الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
المسألة الثانية * معنى القاعدة
دلت القاعدة على أن حقائق الأشياء ومعانيها اللغوية أو الشرعية لا تتغير بتغير الألفاظ والأسماء، كما أن الأحكام الشرعية مرتبطة بالحقائق والمعاني، فمتى ما وجدت الحقيقة وجد الحكم بغض النظر عن اختلاف الأسماء وتنوع الألفاظ؛ إذ الأسماء عرضة للتغيير حسب الأزمنة والأمكنة وأعراف الناس، وهذا أمر مشاهد بين الناس ولا ينكره منكر.
يقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله: "فمن صرف لغير الله شيئًا من أنواع العبادة فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهًا، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فرَّ من تسمية فعله ذلك تألهًا وعبادة وشركًا، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسماءها
…
فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنًا مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلًا، وتشفعًا، وتعظيمًا للصالحين، وتوقيرًا لهم، ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
المتأمل في النصوص الشرعية يجد فيها تقرير وتكرير ما دلت عليه القاعدة من كون العبرة بالحقائق وليست بالألفاظ، وأن الأحكام دائرة مع الحقائق وإن اختلفت الألفاظ، وفيما يأتي أذكر بعض ما ظهر لي من أدلة تصلح للاحتجاج للقاعدة:
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 143 - 144).
أولًا: النصوص الدالة على حرمة التحايل على المحرمات الذي هو فعل اليهود وصفتهم الغالبة، ومن ذلك:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ"
(1)
.
وقد جاء فعل اليهود في تحايلهم على تحليل الشحوم التي حرمها الله عليهم، ففي "الصحيحين" عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ - رضي الله تعالى عنهُ - يَقُولُ: قاتَلَ الله فُلانًا ألَم يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لَعَنَ الله اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوها فَبَاعُوهَا"
(2)
.
ولا شك أن تغيير الألفاظ الشرعية التي لها دلالات معينة، وحقائق ثابتة، ومن ثم تسميتها بأسماء أخرى مألوفة وغير منفرة من أجل إباحتها وتجويزها من أعظم الحيل المحرمة.
ووجه الشاهد من هذه الأدلة: أنه لو كان مجرد تغيير الاسم واللفظ يؤثر في تغيير المعنى والمضمون لما حُرِّمَت الحيل أصلًا؛ لأنَّه بتغيير الاسم واللفظ سيتغير المعنى وينتقل إلى حقيقة أخرى غير الحقيقة الأولى، وعندها فلا مانع من أن يكون للحقيقة الثانية حكم آخر يختلف عن الأول. لكن مع تحريم هذا الصنيع دلالة على أن تغيير اللفظ والاسم
(1)
رواه الإمام ابن بطة في: إبطال الحيل (ص 47)، ويقول الإمام ابن تيمية عقب ذكره للحديث:"هذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة، ومحمد بن مسلم المذكور مشهور ثقة، ذكره الخطيب في تاريخه كذلك، وسائر رجال الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى وصفهم، وقد تقدم ما يشهد لهذا الحديث من قصة أصحاب السبت". الفتاوى الكبرى (3/ 123)، وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 29)، وحسَّنه الإمامان: ابن القيم وابن كثير. انظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/ 244)، وتفسير ابن كثير (1/ 108).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3/ 1275)، برقم (3273)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (3/ 1207)، برقم (1582).
لا يغير في الحقيقة شيئًا، بل هي باقية والحكم يدور معها وجودًا وعدمًا لا مع الاسم واللفظ.
يقول الإمام ابن القيم معلِّقًا على حيلة اليهود في الشحوم: "وجملوها: يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك؛ ليزول عنها اسم الشحم ويحدث لها اسم آخر وهو الوَدَك
(1)
، وذلك لا يفيد الحِلَّ؛ فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لم تتبدل بتبدل الاسم"
(2)
.
فاليهود لعنوا لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، كما أنه لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها؛ فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك
(3)
.
ومما يدل على صحة القاعدة مما هو داخل في حكم الحيل أيضًا: ما جاء عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أناسًا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها"
(4)
، وفي رواية عند الدارمي من طريق عائشة رضي الله عنها:"يسمونها بغير اسمها فيستحلونها"
(5)
؛ يعني: الخمر.
(1)
الوَدَك: بفتحتين، هو دسم اللحم والشحم ودهنه الذي يستخرج منه، أو يستحلب منه. [انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 168)، والمصباح المنير (2/ 653)، والمعجم الوسيط (2/ 1022)].
(2)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/ 244)، وانظر: فيض القدير (5/ 391).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 112).
(4)
أخرجه أحمد في المسند (4/ 237)، برقم (18098)، وابن حبان في صحيحه (15/ 160)، برقم (6758)، وأبو داود في سننه (3/ 329)، برقم (3688)، من طريق أبي مالك الأشعري، والحديث ذكره الشيخ الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 701)، برقم (414)، وقال عقبه:" قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الستة، وجهالة اسم الصحابي لا تضر، كما في المصطلح تقرر". [المرجع نفسه].
