(17/ 159).
(3)
انظر: فتح القدير (3/ 452).
(4)
تفسير الطبري (6/ 54).
(5)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 146).
إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها"
(1)
.
وعرَّفها الرازي بقوله: "فهي أعلام طاعته، وكل شيء جعل علمًا من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله"
(2)
.
وقال الجصَّاص في معنى الشعائر: "الشعائر: هي معالم للطاعات والقرب"
(3)
.
وقال الزجاج في بيان معنى الشعائر: " يعْنِي بها جَميعَ مُتَعَبَّداتِه التي أَشْعَرَها الله: أَي جَعَلَها أَعلامًا لنا، وهي كلُّ ما كان من مَوْقفٍ، أَو مَسْعًى، أَو ذَبْحٍ، وإِنّما قيل شَعائِرُ لكُلّ عَلَمٍ ممّا تُعَبِّدَ به؛ لأنّ قَوْلَهُمْ شَعَرْتُ به: عَلِمْتُه، فلهذا سُمِّيَتِ الأَعلامُ التي هي مُتَعَبَّداتُ اللّهِ تعالى شَعَائِرَ"
(4)
.
ويقول العلامة عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]: "يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان: من شعائر الله: أي: أعلام دينه الظاهرة التي تعبَّد الله بها عباده"
(5)
.
ويقول الشيخ ابن عاشور في تفسير معنى الشعائر: "والشعائر: جمع شعيرة، وهي أمكنة، وأزمنة، وذوات؛ فالصفا والمروة، والمشعر الحرام: من الأمكنة، والشهر الحرام: من الشعائر الزمانية، والهدي والقلائد: من الشعائر الذوات"
(6)
.
(1)
تفسير الطبري (2/ 44)، وانظر: تفسير القرطبي (2/ 180)، و (12/ 56).
(2)
التفسير الكبير (4/ 143)، وانظر: تفسير ابن زمنين (1/ 190).
(3)
أحكام القرآن، للجصاص (1/ 121).
(4)
تاج العروس (12/ 191)، وتهذيب اللغة للأزهري (1/ 267).
(5)
تفسير السعدي (ص 76).
(6)
انظر: التحرير والتنوير (6/ 81 - 82).
ويقول الشيخ العثيمين: "والشعائر: جمع شعيرة؛ وهي التي تكون عَلَمًا في الدين؛ يعني: من معالم الدين الظاهرة؛ لأن العبادات منها خفية: بَيْن الإنسان وربه؛ ومنها أشياء عَلَم ظاهر بيِّن، وهي الشعائر"
(1)
.
ويقول الشيخ أحمد شاه الدهلوي: "وأعني بالشعائر: أمورًا ظاهرة محسوسة، جعلت ليعبد الله بها، واختصت به حتى صار تعظيمها عندهم تعظيمًا لله، والتفريط في جنبها تفريطًا في جنب الله، وركز ذلك في صميم قلوبهم، لا يخرج منه إلا أن تقطع قلوبهم"
(2)
.
ويظهر مما سبق أن الشعائر عامة في كل ما أشعر الله تبارك وتعالى به عباده، وبين لهم مكانته وأهميته وشرفه، وتعبدهم بكل ذلك، وأنها مشتملة على أمكنة وأزمنة وذوات وأقوال وأفعال.
ولذا يقول الشيخ السعدي في قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]: "هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة"
(3)
.
ويقول الشيخ الدهلوي أيضًا: "وإنما ينبغي أن يجعل من الشعائر: ما كثر وجوده، وتكرر وقوعه، وكان ظاهرًا، وفيه فوائد جمة، تقبله
(1)
تفسير القرآن الكريم للعثيمين، سورة البقرة (2/ 184)، وإنما أضيفت الشعائر إلى الله؛ لأنه هو الذي أشعرها وشرعها، وأثبتها، وجعلها طريقًا موصولًا إليه، إذ التعظيم من حيث هو تعظيم لا يمدح ولا يذم إلا باعتبار متعلقه، فإذا كان تعظيمًا لله، وكتابه، ودينه، ورسوله، كان خيرًا محضًا، وإن كان تعظيمًا للصنم، وللشيطان، فإضافته إلى هذا المحل جعلته شرًا، كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك. [انظر: شفاء العليل (ص 182)].
(2)
حجة الله البالغة (ص 145).
(3)
تفسير السعدي (ص 538)، ومثل الشعائر في ذلك الحرمات، ولذا عرفها الإمام ابن القيم بالعموم بعد أن ذكر عدة أقوال للسلف فيها فقال:"والصواب أن (الحرمات) تعم هذا كله، وهي جمع حرمة، وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق، والأشخاص، والأزمنة، والأماكن، فتعظيمها: توفيتها حقها، وحفظها من الإضاعة". [مدارج السالكين (2/ 74)].