الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
المسألة الثانية* أدلة القاعدة
بعد التأمل لكلام أهل العلم فيما يتعلق بهذه القاعدة ظهر لي عدد من الأدلة التي تصلح للاستدلال على صحة القاعدة، ومن تلك الأدلة ما يلي:
أولًا: قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
وجه الدلالة: أن التعبد إلى الله تعالى بظاهر الفعل النبوي الذي لم يقصد به النبي صلى الله عليه وسلم التعبد ولا نيل القربة من الله تعالى يعتبر من المشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم المتابعة له، إذ المتابعة لا بد فيها من الإتيان بظاهر الفعل مع الموافقة في القصد والنية.
كما أن الذي يتعبد الله تعالى بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله على جهة العادة والجبلة، وليس له فيه أي نية أو قصد للتعبد أنه متبع لغير سبيل المؤمنين؛ لأن جمهور الصحابة رضي الله عنهم لم يتعبدوا لله تعالى إلا بما ثبت عن نبيهم عليه السلام أنه فعله على جهة القربة وقصد التعبد، ويدل على ذلك:
ثانيًا: ما جاء عن المعرور بن سويد قال: (خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) و (لإيلاف قريش)، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون، فقال: ما هذا؛ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل)
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 151)، برقم (7550)، وعبد الرزاق في =
وجه الدلالة: أنه لما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمكنة حصلت بحكم الاتفاق، ولم يقصد صلى الله عليه وسلم ذات هذه الأمكنة بعبادة تخصها رأى عمر أن مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في صورة العمل دون الموافقة له في القصد والنية ليست من الاتباع والتأسي في شيء، بل جعل ذلك من المشابهة لليهود والنصارى الذين اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد.
يقول الإمام ابن تيمية: "فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب، وهذا هو الأصل؛ فإن المتابعة في السُّنَّة أبلغ من المتابعة في صورة العمل"
(1)
، ويوضحه:
ثالثًا: أن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به المعتبران شرعًا
(2)
، إنما يكونان بالاقتداء به وموافقته في صورة العمل الظاهرة مع المشاركة له في القصد والنية، أما مجرد الموافقة الظاهرية بدون المشاركة في النية فلا يعد من المتابعة ولا التأسي في شيء، وعليه فما كان من الأفعال عبادة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقصد به التعبد صار عبادة في حق أمته، وما تركه تعبدًا صار تركه في حق أمته عبادة.
= مصنفه (2/ 118)، برقم (2734)، والهندي في كنز العمال (14/ 77)، برقم (38278)، والبدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 87)، وقال الألباني: وسنده صحيح على شرط الشيخين، تحذير الساجد (ص 97)، وأشار إلى صحة إسناده ابن تيمية، مجموع الفتاوى (1/ 281)، وصحح إسناده شيخنا عبد المحسن العباد في رسالته: التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة (ص 12).
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 281).
(2)
اتباعه صلى الله عليه وسلم عمومًا هو: الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به؛ اعتقادًا وقولًا وفعلًا. [انظر: تفسير البحر المحيط، لأبي حيان (4/ 402)].
يقول الإمام ابن تيمية: "فعلم أنه لا بد في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار القصد والنية؛ فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"
(1)
.
ويستطرد الآمدي مفصلًا وشارحًا لمسألة المتابعة والتأسي بأفعال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "المقدمة الثانية: في معنى التأسي والمتابعة والموافقة والمخالفة؛ إذ الحاجة داعية إلى معرفة ذلك فيما نرومه من النظر في مسائل الأفعال.
أما التأسي بالغير فقد يكون في الفعل والترك.
أما التأسي في الفعل: فهو أن تفعل مثل فعله على وجهه، من أجل فعله.
فقولنا: (مثل فعله)؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل كالقيام والقعود.
وقولنا: (على وجهه): معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف الفعلين في كون أحدهما واجبًا والآخر ليس بواجب، وإن اتحدت الصورة.
وقولنا: (من أجل فعله)؛ لأنه لو اتفق فعل شخصين في الصورة والصفة ولم يكن أحدهما من أجل الآخر كاتفاق جماعة في صلاة الظهر مثلًا، أو صوم رمضان اتباعًا لأمر الله تعالى؛ فإنه لا يقال بتأسي البعض بالبعض.
وعلى هذا فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي؛ وسواء تكرر أو لم يتكرر؛ إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به؛ كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها.
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 475)، وانظر:(17/ 486).
وأما التأسي في الترك: فهو ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر من الأفعال على وجهه وصفته؛ من أجل أنه ترك.
وأما المتابعة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل والترك؛ فاتباع القول: هو امتثاله على الوجه الذي اقتضاه القول.
والاتباع في الفعل: هو التأسي بعينه.
وأما الموافقة: فمشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول، أو فعل، أو ترك، أو اعتقاد، أو غير ذلك؛ وسواء كان ذلك من أجل ذلك الآخر، أو لا من أجله.
وأما المخالفة: فقد تكون في القول، وقد تكون في الفعل والترك، فالمخالفة في القول: ترك امتثال ما اقتضاه القول.