(5)
سنن الدارمي (2/ 155)، برقم (2100)، وحسَّنه الألباني، وله شاهد. [انظر: =
يقول الشيخ السندي رحمه الله: " (يسمونها بغير اسمها): قاله في محل
الذم، فيدل على أن التسمية والحيلة لا تجعلان الحرام حلالًا"
(1)
.
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: "التسمية لا حكم لها، ولا تتغير حقيقة الشيء بتغير الاسم كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه يأتي ناس من أمتي يسمون الخمر بغير اسمها"، وكذا من سمى الزنا نكاحًا، فالتسمية لا تزيل الاسم ولا الحكم؛ ومن عامل معاملة ربوية فهو مرابي وإن لم يسمه ربًا، فكذا من ارتكب شيئًا من الأمور الشركية فهو مشرك وإن سمى ذلك توسلًا وتشفعًا ونحوه"
(2)
.
ولا شك أن إبليس قد سبق اليهود عليهم لعائن الله على هذا المنهج المنحرف، إذ هو قائدهم الأول، وإمامهم الأعظم في التلبيس والتدليس والكذب على الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام الصنعاني: "وأول من سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس لعنه الله، فإنه قال لأبي البشر آدم عليه السلام:{يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، فسمى الشجرة التي نهى الله تعالى آدم عن قربانها - غرورًا وتدليسًا - بالاسم الذي اخترعه لها، كما يسمي إخوانه المقلدون له الحشيشة بلقمة الراحة، وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلمًا وعدوانًا: أدبًا، فيقولون: أدب القتل، أدب السرقة، أدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب، كما يحرفونه في بعض المقبوضات إلى سم (النفاعة)، وفي بعضها إلى اسم (السياقة)، وفي بعضها أدب المكاييل والموازين.
= السلسلة الصحيحة (1/ 134)، رقم (89)].
(1)
حاشية السندي (8/ 3139).
(2)
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس (ص 94).
وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما يعرفه من شم رائحة الكتاب والسُّنَّة، وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد"
(1)
.
ثانيًا: إنكاره سبحانه وتعالى على المشركين تسمية أصنامهم وأوثانهم بأنهم آلهة، وأنها مجرد أسماء لا حقيقة لها، ولا نصيب لها من خصائص الإلهية شيء البتة، وهذا الإنكار من الله تعالى عليهم يدل على أن العبرة بحقائق الأشياء وما هي عليه من الصفات الثابتة، أما مجرد إطلاق الأسماء والألفاظ على ما هو عار وخواء من الحقائق والمعاني التي دلت عليها الألفاظ فلا اعتبار له، كما أن هذا التغيير في الألفاظ والأسماء لا أثر له في تغيير الحقائق البتة.
وعليه فهذه الأصنام والأوثان حقيقتها أنها حجارة، وهؤلاء المعبودون غايتهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، بل وأموات قد استحالوا ترابًا ورفاتًا، فمهما بالغوا في تعظيمهم، وإلباسهم لباس العزة، وتسميتهم بأسماء العظمة، ووصفهم بأخص خصائص الإلهية، لم تكن سوى أسماء جوفاء، وألفاظ عارية فقيرة، متناقضة غاية التناقض مع حقيقة الحال.
يقول الإمام ابن تيمية: "ومن هذا الباب تسمية المعبودين آلهة، سموها بما لا تستحقه، كما يسمى الجاهل عالمًا، والعاجز قادرًا، وِالكذاب نبيًّا فلهذا قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] "
(2)
.
وقال أيضًا: "أخبر سبحانه أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها، لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدودن أسماء لا مسميات لها؛
(1)
تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد (ص 108)، بتعليق الشيخ: علي آل سنان.
(2)
النبوات (ص 200).
لأنه ليس في المسمى من الألوهية، ولا العزة، ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطانًا بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظنًا لا يغني من الحق شيئًا في أنها آلهة تنفع وتضر "
(1)
.
ويقول الشيخ السعدي في معنى قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71]: "أي: كيف تجادلون على أمور لا حقائق لها، وعلى أصنام سميتموها آلهة، وهي لا شيء من الإلهية فيها، ولا مثقال ذرة"
(2)
.
ثالثًا: قصة ذات أنواط التي حدثت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
إلى خيبر فمر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سُنَّة من كان قبلكم"
(3)
.
فلم يكن استبدالهم للفظ الآلهة بذات أنواط مؤثرًا ما دامت الحقيقة واحدة في كلتا الصورتين، فدل ذلك على أن الحقائق لا تتغير وإن تغيرت الأسماء والألفاظ.
يقول الشيخ سليمان آل الشيخ عقب ذكره للقصة: "وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه؛ كمن يسمي دعاء الأموات، والذبح لهم، والنذر، ونحو ذلك تعظيمًا ومحبة فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه وقس على ذلك"
(4)
.
(1)
مجموع الفتاوى (2/ 259).
(2)
تفسير السعدي (ص 294).
(3)
سبق تخريجه في (ص 233)، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
(4)
تيسير العزيز الحميد (ص 142).