الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوجب الله من الأقوال والأعمال المعلومة من الدين بالضرورة والإجماع؛ كوجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، وبر الوالدين، والنطق بالشهادتين، ونحو ذلك.
أما الأقوال والأعمال والاعتقادات التي تضعف التوحيد والإيمان، تنافي كماله الواجب فهي كثيرة ومنها: الشرك الأصغر؛ كالرياء، والحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشاء فلان أو هذا من الله ومن فلان ونحو ذلك، وهكذا جميع المعاصي كلها تضعف التوحيد والإيمان، وتنافي كماله الواجب، فالواجب الحذر من جميع ما ينافي التوحيد والإيمان، أو ينقص ثوابه، والإيمان عند أهل السُّنَّة والجماعة قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
دلت على صحة القاعدة أدلة عديدة، أفادت تفاضل المؤمنين في إيمانهم وتوحيدهم، بحسب ما يقوم بهم من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة؛ من اعتقادات القلوب وأعمالها، وكذا أعمال الجوارح، ومنها ما يلي:
1 -
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32].
فالله عز وجل قسم المؤمنين في هذه الآية إلى ثلاثة أقسام ووعدهم جميعًا بالجنة، وذلك بحسب تحقيقهم للتوحيد والإيمان؛ فأولهم الظالم لنفسه بالمعاصي والإصرار عليها، والثاني القائم بالواجبات والمنتهي عن
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 58 - 59).
المحرمات، والثالث الحريص على الخيرات والطاعات، التارك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
يقول ابن الأثير في أقسام المذكورين في الآية: "وهذه قسمة صحيحة؛ فإنه لا يخلو أقسام العباد من هذه الثلاثة؛ فإما عاص ظالم لنفسه، وإما مطيع مبادر إلى الخيرات، وإما مقتصد بينهما"
(1)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "فالقول الجامع أن الظالم لنفسه: هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، والمقتصد: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، والسابق بالخيرات: بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "وهذا التقسيم لأمة محمد فالظالم لنفسه: أصحاب الذنوب المصرون عليها، ومن تاب من ذنبه؛ أي: ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين، والمقتصد: المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات: هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات، ومن تاب من ذنب؛ أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين"
(3)
.
وقال الحافظ ابن كثير مبينًا تفاوت الناس في تحقيق التوحيد: "ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}: وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات"
(4)
.
(1)
المثل السائر لابن الأثير (2/ 287).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 161).
(3)
مجموع الفتاوى (11/ 183).
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 555 - 556).
ويقول الشيخ السعدي: "وهم هذه الأمة؛ فمنهم ظالم لنفسه بالمعاصي التي هي دون الكفر، ومنهم مقصد مقتصر على ما يجب عليه تارك للمحرم، ومنهم سابق بالخيرات؛ أي: سارع فيها واجتهد فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض المكثر من النوافل التارك للمحرم والمكروه، فكلهم اصطفاه الله تعالى لوراثة هذا الكتاب وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته حتى الظالم لنفسه فإنه ما معه من أصل الإيمان وعلوم الإيمان وأعمال الإيمان من وراثة الكتاب؛ لأن المراد بوراثة الكتاب وراثة علمه، وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه"
(1)
.
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وأظهر الأقوال في المقتصد والسابق والظالم، أن المقتصد: هو من امتثل الأمر واجتنب النهي ولم يزد على ذلك، وأن السابق بالخيرات: هو من فعل ذلك وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات خوفًا من أن يكون سببًا لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] والعلم عند الله تعالى"
(2)
.
وقال الشيخ حافظ الحكمي: "فقسم تعالى الناجين منهم إلى مقتصدين: وهم الأبرار أصحاب اليمين الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك ولم ينقصوا منه، وإلى سابق بالخيرات: وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وتركوا ما لا بأس به خوفًا مما به بأس، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به وبصرهم الذي يبصرون به إلى آخر معنى الحديث السابق، فبه يسمعون، وبه يبصرون،
(1)
تفسير السعدي (ص 689).
(2)
أضواء البيان (1/ 417)، (5/ 490).
وبه يبطشون، وبه يمشون، وبه ينطقون، وبه يعقلون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وأما الظالم لنفسه ففي المراد به عن السلف الصالح قولان: أحدهما أن المراد به الكافر
…
والقول الثاني أن المراد به عصاة الموحدين؛ فإنهم ظالمون لأنفسهم ولكن ظلم دون ظلم لا يخرج من الدين، ولا يخلد في النار
…
فإذا كان هذا التفاوت بين أتباع الرسل فكيف تفاوت ما بينهم وبين رسلهم"
(1)
.
والصحيح من القولين هو أن الظالم لنفسه من المؤمنين، لكنه مستحق للوعيد ومتوعد بالعذاب، ولا يعني هذا خروجه عن الإيمان أو نقضه للتوحيد، فإن المعاصي تعارض كمال التوحيد وتمامه الواجب، وهذا ما رجحه جمع من المحققين.
يقول الإمام ابن تيمية: "وقد تقدم أن ظلم الإنسان لنفسه يدخل فيه كل ذنب كبير أو صغير مع الإطلاق، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] فهذا ظلم لنفسه مقرون بغيره فلا يدخل فيه الشرك الأكبر"
(2)
.
ويقول الحافظ ابن كثير: "والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة"
(3)
.
وهذا ما رجحه الإمام الطبري حيث يقول: "فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته، وأما الظالم لنفسه فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله جنات عدن يدخلونها، فعم بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
(1)
معارج القبول، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي (3/ 1008 - 1009).
(2)
مجموع الفتاوى (77/ 79).
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 77).
فإن قال قائل: فإن قوله يدخلونها إنما عنى به المقتصد والسابق، قيل له وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل، فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد. قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عدن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا، وظلمه نفسه فيها بالنار، أو بما شاء من عقابه ثم يدخله الجنة، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] "
(1)
.
2 -
ومما يدل على تفاوت الناس وتفاضلهم بحسب تحقيقهم للتوحيد والإيمان، وبحسب ما يقوم بقلوبهم من العلم واليقين: ما رواه البخاري عن سهل قال: (مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا، قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال ثم سكت فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا، قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)
(2)
.
يقول الإمام ابن تيمية: "فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة، تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قدثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)، فصار واحد من الآدميين خيرًا من ملء
(1)
تفسير الطبري (22/ 136 - 137).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب: الأكفاء في الدين (5/ 1958)، رقم (4803).