وأما المخالفة في الفعل: فهو العدول عن فعل مثل ما فعله الغير مع وجوبه؛ ولهذا فإن من فعل فعلًا ولم يجب على غيره مثل فعله لا يقال له: إنه مخالف في الفعل بتقدير الترك؛ ولذلك لم تكن الحائض مخالفة بترك الصلاة لغيرها"
(1)
.
ويقول أبو الحسين البصري
(2)
: "أما التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون في فعله، وفي تركه؛ أما التأسي به في الفعل: فهو أن نفعل صورة ما فعل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل، والتأسي في الترك: هو أن نترك مثل ما ترك، على الوجه الذي ترك، لأجل أنه ترك، وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو صام وصلينا لم نكن متأسين
(1)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 226 - 227)، (بتصرف).
(2)
هو: محمد بن علي الطيب، أبو الحسين، البصري: أحد أئمة المعتزلة، ولد في البصرة، وسكن ببغداد، قال الخطيب البغدادي:(له تصانيف وشهرة بالذكاء والديانة على بدعته)، وكان يقرئ الاعتزال ببغداد وله حلقة كبيرة، من كتبه: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وشرح الأصول الخمسة، توفي سنة 436 هـ. [ترجمته في: العبر في خبر من غبر (3/ 189)، والأعلام للزركلي (6/ 275)].
به، وأما الوجه الذي وقع عليه الفعل فهو الأغراض والنيات، فكل ما عرفناه أن غرض في الفعل اعتبرناه، ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل، ألا ترى أنه لو صام واجبًا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به، وكذلك لو تطوع بالصوم فافترضنا به، وإذا لم يكن له في الفعل غرض مخصوص لم يجب اعتباره؛ لأنه لو أزال النجاسة لا لأجل الصلاة لم يجب إذا تأسينا بها في إزالتها أن ننوي به ذلك، وقد يدخل المكان والزمان في الأغراض، وقد لا يدخلان فيه، فمتى علمنا كونهما غرضين اعتبرناهما وإلا لم نعتبر؛ أمثال ذلك: الوقوف بعرفة، وصوم شهر رمضان، وصلاة الجمعة.
وإنما شرطنا أن نفعل الفعل لأنه صلى الله عليه وسلم لو صلى فصلى مثل صلاته رجلان من أمته؛ لأجل أنه صلى لوصف كل واحد منهما بأنه متأس به صلى الله عليه وسلم، ولا يوصف كل واحد منهما بأنه متأسٍ بالآخر"
(1)
.
ويقول أبو بكر الجصاص في معنى التأسي به صلى الله عليه وسلم: "لأن التأسي به: هو أن نفعل مثل ما فعل، ومتى خالفناه في اعتقاد الفعل، أو في معناه لم يكن ذلك تأسيًا به؛ ألا ترى أنه إذا فعله على الندب وفعلناه على الوجوب كنا غير متأسين به، وإذا فعل صلى الله عليه وسلم فعلًا لم يجز لنا أن نفعله على اعتقاد الوجوب فيه حتى نعلم أنه فعله على ذلك، فإذا علمنا أنه فعله على الوجوب لزمنا فعله على ذلك الوجه"
(2)
.
ويقول الشاطبي: "والتأسي: إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله"
(3)
.
رابعًا: ومما يدل على صحة القاعدة: أن التقرب إلى الله بفعله صلى الله عليه وسلم الذي فعله بدافع الجبلة والعادة، ولم يفعله تعبدًا لله تعالى يؤدي
(1)
انظر: المعتمد (1/ 343)، بتصرف.
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 224).
(3)
الموافقات (4/ 247).
بلا شك إلى تبديل الشريعة، واعتقاد ما ليس بعبادة أنه عبادة، وما ليس بسنَّة أنه سُنَّة، ويجري الأمر في جانب الترك كذلك، فيعتقد فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم على جهة العادة أو العرف أنه عبادة يتقرب إلى الله بها، ولا شك أن هذا من أعظم أسباب الولوج في البدع، وعمله مردود عليه.
يقول الإمام ابن تيمية في مسألة النذر بالمباحات: "كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها، والتقرب، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال جاهل، مخالف لأمر الله ورسوله، ومعلوم أن من يفعل ذلك من نذر اعتكافًا ونحو ذلك إنما يفعله تدينًا، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام؛ فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربة، ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله، وهذا حرام، لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه فقد يكون معذورًا بجهله إذا لم تقم عليه الحجة فإذا بلغه العلم فعليه التوبة"
(1)
.
ويقول أيضًا فيما يتعلق بالسفر إلى القبور بقصد العبادة: "والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعًا مخالفًا للإجماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر، فإذا بينت له السُّنَّة لم يجز له مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التعبد بما نهى عنه"
(2)
.
ويقول ابن رجب: "فأما العبادات فما كان منها خارجًا عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
(1)
مجموع الفتاوى (25/ 293).
(2)
المصدر نفسه (27/ 335 - 336).