الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك الشفاعة هي توسط الشافع للمشفوع له عند المشفوع إليه
(1)
.
*
المسألة الثانية* معنى القاعدة
دلت القاعدة على نوعين من الواسطة:
النوع الأول: واسطة منفية وهي واسطة شركية بدعية.
والثاني: واسطة مثبتة وهي واسطة شرعية إيمانية
(2)
.
فأما الواسطة الشركية البدعية فهي المنفية عن دين الحنفاء -وهو دين الإسلام العام
(3)
- فليس فيه واسطة بين الله وخلقه، لا في أمور الربوبية؛ من الخلق والرزق، والنفع والضر، وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وتفريج الكربات، والحفظ والهداية، ولا في شيء من أمور الألوهية، من عبادة الله تعالى، والتقرب إليه بالدعاء والاستعانة وغير ذلك من أنواع العبادات، فالحنفاء يوحدون ربهم في ربوبيته وألوهيته بدون واسطة لا من البشر ولا من غير البشر.
يقول الإمام ابن تيمية: "وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم،
(1)
انظر: رسالة الواسطة بين الله وخلقه، للمرابط يسلم الشنقيطي (ص 20 - 25).
(2)
الناس في الواسطة بنوعيها بين مثبت ونافي، وبيان ذلك كما يلي:
الفلاسفة: الذين يقولون: إن الكواكب والروحانيات، والعقول المدبرة هي الواسطة بين الله وخلقه.
الرافضة: الذين يزعمون أن الأئمة من أهل البيت هم الواسطة بين الله والناس.
الصوفية: الذين يدعون أن أرباب الطرق، وشيوخ الفرق هم الواسطة بين الحق والخلق، كما أن منهم ينفي الواسطة في التبليغ والرسالة فيعتقدون أنهم يتلقون من الله مباشرة وهو ما يعرف عندهم بالعلم اللدني.
أهل المذهب الحق: الذين يفصلون فيثبتون الواسطة في التبليغ والرسالة، وينفونها في العابدة. [انظر: الواسطة بين الله وخلقه عند أهل السُّنَّة ومخالفيهم، للمرابط الشنقيطي (ص 5، 95)].
(3)
انظر: قاعدة دين الأنبياء واحد (ص 75) من هذه الرسالة.
وإجابته لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل"
(1)
.
وجميع هذه الأمور التي ذكرها شيخ الإسلام تتعلق بصفات الربوبية.
ويقول رحمه الله: "وإن أراد بالواسطة أن لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين"
(2)
.
ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء: 57]: "يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكًا من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى: لو كان الأمر كما يقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه"
(3)
.
وأما الواسطة الشرعية الإيمانية، فهي وساطة الأنبياء في تبليغ الرسالة، وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، فكل وساطة من الله تعالى في تبليغ دينه وشرعه فهي وساطة شرعية إيمانية لا يصح إيمان الإنسان إلا بالإيمان بها واعتقادها واتباعها، ويدخل في ذلك وساطة الملائكة بين الله ورسله، ووساطة الأنبياء بين الله وخلقه، وكذلك وساطة
(1)
مجموع الفتاوى (11/ 171).
(2)
المصدر نفسه (1/ 123).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 42).
العلماء بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، فجميع هذه الوساطات لا تخرج عن حيز التبليغ والدلالة، ولا يحق لها التوسط بين الله وخلقه في الربوبية والألوهية.
والملائكة من جملة تلك الوسائط لتبليغ الوحي والنزول بالشرائع من عند الله تعالى إلى أنبيائه ورسله، كما أنها واسطة في تدبير أوامر الله الكونية.
يقول الشيخ الألوسي: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]: على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه، والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عز وجل يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه؛ كالأمطار والرياح وغيرهما، وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم"
(1)
.
ويقول الشيخ السعدي: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} : في تدبير أوامره القدرية، ووسائط بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره الدينية"
(2)
.
والمقصود أن الملائكة وسائط بين الله وبين تدبيره سبحانه لبعض أمور الكون، فهم من ضمن الأسباب التي يخلق الله بها ما يشاء من المسببات.
يقول الإمام ابن تيمية: "وأما أهل الهدى والفلاح؛ فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في إمام مبين.
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته وربوبيته، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، ما هو من أصول الإيمان.
(1)
روح المعاني (22/ 161).
(2)
تفسير السعدي (ص 684).
ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي يخلق بها المسببات كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب"
(1)
.
وبالنسبة للوحي فإن جبريل هو الواسطة بين الله تعالى وجميع أنبيائه ورسله، كما قال عز وجل في شأن الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 193، 194].
يقول الرازي في "تفسيره": "وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء، فكان عالمًا بكل الشرائع الماضية والحاضرة، وهو أيضًا عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم"
(2)
.
ويقول الألوسي: "وقد دلت الآية على تعظيم جبريل، والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة"
(3)
.
كما أن الرسل هم الواسطة بيننا وبين الله تعالى في تبليغ الوحي وإيصال الشرائع والأحكام إلى الخلق.
يقول أبو عبد الله القرطبي: "وأن رسله صادقون في قولهم، ومؤيدون بالمعجزات من عند ربهم، وأنهم عبيد الله ورسله، وأنهم بشر مثلنا، إلا أن الله تعالى فضلهم: بأن جعلهم واسطة بينه وبين خلقه"
(4)
.
ويقول الشيخ السعدي في شأن عيسى عليه السلام وما له من المنزلة عند
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 112).
(2)
التفسير الكبير (2/ 208).
(3)
تفسير الألوسي (1/ 333).
(4)
الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، للقرطبي (ص 440).
ربه تبارك وتعالى: "وكذلك يكلمهم كهلًا؛ أي: في حال كهولته، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد، فكلامه في المهد فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة، وكلامه في كهولته فيه نفعه العظيم للخلق، وكونه واسطة بينهم وبين ربهم في وحيه وتبليغ دينه وشرعه"
(1)
.
وكذلك الصحابة رضى الله عنهم، والعلماء من بعدهم -سيما أهل الحديث- فهم الواسطة بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي الوحي، ومعرفة الشرائع لا تكون إلا عن طريقهم؛ لأن هذا الدين ما كان ليصلنا كاملًا بدون نقص -بعد حفظ الله تبارك وتعالى له- بدون الصحابة رضى الله عنهم؛ بصبرهم وجهادهم في سبيل الله لنصرة هذا الدين.
يقول الإمام البيهقي
(2)
في وصفه لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: "وقطع الريب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة النجباء الذين اختارهم الله تعالى له وزراء وأصفياء، وخلفاء، وجعلهم السفراء بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم عن حق عداه أو عدوه، وصدق تجاوزوه"
(3)
.
ويقول الإمام ابن عبد البر: "وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم، لأنَّهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته"
(4)
.
فأهل الحديث جعلهم الله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم
(1)
تفسير السعدي (ص 130).
(2)
هو: الإمام حافظ الزمان أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي الشافعي، له العديد من المصنفات منها:"السُّنن الكبرى والصغرى"، "دلائل النبوة"، و"شعب الإيمان"، و"الأسماء والصفات" وغيرها، توفي سنة 458 هـ. [انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 163)، وطبقات الحفاظ (1/ 432)].
(3)
كتاب الأسماء والصفات، البيهقى (2/ 385).
(4)
التمهيد (23/ 195).