الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القربات المستحبة، والناس في هذا على درجات متفاوتة"
(1)
.
هذا ما وقفت عليه من أقوال لأهل العلم في بيان درجات تحقيق التوحيد، وبيان تفاوت أهل الإيمان والتوحيد فيه على درجات عظيمة لا يعلم قدرها إلا الله تبارك وتعالى.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
الفائدة الأولى: أن الأنبياء والمرسلين هم أعظم الناس تحقيقًا للتوحيد، خاصة أولو العزم منهم، وفي مقدمتهم الخليلان محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام والناس بعدهم يتفاوتون بين مقل ومكثر بحسب ما يقوم بقلوبهم من هذا التحقيق.
يقول الإمام ابن تيمية: "إن الخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدًا، فلا يجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أكمل توحيدًا من نبي من الأنبياء فضلًا عن الرسل، فضلًا عن أولي الحزم، فضلًا عن الخليلين، وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية، وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلًا، بل يبقى العبد مواليًا لربه في كل شيء، يحب ما أحب، ويبغض ما أبغض، ويرضى بما رضي، ويسخط بما سخط، ويأمر بما أمر وينهى عما نهى"
(2)
.
ثم يأتي من بعد هؤلاء الأنبياء والمرسلين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم والصلاح من أمته، فهم أولى الناس بهذا التحقيق، إذ هم الأسعد بمعرفة التوحيد ومعرفة حقيقته وفضله ومكانته.
(1)
قواعد ومسائل في توحيد الإلهية، وانظر: المفيد على كتاب التوحيد (ص 20 - 21).
(2)
منهاج السُّنَّة النبوية (5/ 355).
يقول الإمام ابن كثير في بيان معنى السابقين بالخيرات بتحقيقهم لكمال التوحيد: "فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة وأولى الناس بهذه الرحمة"
(1)
.
الفائدة الثانية: أن المحققين لكمال التوحيد لا تبقى معهم ذنوب، بحيث يحفظهم الله تعالى، ويصرف عنهم المعاصي والذنوب، وإن وقعوا فيها فإن الله يوفقهم إلى المسارعة إلى التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لأنهم بلغوا من محبة الله تعالى الشيء العظيم بحيث لا يبقى في قلوبهم محبوب سوى الله تعالى وسوى ما يحبه الله.
يقول شيخ الإسلام: "وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]، فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]، وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه حرمه الله على النار"
(2)
، فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 557).
(2)
لم أقف على لفظ الحديث كما ذكره الشيخ، وأصله في الصحيحين بألفاظ مقاربة، وجميع ألفاظ الحديث على كثرتها يؤيد بعضها بعضًا. [صحيح البخاري:(1/ 59) برقم (128)، وصحيح مسلم (1/ 61) برقم (32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].
يقول أبو جعفر الكتاني: "قلت: الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وألفاظها مختلفة، ففي بعضها كما ذكر، وفي بعضها: (دخل الجنة)، وفي بعضها: (حرم الله عليه النار)، وما أشبه هذا؛ منها حديث الصحيحين عن عتبان بن مالك: "أن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"، وحديثهما أيضًا عن أنس: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله =
من القائلين لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "ولكن ينبغي أن يعلم ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح، وتعلقها بها، وإلَّا لم يفهم مراد الرسول، ويقع الخلط والتخبيط، فاعلم أن هذا النفي العام للشرك: أن لا يشرك بالله شيئًا ألبتة لا يصدر من مصرٍ على معصية أبدًا، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمُصِر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئًا؛ هذا من أعظم المحال، ولا يلتفت إلى جدلي لا حظ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى؛ يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فرض ذلك واقعًا لم يلزم منه محال لذاته.
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمسًا في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه، إن كان له عقل؛ فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب، فيورثه خوفًا من غير الله تعالى، وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله.
وهذا حقيقة الشرك؛ نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل، وعباد
= على النار"، وحديثهما أيضًا عن عبادة بن الصامت واللفظ لمسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرم الله عليه النار"، وحديثهما أيضًا عن ابن مسعود: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، وحديث البخاري عن أبي هريرة: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه"، وحديث البزار بإسناد صحيح عن عمر مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة"، وحديثه أيضًا بسند رجاله ثقات عن أبي سعيد: "من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة" إلى غير ذلك". [نظم المتناثر (ص 39)].
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 260).
الأصنام، وهو توحيد الربوبية، وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين.
والمقصود أن من لم يشرك بالله شيئًا يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا، مصرًا عليها، غير تائب منها، مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب، والخضوع، والذل، والخوف، والرجاء للرب تعالى"
(1)
.
ويقول الإمام ابن رجب: "ما يحتاج إلى التطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه"
(2)
.
ويقول رحمه الله: "فإذا تحقَّق القلبُ بالتَّوحيد التَّامَ، لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يُحبُّه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك، لم تنبعثْ جوارحُهُ إلّا بطاعة الله، وإنَّما تنشأ الذُّنوب من محبَّة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يُحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النَّفس على محبَّة الله وخشيته، وذلك يقدحُ في كمال التَّوحيد الواجبِ، فيقعُ العبدُ بسبب ذلك في التَّفريط في بعض الواجبات، أو ارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأَمَّا من تحقَّق قلبُه بتوحيدِ الله، فلا يبقى له همٌّ إلا في الله وفيما يُرضيه به"
(3)
.
ويقول المناوي: "التوحيد المحض الخالص عن شوائب الشرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب فلو لقي الموحد المخلص ربه بقراب الأرض خطايا قابله بقرابها مغفرة؛ فإن نجاسة الذنوب عارضة والدفع لها قوي فلا تثبت معه خطيئة"
(4)
.
وعليه فليس من شرط المحقق للتوحيد ألا يقع في المعاصي أبدًا،
(1)
مدارج السالكين (1/ 326 - 327)، وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 64).
(2)
كلمة الإخلاص (ص 39).
(3)
جامع العلوم والحكم (ص 366).
(4)
فيض القدير (3/ 388).
بل قد تحصل منه بعض الذنوب ولكنه سرعان ما يؤوب وينيب ويرجع إلى ربه تبارك وتعالى بالتوبة والاستغفار.
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: "إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا فإنهمٍ يتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 135] "
(1)
.
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 96).