الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره، فيما يستحقه على عباده، ويختص به من العبادات الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع، والخوف، والرجاء، والاستعانة، والاستغاثة، والإنابة، والتوكُّل، والطاعة والتقوى، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات"
(1)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "وتسوية المخلوق بالخالق في نوع من أنواع العبادة شرك، فإن كان في الأصغر -مثل هذا-
(2)
فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر"
(3)
.
ويقول أيضًا: "والشرك: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله"
(4)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
يمكن الاستفادة من القاعدة وتطبيقها في نواح عديدة، ومن ذلك:
أولًا: أن جميع أنواع الشرك لا تخلو من تسوية بين الخالق والمخلوق، فإن كانت فيما يتعلق بأفراد الشرك الأصغر كانت هذه التسوية شركًا أصغر، وإن كانت فيما يتعلق بأفراد الشرك الأكبر أخذت حكم الشرك الأكبر.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كلامه على حديث حذيفة
(1)
مصباح الظلام (ص 582).
(2)
أي: التسوية في قوله: (ما شاء الله وشاء فلان)، وسيأتي قريبًا ذكر حديث حذيفة في ذلك (ص 781).
(3)
حاشية كتاب التوحيد (ص 304)، وقال أيضًا:"وكما أن الشرك أظلم الظلم، وأبطل الباطل -كما تقدم- فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين، وهو أقبح المعاصي؛ لأنه تسوية للمخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه". [حاشية ثلاثة الأصول للشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ص 37)].
(4)
حاشية كتاب التوحيد، لابن قاسم (ص 15).
عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ"
(1)
، قال: "وذلك لأن المعطوف بـ (الواو) يكون مساويًا للمعطوف عليه؛ لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، وتسوية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر -مثل هذا- فهو أصغر- وإن كان في الأكبر فهو أكبر،
…
بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخيًا عن المعطوف عليه بمهملة، فلا محذور لكونه صار تابعًا"
(2)
.
وهذا يدل على أن التسوية بين الخالق والمخلوق لا تجوز ولو كانت في مجرد اللفظ؛ لأنَّها قد تكون ذريعة إلى اعتقادات القلوب، وإرادات النفوس، وسدًّا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ
(3)
.
ثانيًا: أفادت القاعدة أن ضابط الشرك بالله تعالى ومرجعه الذي يدور حوله هو التسوية الحاصلة بين الخالق والمخلوق، سواء كانت بالاعتقاد القلبي، أو باللسان، أو بالفعل، فمن اعتقد التسوية بين الخالق والمخلوق فيما يختص بالخالق أو يختص بالمخلوق، في الذات أو الصفات أو الأفعال، أو صرح بها بلسانه، أو فعل فعلًا يقتضيها ويؤول إليها كان واقعًا في الشرك بالله تعالى.
وبذلك يحكم على جميع الاعتقادات والأقوال والأعمال المتضمِّنة
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 384)، (13/ 23313)، والنسائي في السُّنن الكبرى (6/ 245)، (10821)، وأبو داود في السُّنن (4/ 295)، (4980)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 340)، (26690)، رواه أبو داود بسند صحيح.
(2)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص 415)، [وانظر: حاشية كتاب التوحيد، لابن قاسم (ص 304)، والمقصود أن (الواو) تفيد الجمع والتشريك، بخلاف (ثم) فإنها تفيد الترتيب المتراخي].
(3)
انظر: إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 146)، والفتاوى (1/ 136).
لهذه التسوية بأنها شرك بالله العظيم بحسب حال هذه التسوية.
ويدخل في ذلك جميع العبادات من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة التي يحبها الله تعالى، وقد أمر بها سبحانه ورغَّب فيها، فهذه إذا صرفت لغير الله تعالى وقعت التسوية بين الخالق والمخلوق.
ومن ذلك ما يفعله من يغلو في القبور؛ من الخضوع للأولياء في أضرحتهم كخضوعهم للملك الجبار، مع شدة المحبة والرهبة والخوف من غضبهم، بل ألبسوهم بعض صفات الباري من السمع المطلق والبصر المطلق، والقدرة المطلقة، وغير ذلك، وسووهم بالله تعالى في صفاته وأفعاله وحقوقه.
وقد استفحل هذا الداء العضال، واستشرى بين أهل الإسلام، ولا يكاد يخلو منه قطر من أقطار المسلمين إلا وتجده يسري فيهم سريان النار في الهشيم، وكأنه هو الدين الذي بعث به محمد بن عبد الله عليه السلام، كل ذلك بسبب الجهل العظيم بحقيقة دين الإسلام وما بعث به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد المبين، ودعوة الإسلام الخالصة، وبسبب إيحاء شياطين الإنس والجن إلى هؤلاء الجاهلين أن من لم يحضر إلى قبر الولي الفلاني ويقدم له النذور، وينحر عند قبره الذبائح، أو لم يحضر احتفال مولده حلت عليه اللعنة في حياته وبعد موته، وغشيه السخط، وتتابعت عليه المصائب، ولحقه الأذى في دينه ودنياه.
ولا تكاد اللعنة ترفع عنه حتى يراجع نفسه، ويعود إلى قبر الولي خاضعًا متضرعًا ذليلًا يتفطّر فؤاده، وخائفًا راهبًا وراغبًا يرجف قلبه، مقرًّا بجرمه، تائبًا من ذنبه، عازمًا على أن لا يعود إلى سابق ضلاله، وعظيم جفائه. فما أقبح هذه المساواة، وأشنع هذه التسوية بين الخالق العظيم والمخلوق الضعيف.
ثالثًا: دلت القاعدة على أن الشرك تسوية بين الخالق والمخلوق،
وهذه التسوية بين الخالق العظيم والمخلوق الحقير هي الظلام الأكبر، والضلال الأبعد، والظلم المبين، الذي استحق العبد بسببه العذاب المستديم، والخلود في الجحيم، لما اقترفه من القدح في عظمة الربوبية، والتنقيص من جلال الألوهية.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وهو أن الشرك لا يغفره الله تعالى؛ لِتَضمُّنِهِ القدح في رب العالمين، ووحدانيته، وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات، فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء، بل ليس له إلا العدم؛ عدم الوجود، وعدم الكمال، وعدم الغنى من جميع الوجوه"
(1)
.
رابعًا: أن التسوية بالألفاظ بين الله تعالى وبين خلقه توقع في ذرائع الشرك بالله تعالى وأسبابه، وهي دائرة بين أنواع الشرك الأكبر والأصغر بحسب اللفظ والقصد والنية؛ كقولك: ما شاء الله وشاء فلان، وهذا لله ولك.
(1)
تفسير السعدي (ص 203).