الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفعلية كأن يقوم المُشَبِّه بفعلِ يفضي به إلى الشرك بالله تعالى الذي هو تشبيه الله بخلقه، وتمثيله بهم
(1)
؛ كالذبح لغير الله، أو السجود لغير الله، ونحو ذلك من الأعمال الشركية التي فيها تشبيه المخلوق بالخالق عز وجل"
(2)
.
وأمَّا الأَصْلُ فهو أسفلُ الشيءِ وجمعُه أُصولٌ لا يُكَسَّر، وأصل الشيء أسفله، وأساس الحائط أصله، واستأصل الشيء ثبت أصله وقوى، ثم كثر حتى قيل: أصل كل شيء ما يستند وجود ذلك الشيء إليه، وأصل الشيء ما منه الشيء؛ أي: مادته كالوالد للولد والشجرة للغصن، فالأب أصل للولد، والشجرة أصل للغصن
(3)
، فالأصل هو ما ابتنى عليه غيره، أو ما تفرع عنه غيره
(4)
.
قال الراغب: "وأصل الشيء: قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعه سائره لذلك، قال تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)} [إبراهيم: 24] "
(5)
.
*
المسألة الثانية * معنى القاعدة
تضمنت القاعدة بيان التشبيه الواقع من المشركين؛ الذين أشركوا مع الله تعالى في العبادة، وشبهوا المخلوق بالخالق، والخالق
(1)
فيه نظر؛ لأنه مثل بعد ذلك بصورة الذبح لغير الله والسجود لغير الله وهذه فيها تشبيه المخلوق بالخالق لا العكس وهذا الذي قرره في غاية الجملة والله أعلم.
(2)
مقالة التشبيه وموقف أهل السُّنَّة منها، للدكتور جابر إدريس أمير (1/ 159).
(3)
انظر: المحكم والمحيط الأعظم (8/ 305)، ومعجم مقاييس اللغة (1/ 109)، والتعريفات للجرجاني (ص 45).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (13/ 158)، والبحر المحيط في أصول الفقه (1/ 10)، وحاشية ابن عابدين (4/ 547).
(5)
المفردات في غريب القرآن، للراغب (ص 19).
بالمخلوق، ومعنى كون التشبيه أصلًا للشرك وعبادة الأوثان والأصنام؛ أي: هو حقيقته وموجبه وعلته الملازمة له، إذ لا ينفك الشرك وعبادة غيره سبحانه عن تشبيه واقع بين المخلوق والخالق، فمن صرف الدعاء لغيره عز وجل فقد شبَّه ذلك الغير بالله تعالى بإعطائه أخص ما يستحقه سبحانه من التضرع والخضوع والذلة الملازمة للداعي.
كما أنهم شبهوا الله تعالى بخلقه في كونه لا يتوصَّل إليه إلَّا بالوسائط، فهم يرفعون حوائجهم إلى تلك الوسائط، ومن ثم ترفعها الوسائط إليه سبحانه وتعالى، فما من مشرك إلا وقد شبَّه معبوده بالله تعالى، فجعل لله مثلًا وشبيهًا، وعدلًا ونديدًا، أو شَبَّه الله تعالى بالمخلوقين، فلا يخلو المشرك من أحد التشبيهين، وقد يجمع في شركه بين النوعين، ولا شك في شناعة كِلا التشبيهين؛ إذ فيه تشبيه المخلوق الضعيف الذي لا يملك نفعًا ولا ضرًّا -لنفسه فضلًا عن غيره- بالخالق العلي العظيم، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، مالك الملك لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، العليم بخفايا الأمور ودقيقها، الغني عن كل ما سواه، وجميع خلقه مفتقرون إليه، الذي لا يعجزه شيء من سؤال خلقه له سبحانه وتعالى.
فلا وجه لهذا التشبيه البتة إذ إن الخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف؛ فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق، أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق، مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق
(1)
.
يقول الإمام ابن تيمية في طريقة أهل الحق في هذا الباب: "ولا يصفون أحدًا من المخلوقين بخصائص الخالق جل جلاله، بل كل ما سواه من الملائكة والأنبياء وسائر الخلق فقير إليه، عبد له، وهو الصمد الذي
(1)
انظر: أضواء البيان (7/ 271).
يحتاج إليه كل شيء، ويسأله كل أحد، وهو غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد في شيء من الأشياء، كما قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 88 - 95] "
(1)
.
والفرق بين تشبيه صفات المخلوق بالخالق، وتشبيه صفات الخالق بالمخلوق: أن في تشبيه صفات المخلوق بالخالق تعظيمًا للمخلوق، ورفعًا له إلى مقام الألوهية، وهذا بلا شك من أعظم الإشراك بالله العظيم، أما تشبيه صفات الخالق بالمخلوق فحط من قدر الخالق سبحانه وتعالى، وتنقص له، وهو كسابقه في الكفر والشناعة.
يقول الإمام ابن القيم: "فتبين أن المُشَبِّهَةَ هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله في قولهم: ليس لي إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك"
(2)
.
ويقول أيضًا: "ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية، والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه
(1)
الجواب الصحيح (2/ 143).
(2)
إغاثة اللهفان (2/ 233).
ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله.
فمن أعطى حبه، وذله، وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه، فمن خصائص الإلهية السجود؛ فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل؛ فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة؛ فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه تعظيمًا وإجلالًا؛ فمن حلف بغيره فقد شبهه به"
(1)
.
ومن أجل هذا التشبيه الشنيع الواقع من المشركين حرَّم الله تعالى الشرك، وجعله من أكبر الجرائم، وأعظم المحرمات، وأفظع الظلم الذي تتفطر له السموات، وتنشق له الأرضون، وتتفتت من قبحه وشناعته الجبال الرواسي.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "فمن صرف شيئًا من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركًا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شبه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته؛ ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى"
(2)
.
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "فكيف بالقول على الله بلا علم في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته: من تشبيه خلقه به، أو تشبيهه لخلقه في اتخاذ الأنداد معه، وصرف العبادة لهم، وإن اعتقاد تصرفهم في شيء من ملكوته تشبيه للمخلوق بالخالق، كما أن تمثيل صفاته تعالى بصفات خلقه تشبيه للخالق بالمخلوق، وكِلا التشبيهين كفر بالله عز وجل أقبح الكفر، وقد نَزَّه الله تعالى نفسه عن ذلك كله في كتابه"
(3)
.
ويقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله- في
(1)
انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (94 - 95).
(2)
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/ 322).
(3)
معارج القبول (1/ 364).