الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واقعًا في الشرك الخفي وهو شرك أصغر لا يخرج عن ملة الإسلام.
وأما من تعاطى ما ليس سببًا كونيًا ولا شرعيًا واعتقده سببًا مع عدم الدليل على سببيته؛ لا كونًا ولا شرعًا ولا عرفًا كان واقعًا في الشرك الأصغر؛ لأنه شارك الرب تبارك وتعالى في الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سببًا، وليست له سببية بحسب العادة والعرف
(1)
.
وبفهم هذه المسألة العظيمة يصل المؤمن إلى التحقيق الكامل لتوحيد الله تعالى؛ فإن حقيقته أن ترى الأمور كلها من الله تعالى، رؤية تقطع الاعتماد على الأسباب، واعتقاد كونها مؤثرة بذاتها، وهذا المقام يثمر التوكل، وترك شكاية الخلق، وترك لومهم، والرضا عن الله تعالى، والتسليم لحكمه
(2)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
لقد تظاهرت الأدلة الدالة على تقرير معنى القاعدة من الكتاب الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة، وفيما يأتي أذكر ما ظهر لي منها:
أولًا: أن إثبات تأثير الأسباب وإنتاجها للمسببات بذاتها فيه إثبات القدرة والإيجاد والإبداع لها، ولا شك أن إثبات موجد مستقل بالتأثير معِ الله شرك في الربوبية؛ لأنه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى، قال سبحانه وتعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، فخص الخلق به سبحانه دون ما سواه.
فلا محدث، ولا خالق، ولا موجد إلا الله تعالى، فكل ما يدخل
(1)
انظر: مجلة البحوث الإسلامية عدد (69)، (ص 118 - 119).
(2)
انظر: تجريد التوحيد، المفيد للمقريزي (ص 18).
في الوجود من المخلوقات، ومن أفعال العباد، وأعمالهم الظاهرة والباطنة كلها إنما حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه.
فهو سبحانه وحده المتفرد بالخلق والإيجاد، والإبداع والتصوير، وقد نص على هذا الدليل في أكثر من موضع كما في قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [الأنعام: 101] فنص على أنه خلق كل شيء بما في ذلك الأسباب ومسبباتها
(1)
.
فكيف بعد ذلك يسند الإبداع والإيجاد، وهما من خواص الإلهية إلى أعجز شيء وأهونه وهو الأسباب، فالقرآن الكريم يرسخ هذا الدليل في آياته التي تبحث عن الخلق والإيجاد، ويقرر أن لا مؤثر إلا الله وحده، فالأسباب لا تأثير لها تأثيرًا حقيقيًا، وإنما هي أسباب مُدَبَّرَة ومُصَرَّفَة بخلق الله لها، وجعلها مؤثرة إذا شاء ذلك سبحانه وتعالى
(2)
.
والحاصل أن هذا الأصل -أعني: اختصاصه سبحانه بالخلق والإبداع والتدبير والتصريف دون ما سواه- هو من أعظم أصول الإسلام وأجلها، والقاعدة العظمى التي تدور عليها جميع الأحكام، وجميع القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا الأصل ويقرره، وقد احتج به تعالى على وجوب عبادته وطاعته، وأنه الإله الحق دون ما سواه
(3)
.
ثانيًا: حديث زيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِّيّ
(4)
أنَّهُ قالَ: (صَلَّى لَنَا
(1)
انظر: أضواء البيان (8/ 70).
(2)
انظر: حقيقة التوحيد لبديع الزمان النورسي (ص 173).
(3)
انظر: البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية، للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ (90).
(4)
هو: زيد بن خالد الجهني، مختلف في كنيته؛ فقيل: أبو زرعة، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو طلحة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عثمان وأبي طلحة وعائشة، وروى عن ابناه خالد وأبو حرب، ومولاه أبو عمرة وغيرهم، وشهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، وحديثه في "الصحيحين" وغيرهما، مات =
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إثْرِ سَماءٍ كانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فلمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فقال:"هَلْ تَدْرُونَ ماذَا قال ربُّكُمْ؟ " قالُوا: الله ورسولُهُ أعْلَمُ. قال: "أصْبَحَ مِنْ عِبَادي مُؤْمِنٌ بي وكافِرٌ فأمَّا منْ قالَ مُطِرْنا بفَضْلِ الله ورَحْمَتِهِ فذلِكَ مُؤْمِنٌ بي وكافِرٌ بالكوْكَبِ وأمَّا مَنْ قال مُطِرْنا بَنَوْءٍ كَذَا وكَذَا فذَلِكَ كافِرٌ بي ومُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ")
(1)
.
قال الإمام الشافعي: "وأرى معنى قوله والله أعلم: أن من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك إيمان بالله؛ لأنه يعلم أنه لا يمطر، ولا يعطي إلا الله عز وجل، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا فذلك كفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ولا يمطر، ولا يصنع شيئًا، فأما من قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا بوقت كذا فإنما ذلك كقوله مطرنا في شهر كذا، ولا يكون هذا كفرًا، وغيره من الكلام أحب إليَّ منه"
(2)
.
ويقول الإمام النووي: "فاختلف العلماء في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين؛ أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى، سالب لأصل الإيمان، مخرج من ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدًا أن الكوكب فاعل مدبر، منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير
= سنة ثمان وسبعين بالمدينة وله خمس وثمانون. [ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 603)].
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم (1/ 290)، برقم (810)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (1/ 83)، برقم (71)، من حديث زيد بن خالد الجهني.
(2)
الأم (1/ 252)، وانظر: الاستذكار (2/ 438).
العلماء، والشافعي منهم، وهو ظاهر الحديث"
(1)
.
وقال الإمام ابن عبد البر بعد ذكره لحديث النوء: "فمعناه عندي على وجهين؛ أحدهما: أن القائل مطرنا بنوء كذا؛ أي: بسقوط نجم كذا، أو بطلوع نجم كذا، إن كان يعتقد أن النوء هو المنزل للمطر، والخالق له، والمنشئ للسحاب من دون الله، فهذا كافر كفرًا صريحًا ينقل عن الملة، وإن كان من أهلها استتيب. فإن رجع إلى ذلك إلى الإيمان بالله وحده وإلا قتل إلى النار.
وإن كان أراد أن الله عز وجل جعل النوء علامة للمطر، ووقتًا له، وسببًا من أسبابه؛ كما تحيي بالأرض الماء
(2)
بعد موتها، وينبت به الزرع، ويفعل به ما يشاء من خليفته
(3)
، فهذا مؤمن لا كافر.
ويلزمه مع هذا أن يعلم: أن نزول الماء لحكمة الله تعالى، ورحمته، وقدرته لا بغير ذلك؛ لأنه مرة ينزله بالنوء ومرة بغير نوء كيف يشاء لا إله إلا هو.
والذي أحب لكل مؤمن أن يقول كما قال أبو هريرة: مطرنا بفضل الله ورحمته ويتلو الآية إن شاء"
(4)
.
ويقول الشيخ الدهلوي عقب ذكره لحديث النوء: "ومغزى الحديث أن من اعتقد للنجوم تأثيرًا في العالم وما يحدث فيه من الحوادث كان عند الله ممن كفر به وعبد النجوم، ومن عزا كل ما يحدث في العالم من خير وشر، ومن حوادث وأمور إلى الله وحده كان عند الله من عباده المقبولين، الذين تبرأوا من عبادة النجوم والكواكب"
(5)
.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 60).
(2)
هكذا في المطبوع، وكذا في الطبعة التي بتحقيق: عبد المعطي قلعجي، ولم يظهر لي وجه ذلك، والمقصود:(كما يحيى الأرض بالماء).
(3)
هكذا في المطبوع ولم يظهر لي وجه ذلك ولعلها تصحفت من (خليقته).
(4)
الاستذكار (2/ 437) ..
(5)
رسالة التوحيد للدهلوي (ص 130).